"لم يكن لدينا ملك، وهو كان ملكنا" قالت ليا رابين. كثيرون مثلها في اسرائيل رأوا فيه أباً وملكاً عليهم مذ أبّن اسحق رابين في 1995، وركع امام امهات الفتيات اللواتي قتلهن جندي أردني بعد ذلك بسنتين. في الصحف البريطانية كان الملك حسين ملك السلام والملك الأسد، والأب دائماً للأردنيين "المعتدلين والمتسامحين كملكهم" ولغيرهم في الخارج. الصحف الشعبية ركّزت على لفتات صغيرة منه امتنوا لها اكثر مما قدّروا تبرع حاكم عربي آخر بنصف مليون دولار من كلفة علاج طفلة بريطانية في اميركا. تبرعه مثلاً بكلفة بناء ممر للسيارات في مدرسة وشراؤه البيتزا لتلاميذها. لم يستورد ما يلائمه من الغرب ويشجب حضارته كما يفعل غيره بل مزج بنجاح البذلة الغربية الأنيقة والكوفية الحمراء والبيضاء كما فعل ابناؤه الخمسة في جنازته. درس في هارو ثم الاكاديمية العسكرية الملكية في ساندهرست، وكانت زوجته الأولى دينا خريجة كمبريدج، وزوجته الثانية، ام الملك عبدالله الثاني، توني غاردنير بريطانية، وزوجته الثالثة الفلسطينية عليا طوقان ابنة سفير أردني سابق في لندن. والملك عبدالله دخل مدرسة انكليزية في الرابعة وبعد دراسة ثانوية في اميركا درس السياسة واللغة العربية في اكسفورد ثم تخرج من ساندهرست كوالده. "أي اردن هو الحقيقي؟" تساءل صحافيون بريطانيون اشاروا الى اختلاط التقاليد الاسلامية الغربية في الجنازة والتناقضات الكثيرة في المجتمع الأردني. صدحت الآذان مع موسيقى القرب السكوتلندية وتزاوجت البذلات الغربية بالكوفية، ومشى زعماء العالم من دون ترتيب مسبق مع غيرهم من المشيعين، ولم تستطع زوجاتهم مرافقتهم بل اكتفين بمواساة الملكة نور. هذه المرأة الاميركية، اللبنانية الأصل، رافقت زوجها في مراحل مرضه وزياراته الى الخارج، لكن كان عليها ان تقف على الشرفة لتلقي نظرة الوداع عليه. ملكة اسبانيا اكتشفت عند وصولها الى عمان انها لن تستطيع ان تمشي في الجنازة، وان عليها الانضمام الى جناح النساء لتعزية الملكة نور. ومادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية الاميركية، تحمست للمشاركة لكنها امتنعت عن السفر عندما ابلغت ان رئيسات الدول وحدهن يستطعن القاء النظرة الاخيرة على جثمان الملك، وانحصرت هؤلاء بملكة هولندا بياتريس ورئيسة ارلندا ماري ماكاليس. اي اردن هو الحقيقي اذاً، العربي ام الغربي؟ ولد البلد الصغير بمساعدة بريطانية وتنقل ملكه بلا عناء بين الحضارتين الغربية والعربية، ونقل ولاءه بين الغرب والشرق وان لم يكن بالبساطة نفسها. اعتمد اساساً على اخلاص البدو في الداخل وكان عليه ان يرضي الفلسطينيين الذين تدفقوا على الأردن وشكلوا سبعين في المئة من السكان بعد احتلال اسرائيل شرق الأردن والضفة الغربية في 67. وإذ يتحدث هؤلاء عن اقتصار الوظائف الأولى على الأردنيين يشير هؤلاء الى كثرة رجال الأعمال الفلسطينيين الذين يدينون بالولاء لفلسطين اولاً. أثار الملك حسين نقمة عرب كثيرين لكنه انقذ بلاده او بعضها على الاصح، خلافاً للبنانيين الذين لم يستطع مسؤولوهم ان يقرروا مستوى المشاركة في جنازة الملك من دون استشارة اصحاب الرأي. زوجة الملك عبدالله الثاني الفلسطينية ستساعد البعض على تجاهل والدته البريطانية التي تفضل اصلاً الابتعاد عن الاضواء. الأمر يختلف مع والدة ولي العهد، الأمير حمزة، التي نشطت في الأعمال الخيرية وعززت صورة الأردن الغربية في الخارج. صحف بريطانية كثيرة نشرت في الصفحة الأولى صورة المرأة الشقراء الجميلة وهي تصلي لنجاة زوجها وتساءلت عن دورها في المرحلة المقبلة، هي التي ستشترك في حمل لقب الملكة مع رانية الياسين زوجة الملك الجديد. الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر ذكر انه لم ير مثل هذا الحشد في اي جنازة من قبل. اكثر من خمسين زعيم دولة غربية وشرقية، غنية وفقيرة، مشوا احدهم قرب الآخر وعرفوا، في مواجهة الموت، لحظات من المساواة العابرة. امتدح زعماء الغرب بطل السلام بغزارة وحضروا جنازته بغزارة كأنهم كانوا يقولون انهم يعرفون كيف يميزون بين العربي الجميل والعربي البشع، ولا يبخلون على الأول بأعلى العلامات. هذا هو الوجه المقبول الحريص على السلام من دون قدرة على النقاش وطرح النقاط بتفصيل يوجع الرأس ويؤخر تعليق الأوسمة على صدر الرئيس الاميركي خصوصاً. اقبل السلام بأي ثمن ايها العربي المرن وكن ابننا الحبيب الذي به نُسر. لكن الملك حسين لم يملك مجالاً كبيراً للمساومة والمناورة، ومثل حكام كل الدول الصغيرة احتار احياناً ممن يخاف اكثر: الاعداء أو الاخوة الأعداء. اشارت صحف بريطانية الى 800 الف اردني "اتى بعضهم من الخيام" وانتظروا ساعات موكب التشييع في البرد والمطر في حين جلس ابناء الطبقات المرتاحة يشاهدونها على التلفزيون. يمكن الحديث عن نسبة الأمية المرتفعة واعتماد الأردنيين على الاقنية الاجنبية لمعرفة الانباء ووضع الاقتصاد الصعب، لكن هل من العدل تجاهل التفاوت الطبقي الموجود في كل البلاد بما فيها بريطانيا على الرغم من ادعاء رئيس الحكومة العجيب ان كل البريطانيين باتوا بفضله طبعاً ينتمون الى الطبقة الوسطى؟ ربما كان الاجدى ان نتساءل ما اذا كان ولي العهد، الامير تشارلز، القادم من اكثر الأسر المالكة تمسكاً بالفخامة حتى في اوقات الركود لاحظ بساطة التشي يع لملك بلا تاج على رغم فرادة الحشد العالمي فيه.