يبدو ان النظرية الاجتماعية - السياسية التي تقول ان التحديات الخارجية تزيد عادة التضامن الداخلي لا تنطبق على الواقع العربي الحالي. على العكس تماماً، فما ان يبرز مثل هذه التحديات، حتى نشهد مزيداً من التفسخ في المجتمع العربي السياسي رغم الدعم الشعبي. هذا ما يتضح تدريجياً في علاقات الحكومات العربية في ما بينها في معالجة المشكلة العراقية التي خرجت عن حدود المعقول والمقبول ودخلت في ظلمة العنف التدميري العبثي. وبعد مرور اكثر من شهر على عملية "ثعلب الصحراء" التي تهدّد الادارة الأميركية بأن تعقبها عمليات اخرى، لا يزال كل طرف عربي يحمّل غيره وحده كل المسؤولية من دون أن يجد ضرورة لمناقشة الأحداث والتطورات للخروج بموقف موحد يوقف مسلسل الظلم الذي يعاني منه الشعب العراقي. وقد افتعل بعض العرب صعوبات تحد من القدرة على عقد اي قمة عربية مهما كانت الأزمات. من هنا ان القائلين بالحلول السلمية في علاقة العرب باسرائيل هم انفسهم القائلون بالحلول الحربية في علاقتهم بالعراق. وهذا ما يفسّر لماذا لم يعد للحكومات العربية أي شأن في تقرير مصير العرب حتى أصبحت الأمة والأوطان التي تتألف منها مطمعاً للأقوياء والضعفا، وكيف تحوّلت كيانات هزيلة لا حول لها ولا قوة سوى في قمع شعوبها ودخول في معارك جانبية ضد بعضها بعضاً. وهي لا تبدو قادرة على ادراك أنها بمقدار ما تتجاهل شعوبها وتتنازع في ما بينها، بمقدار ما تزداد احتمالات عدم الاستقرار والانهيار في المنطقة عامة وقد لا يسلم منها أحد. هذا تصرف غير مقبول بتاتاً ولا يمكن السكوت عنه. ولا بد من مواجهة حقائق وتساؤلات بالغة القسوة. وبين أكثر الحقائق قسوة ان قوى خارجية لا يعنيها من شأن العرب سوى انهم موضوع إحتواء واستغلال في مختلف جوانب حياتهم تتلاعب بمصيرهم. وطالما ان هذه الحكومات لم تعد معنية بتدهور شؤونها، فلا غرابة ان لم تظهر اهتماماً بالقضايا العربية الكبرى. وإذا اظهرت اهتماماً فيكون ذلك فقط للتنصل من مسؤولياتها او لاتهام غيرها بالمسؤولية عن المآسي التي تعاني منها الشعوب العربية. في هذا الزمن العربي التعس نجد ان عدداً من الحكومات العربية، ومنها حكومات قيادية، بين آخر بلدان العالم وعياً واهتماماً بالقضايا العربية الكبرى إلا من زاوية مصالحها الضيقة. هكذا يتمّ التعامل مع القضية الجزائرية او القضية الفلسطينية او القضية العراقية أو اية قضية عربية أخرى مهما بلغت أهميتها. ولذلك فليس غريباً الا نرى ضوءاً في نهاية أنفاق حياتنا المظلمة. الأمور تزداد سوءاً والشعوب لا تعرف كيف تخرج من دهاليز عجزها فليس من قيادات وحركات ومؤسسات تعمل من ضمنها على تغيير أوضاعها. تتحدث الحكومات عن ضرورة رفع المعاناة عن الشعب العراقي، ولكن بعضها لا يزال يتمسك بسياسة استمرار الحصار. شعب تحوّل الوعد بتحقيق فردوسه الأرضي الى تهديد بالزوال في جحيم لا يطاق. شعب يكابر، يتعالى على جروحه، يرفض الاسترحام، يخلق صورة لمستقبله من اضواء احتراقه، يأكل جوعه، يعايش موته وأمراضه، ويصغي علّه يسمع صوتاً عربياً مُطمئناً، يبحث معه عن حلول سلمية وعن وعدٍ ببزوغ أمل جديد. لم تحرك الاعتداءات الأخيرة على العراق ساكناً لدى هذه الحكومات بمقدار ما حرّكت في روسيا والصين واوروبا وافريقيا والأمم المتحدة. تساءلت وسائل الاعلام الأميركية عند قصف العراق ما هي ردات الفعل في روسيا وفرنسا والصين واسرائيل واليابان، ولم تظهر أي اهتمام لتسأل عن رد الفعل العربي، كأنما لا وجود للعرب. وفعلاً، يمكن التساؤل هل للعرب وجود أو تأثير في ما يحدث لهم؟ ومن هنا الصعوبات التي تعترض الحكومات العربية في الدعوة الى عقد قمة للنظر في هذه القضية التي تشغل العالم؟ كيف يمكن لحكومات عربية ان تكون بين آخر من يعنى بقضايا بلد عربي شقيق؟ هل هذا هو زمن الموت العربي؟ في المواجهة الأخيرة التي استمرت اربع ليال من الاعتداء الشرس ولا يبدو في الأفق من نهاية لمثل هذه الاعتداءات التي تعدنا الإدارة الأميركية بمزيد منها حين تشاء وبالوسائل التي تريد ومن دون الرجوع الى أية شرعية، تبين للعالم ان العراق يعيش بين موت الحصار وموت القصف الصاروخي، وليس هناك من دليل على ان هذه المواجهة لن تتكرّر في المستقبل وربما لزمن بعيد طالما يهيمن هذا السكون العربي البليد على حياتنا. وفي مثل هذه الأجواء لم يكن غريباً ان يقول مسؤول أميركي اعتاد الا يقيم حساباً للمصالح والمشاعر العربية في صحيفة "واشنطن بوست" في 16/12/1998: "اذا كان شهر رمضان لم يمنع العرب من مهاجمة اسرائيل عام 1973، فلماذا يمنعنا من مهاجمة العراق في هذا الوقت"؟ هذا تماماً ما فعلته القوات الأميركية باطلاق ما سمّته عملية "ثعلب الصحراء" على قصف صاروخي يأتي من مواقع نائية وفي الليل تواً بعد صدور تقرير رئيس "أونسكوم" ريتشارد بتلر متهماً حكومة العراق بعدم التعاون التام في الكشف عن برامج اسلحة الدمار الشامل، وقبل ان تسنح الفرصة لمجلس الأمن مناقشة التقرير. في الواقع، كان الرئيس كلينتون قد أمر بقصق العراق نهار الأحد في 13/12/1998وهو لا يزال في القدس، اي قبل 72 ساعة من بدء القصف. وقد ذكرت "نيويورك تايمز" في عددها الصادر في 18/12/98 ان بتلر كان أعلم المسؤولين الأميركيين نهار الجمعة في 11/12/98 بمضمون تقريره قبل ان يُعلم مجلس الأمن، اي قبل خمسة أيام من بدء موجات قصف الصواريخ ضد شعب ثبت انه غير قادر على الدفاع عن نفسه وهو المتهم بقدراته على تهديد جيرانه والعالم والمصالح الأميركية. ذكر البنتاغون ان أكثر من مئتي صاروخ أمطرت فوق العراق في الليلة الاولى مستهدفة مواقع مختلفة. وكتب الخبير العسكري في مركز الدراسات الاستراتيجية والعالمية في واشنطن انتوني غوردسمان ان لا حقيقة تؤخذ من قصف صارخي دقيق، كما يدعي الإعلام الأميركي، فأميركا لا تعرف حتى الآن ماذا دمّرت عام 1991. ولكنها تعرف من ناحية أخرى ألا تقيم حساباً للتهديدات العربية. كانت تخوّفت مما يمكن ان يحصل في افريقيا فاغلقت 38 سفارة أميركية هناك، ولم تغلق سفاراتها في العواصم العربية. انها في مأمن في العواصم العربية الباسلة، كيف لا وهذه قوات الامن تقمع المتظاهرين هنا وهناك. غير ان دمشق كانت فخورة بشبابها الذي تسلق مبنى السفارة الأميركية وانزل العلم الأميركي. وعمّت التظاهرات المدن الفلسطينية حيث أحرقت الاعلام الأميركية والاسرائيلية والبريطانية، لكن عرفات ظل صامتاً إكراماً للصداقة الحميمة التي نشأت من طرف واحد بينه وبين كلينتون. وأحرق متظاهرون أعلاماً أميركية سبق ان وزعتها عليهم السلطة للتلويح بها احتفاء بزيارة كلينتون لغزة قبل أيام معدودة من ذلك. أما الرأي العام العراقي فيبدو من خلال ما قدمته وسائل الاعلام الاميركية انه كان حريصاً على إظهار استخفافه بالقصف الأميركي. ففي الليلة الثانية كان القصف أكثر شراسة، كما لو ان القوات الأميركية ارادت ان تهدم كل شيء وفي كل مكان ومن دون انقطاع وقد أصابها جنون العظمة، ظلّت السيارات تجوب الشوارع وعمّت احتفالات الأعراس ومارست المحلات التجارية نشاطها كالمعتاد. تابع الشعب العراقي حياته بعد اربع ليال من القصف الجحيمي. لم يعبّر عن حزنه إلا مقروناً بغضبه، وهذا سر تميّزه. ان وجه العراق الحزين الغاضب سيطارد العرب الى الأبد. ما تريده أميركا هو اخراج العراقَ من الزمن. انه الآن مجمّد في الزمن، ورغم ذلك يظل قادراً على تحدي أميركا بمساعدات عربية او من دون مساعدات... تريد أميركا ان تحذف العراق من العالم وتحوله الى ذكرى تاريخية بعيدة. وفعلاً تمكن الحصار الاقتصادي من سحق جيل واعد. ان جيلاً بكامله يعيش في بحر الظلمات وتختفي الجزر من الآفاق. ولكن العراق سيستأنف حياته الابداعية في مختلف مجالات الحياة... دخل الكابوس العراقي عامه التاسع. ولا يقظة من الكابوس، الذي أصبح بعض الحكومات العربية جزء اً منه، طالما ان الحصار لم يرفع بعد، وطالما نستطيع ان نراقب قصف العراق على شاشة التلفزيون، وهذا التوهج البرتقالي الكبير عند أفق ليل العراق يتبعه دوي انفجارات متلاحقة. وعند الفجر يختلط دوي التفجير بصوت عذب يدعو للصلاة. أي تضاد هذا الذي يستطيع بعض العرب تحمّله كما لو كان حدثاً سينمائياً وليس واقعاً أليماً؟ هذه الحرب ضد العراق هل هي فيض من الحقد الداخلي الذي يسمّم الجسد الأميركي؟ وعندما مشت مسيرة وراء 68 نعشاً في شوارع بغداد، ألم يخطر للعرب كما خطر لي انه ربما كان بين القتلى مَنْ يحب شعر بدر شاكر السياب، وأخر يجيد غناء المقامات، وفتاة تدرس في الجامعة كي تحسّن مستوى معيشة أهلها، وطفل بدأ منذ أيام يمارس فن الابتسام؟ الى متى، أيها العرب، يظلّ العراق يلملم جراحه وأجزاء جسده المبعثرة وسط الدمار؟ ما هو الدور العربي؟ لتكن الخطوة الأولى اجماعاً على رفع الحصار العربي. هذا ما ندعو اليه في الجزء الثاني من هذه المقالة. * كاتب واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.