شيء يثلج الصدر ان يضيف "تايتانيك" الملايين التي يجمعها من الايرادات الأميركية والعالمية. والحقيقة ان الفيلم يستأهل مثل هذا الاقبال الكبير الذي يحظى به، وجيمس كاميرون يستحق النجاح بعد كل الاصرار على تحقيق الفيلم بصرف النظر عن مصاعبه وتكلفته… أو ان الفيلم ليس من اخراج ستيفن سبيلبرغ! مباشرة بعد اعلان ترشيحه الى 14 جائزة أوسكار، شهد الفيلم ارتفاعاً في ايرادات الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع التاسع لعرضه قدره 23 في المئة عن الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع الثامن، محافظاً على المركز الأول منذ خروجه الى العروض قبيل نهاية العام الماضي من دون ان يتمكن أي فيلم جديد من زحزحته عنه. نجاح "تايتانيك" مشهود، لأنه بالاضافة الى شعبيته التي لا تتوقف فيلم جيد على أكثر من نحو. لكن بينما كان الفيلم ينصرف لاثبات ان الحديث عن الباخرة السياحية التي غرقت في العام 1912 مفيد وإن ما صرف فيه 200 مليون دولار قبل الاعلانات يبدو اليوم كما لو كان مثل "البخشيش" الذي يتركه على الطاولة منتج أميركي… كان فيلم آخر عن باخرة أخرى يصطدم بأمواج عاتية. انه "أميستاد" الذي بوشر بعرضه قبل أسبوع واحد من "تايتانيك" وتكلف نحو 45 مليون دولار وجلب حتى الآن 42 مليون دولار، أي انه بحاجة الى ضعفيها قبل ان يبدأ بتسجيل أرباحه. الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك، اذا أمكن، هو ان يقبل الأوروبيون على الفيلم الذي أراده سبيلبرغ مختلفاً عن معظم أعماله السابقة… كإقبالهم على مظعم تلك الأعمال. انه ليس فيلماً "تجارياً" في الشكل، لكن في المضمون فقط. مثل "لائحة شيندلر"، هناك وضع انساني عام يحاول المخرج تجييره لحسابه وتوفير رحلة سياحية في ركابه. لكن سبيلبرغ والموضوع اليهودي يتآلفان أكثر من سبيلبرغ وموضوع السود الأميركيين. حدث ذلك مع "اللون الأرجواني" في مطلع الثمانينات عندما انبرى سبيلبرغ لتحقيق فيلم مأخوذ عن مذكرات وضعتها امرأة نالت الأمرين من زوجها القاسي. مفاد الفيلم، كما وجده سبايك لي والمثقفون السود عموماً، هو ان الانسان الأميركي الأسود يعامل ابن بشرته بقسوة وظلم ما يجعل أمر مطالبته بمعاملة مماثلة من الأبيض مسألة غريبة، بل شاذة. الفيلم سقط تجارياً وسقط أيضاً من حسبان أعضاء أكاديمية العلوم والفنون المهنية التي رشحته الى 12 أوسكاراً لكنه خسرها جميعاً باستثناء واحد ثانوي. الآن نجد ان "أميستاد" مرشح أيضاً الى 4 جوائز أوسكار في مقابل 14 لپ"تايتانيك" والأغلب انه سينال منها واحدة ثانوية وربما جائزة أفضل أوسكار في دور مساند لأنطوني هوبكنز… ربما. بعض الدم المراق "أميستاد" ** من خمسة في الأساس لا يفعل شيئاً لكي يمحو ذاكرة "اللون الارجواني" ليس لأن موضوعه هو عن كيف عامل السود - السود، بل لأن موضوعه عن كيف كان البيض ممتازين في معاملتهم للسود. أو اذا أردت: كيف عومل "بعض" السود من قبل "بعض" البيض… ومن دون الحديث عن هذا البعض أو ذاك في المقابل. بداية الفيلم على سفينة لشحن العبيد في العام 1839، قبل 22 سنة من الحرب الأهلية الأميركية. أصحاب السفينة وقبطانها والملاحون والجلادون كلهم بيض، لكنهم بيض اسبان. وفي المشهد الأول نرى تمكن واحد من العبيد الپ53 الذين تتوجه بهم السفينة الى كوبا لبيعهم من فك قيوده وتحرير رفاقه ثم الهجوم على الملاحين وذبحهم. هنا يسمح سبيلبرغ لبعض العنف الذي يجعلك تتساءل عما اذا كان رمزاً للمفهوم الأبيض السائد الذي يربط بين سفك الدم، أو الذبح، وبين الشعوب الافريقية. طبعاً لم يكن من الممكن قتل البيض بالبنادق البدائية، بل من الطبيعي ان يعمد الافريقيون الى الخناجر والسيوف كما كانوا يفعلون عندما يغزون بعضهم بعضاً وفي الفيلم أشارتان الى ذلك. لكن هذا ليس مبرراً لكي نرى كيف يحز النصل عنق رجل أبيض ويسيل الدم على ذلك النصل الذي يقبض عليه رجل يبدو وكأن دافع الانعتاق حوله الى وحش كاسر. أي مخرج سليم النية كان يستطيع ان يجد أكثر من سبيل لتقديم مشهد التمرد على السفينة "اميستاد" على نحو خال من الأغراض الخاصة. أيام في البحر تمضي يعتقد فيها العبيد بأنهم في طريق عودتهم الى السواحل الافريقية، لكن الملاحين اللذين أبقيا على قيد الحياة وكانا يبحران في اتجاه القارة الأميركية معظم الوقت وما ان طالعتهما سفينة بيضاء يعتمرها جنود أميركيون حتى طلبوا نجدتهم وسيق السود الى السجن ومنه الى المحكمة بتهمة قتل ملاحي السفينة الاسبانية. ملكة اسبانية تريد محاكمتهم والحكم عليهم، السفير الاسباني لدى الولاياتالمتحدة يعين محامين لتنفيذ ذلك، ويقابل رئيس الولاياتالمتحدة حينها مارتن فان بورن نايجل هوثورن للضغط، لكن رجلين أبيض وأسود يوكلان محامياً أبيض ماثيو ماكوهوني للدفاع عن هذه المجموعة. المحاكمة الأولى تنتهي بتبرئة السود من تهمة القتل بعدما شرح المحامي المعاملة القاسية وغير الانسانية التي تلقاها هؤلاء وكيف انهم خطفوا من أوطانهم في اختراق سافر للقوانين التي بوشر بتطبيقها دولياً انكلتراً سنت قبل ذلك العام قانوناً يمنع التجارة بالرقيق. لكن الرئيس الأميركي تحت ضغط الاسبان وتحت ضغط سياسيين جنوبيين يهددون بحرب أهلية، يصدر أمراً باعادة المجموعة التي لا تتكلم الا نادراً وتبدو كأجزاء من الديكور في معظم المشاهد الى المحكمة من جديد. المحاكمة الثانية تقضي أيضاً بتبرئتهم، لكن هناك ثالثة أكبر حجماً مما يستطيع ان يجابهه وحده بانتظار المتهمين، ما يدفع المحامي الشاب الى الطلب من الرئيس الأميركي الأسبق جون كوينسي ادامز انطوني هوبكنز المرافعة عن هؤلاء… هنا تأخذ معالجة سبيلبرغ للموضوع بأسره منحى من التأليف التقليدي بالنسبة اليه كما بالنسبة الى السينما الهوليوودية بشكل عام. انها محاولة إقحام الموقف على الوسيلة، أو تقديم الحدث على انه الأهم من التبرير. لكن ماذا تفعل اذا كان الحدث - أصلاً - مزوراً؟ ليس لأن الأحداث الأساسية لم تقع السفينة ومن عليها والمحاكمات الخ… بل لأنه - وعلى سبيل المثال فقط - لم يكن هناك شخصية رجل أسود منعتق من العبودية هو تيودور الذي يقوم بدوره مورغان فريمان يعيش ضمن احترام محيطه ويعين وشريكه الأبيض محامياً شاباً للدفاع عن السود. عملية توازن وجود شخصية سوداء متحررة في مواجهة 53 "عبداً" معادلة سينمائية قصد بها التوازن بين وضعين متناقضين لكي تستخدم في الاشارة الى تقدم الأميركي - الافريقي على الافريقي - الافريقي بفضل من محيطه المنفتح والتحرر من العبودية. لا شيء خطأ هنا، لكن في الوسيلة بأسرها بعض السذاجة التي لا يقدر على ارتكابها ثم تمريرها الا سبيلبرغ. مثل ذلك الضابط الألماني في "لائحة شيندلر" راف فاينس الذي نراه يقتل يهوديين في سجنه، وللتأكيد على شره يصوره المخرج بعد ذلك مباشرة وهو يبول… كأنما يريد ان يقول لنا: يقتلون ثم يبولون بارتياح وبلا أدنى شعور بالذنب. لكن سبيلبرغ يستخدم مورغان فريمان بصورة أفضل قليلاً. في مشهد نراه يدخل سفينة "أميستاد" حيث كان يقبع العبيد مشدودين الى اغلالهم، ذلك التعبير الحزين والآسف الذي ارتسم على وجه مورغان بفضل قوته الهائلة في الاداء هو العذر الوحيد لقبول هذا المشهد الذي هو، بلغة كاتبي السيناريو "فرقعة" عاطفية اضافية. ثم تأتي خطوة سبيلبرغ الكبرى نحو الخيال. يريد "أميستاد" ان يقول لنا ان انتصار العدالة في تبرئة العبيد من السجن والموت كان السبب في الحرب الأهلية التي نشبت بين الشمال والجنوب بعد 22 سنة. وفي كل ما قرأته من كتب التاريخ لهذه الغاية لا يأتي ذكر مماثل ولا حتى بإيحاء… فإن مسألة ان تكون المحاكمة فجرت تلك الحرب بعد أكثر من عقدين تبدو اغراقاً في الخيال كما تؤدي الى تزوير في التاريخ. نعم لم ينظر الجنوبيون الى تلك المحاكمات ونتائجها بترحاب بسبب اصرارهم على سياسة امتلاك العبيد. لكن بعد 22 سنة، كانت هناك مسائل أهم بكثير من تلك المحاكمة أدت الى انفجار الوضع. لكن غاية الفيلم هي منح موضوعه جوهراً وأهمية حتى لو كانت مدعية. الى الآن عرفت سينما سبيلبرغ نوعين من الأفلام: مجموعة "اي تي" و"جيروسيك بارك" ومجموعة "لائحة شيندلر" و"انديانا جونز" وهذه تضم "اللون الارجواني" و"دائماً" و"امبراطورية الشمس" و"لائحة شيندلر" وهذا الفيلم بالتأكيد. الأولى درت المال والشهرة والكثير من القوة، والثانية حاولت تقديم سبيلبرغ كفنان أيضاً، والطريق في المجموعة الثانية كانت أصعب من الأولى لأن سبيلبرغ يمتلك حساً للسينما التجارية الناجحة ما يجعل محاولاته "الفنية" مملة وغير صادقة. في "لائحة شيندلر" بدا المزج مغلفاً بالكثير من العناصر التي تنطلق من أهمية المشروع بالنسبة الى مخرج يهودي يخرج للعلن ليكشف عن مكمن القلب ولو ان الناقد الذكي كان يستطيع ايجاد الرابط بين سبيلبرغ والهم اليهودي في أفلام كثيرة سابقة كما تقدم الحديث قبل ثلاث سنوات حين بوشر بعرض "شيندلر". لكن المتاجرة بالقضية لم تكن غائبة، أو في وصف أدق كانت مسألة توظيف القضية على نحو تجاري موجودة وممارسة. ما يحاول المخرج ان يحققه في "أميستاد" هو ان يبدو عملاً معادياً للرق. هذا جميل، فمن غير المعقول ان يكون هدفه اليوم أي شيء آخر.. لكن التركيز على هذه الغاية ليس موجوداً بقدر التركيز على كيفية سردها على نحو يجذب الجمهور الى العمل. وهذا ما يفتح باباً من الريب في كل جهد قام به سبيلبرغ في هذا المجال. وتبعاً لسيناريو أنشئ على ثلاث محاكمات وقليل من المشاهد بين كل محكمة وأخرى، فإن بيع التذاكر لهذا الفيلم ما كان ليتم حتى بحدود الپ42 مليون دولار لولا اسم سبيلبرغ ورغبة البعض بمشاهدة كيف يتعامل مخرج "لائحة شيندلر" مع الموضوع الأسود من بعد تعامله مع الموضوع اليهودي. يرى بعضهم ان سبيلبرغ يمشي في خطى انسانية محضة. لكن من يرى الفيلم في العمق يكتشف انه يحمل سياسة بيضاء أكثر بياضاً من مسحوق الغسيل. انهم البيض الأميركيون الذين حققوا العدالة لهؤلاء المعذبين، هم من انبرى مدافعاً عنهم ضد "بعض" البيض الاسبان. من هنا فإن شخصية تيودور فريمان تبدو الموازنة المقصودة حتى لا يبدو الفيلم نسخة حقيقية من المقصود الضمني. وتكفي النهاية للدلالة على ذلك: السفينة "أميستاد" تبحر بركابها السود بعد ان برئوا وأُطعموا وألبسوا ثياباً حقيقية عوض الأسمال التي جاؤوا بها، حاملة معها ذكرى الرجل الأبيض الجميل الذي أحق العدالة وأنقذ العبيد من التهلكة… في نهاية المطاف هذه قصة عن السود من وجهة نظر بيضاء تتحدث عن نفسها أكثر مما يهمها الحديث عن محنة غيرها.