"تذكري أنك وحدك في المطبخ. لا أحد يستطيع أن يراك". هذه وصية الام الحصيفة لابنتها، تصور محنة الجمهور مع الأطعمة المعالجة وراثياً. الجمهور متروك وحده يواجه عاصفة عاتية من الخلافات حول مخاطر ومنافع هذه الأطعمة التي ادخلت تحسينات "خيالية" على مذاقها ومادتها الغذائية وانتاجيتها. في بريطانيا تحدثت العناوين الرئيسية في الصحافة والتلفزيون عن "فرانكشتاين" الطعام، وتهتز الحكومة نفسها بالنزاع الذي قسم العلماء والأحزاب والسياسيين والصناعيين وحتى الطباخين الى معسكرين متناحرين. معسكر يعتقد بأنها تحقق أحلام البشرية بالغذاء لا الدواء وبعالم خالٍ من المجاعة، ومعسكر مناهض يعتبرها نهاية كل شيء: البيئة والحيوان والبشر. بدأ الانقسام العام الماضي، حين ادّعى باحث مرموق أن تجارب على الفئران التي اطعمت بطاطس معالجة وراثياً كشفت عن اصابتها بضعف في جهاز المناعة وضمور في الدماغ والكبد والمعدة. واتهم الباحث الهنغاري الأصل الدكتور ارباد بوستاي صناعات الأغذية بتحويل الجمهور الى حيوانات تجارب. بعد ذلك بفترة قصيرة أقيل باستاي من منصبه بدعوى أنه تلاعب بنتائج التجارب. وانفجرت المشكلة مجدداً هذا الاسبوع مع صدور بيان يحمل تواقيع 20 عالماً من بلدان مختلفة يؤيدون باستاي ويطالبون باعادته الى وظيفته وعرض نتائج التحقيق معه على الجمهور. والأطعمة المعالجة وراثياً كالأجبان، التي يقول عنها الفرنسيون أنها تمثل قفزة الحليب الى الأبدية. فهي تنتج بواسطة الهندسة الجينية التي تخلط وتزاوج جينات من أنواع واصول مختلفة نباتية وحيوانية، بل حتى بشرية. ذكر ذلك العالم الأسباني خوسيه اسكينوس ألكازار، أمين "هيئة الموارد الوراثية" في منظمة الأغذية والزراعة للامم المتحدة "فاو". وقال اسكينوس ل "الحياة" إن العلماء طوروا ثمار فراولة يمكن أن تنمو في عز الشتاء لاحتوائها على جينات مأخوذة من سمك يعيش في القطب الجنوبي، وثمار تنمو في الصحراء وتروى بالمياه المالحة من البحر مباشرة، ونباتات لا تحتاج الى الأسمدة تمتص النتروجين من الجو وحبوب تفتك بالحشرات والهوام التي تقترب منها، ونعاج تدرّ حليباً يحتوى على هرمونات بشرية. والطعام الطيب كالحب الطيب في كليهما تأتي الشهية مع الأكل. لا يستثنى من ذلك الطعام المعالج وراثياً المعروض في الأسواق في كل مكان من العالم. ويستحيل على الجمهور الآن تمييز مذاق الأطعمة المعدلة وراثياً التي تضم صلصلة طماطم بندوره ومقانق نباتية وسباغيتي بولونيز، وصلصة فلفل أحمر ومعكرونة صينية ورقائق تورتيلا، وصدور الدجاج المشوي المعامل بزيت الزيتون وعشب الليمون وجوز الهند... هل يؤدي تناول هذه الأطعمة الى اضمحلال الدماغ والكبد والقلب، كما حدث للفئران؟ الجواب اليقين الذي يقدمه مسؤول "فاو" هو: لا يقين. الأمر متروك للجمهور الذي عليه أن يطالب صناعات الأغذية بوضع لافتات تذكر ما تحتويه من جينات معدلة وتشير الى المحاذير المحتملة من تناولها. ولا يمكن في هذا الصدد الاعتقاد بكلام طبيب الملكة البريطانية اللورد هوردر "الأكل الطيب لا يخضع أبداً للمعادلات الكيماوية". ولا يتوقع الحصول على نصائح من صناعات الأغذية العالمية التي تتبع نصيحة مخرج أفلام الرعب ألفرد هيتشكوك "الكلام عدو الطعام". فقد كشفت صحيفة "الغارديان" أمس أن وزير العلوم البريطاني اللورد سنسبري يملك حقوق الجين الذي يدخل في 60 في المئة من الأطعمة المعالجة وراثياً. وهذه ليست معلومة جديدة. فاللورد سنسبري، الذي تقدر ثروته بالبلايين كان قبل دخوله الوزارة يدير الأسواق التي تحمل اسم عائلته. وعرض ل"الحياة" خبير دولي في صناعات الأغذية اعتذر عن ذكر اسمه تداخل مصالح صناعات الأغذية والزراعة العملاقة. وتشمل نشاطات "مونسانتو" الأميركية، التي تعتبر من أكبر شركات انتاج الأطعمة المعالجة وراثياً صناعات الأسمدة والمبيدات والبذور. وعلى مستوى أعلى تتشابك مصالح شركات النفط والغاز والمواد الأولية والمعادن مع الحبوب واللحوم والأغذية. وتربط هذه المصالح بين شركات نفط كبرى، مثل "شل" و"بريتيش بتروليوم" وشركات أغذية، مثل "كويكراوتس" و"ساره لي"، وشركات ألبان ومرطبات وشوكولاته مثل "نستله" و"كادبري" و"كوكا كولا" و"كيلوغ" و"سيف واي". وقد تنفع لتجنب عسر الهضم الذي تسببه هذه المعلومات النصيحة الذهبية للروائي البريطاني سومرست موم: "في وليمة العشاء ينبغي أن يأكل الشخص بحكمة، ولكن ليس جداً، ويتكلم بحكمة، لكن ليس جداً".