قرأت التعليق الذي نشرته صحيفة "الحياة" بعنوان "أخطاء في الترجمة ومقاطع محذوفة" بتاريخ 7/1/1999 حول ترجمتي لرواية "لعنة زحل" للكاتب البريطاني ج. ب. بريستلي، وصدرت في منشورات "دار الفارابي" في بيروت. وعندما وصلت إلى مطالبة صاحب التعليق، السيد جعفر هادي حسن، بإعادة النظر في الترجمة الحالية "أو إصدار ترجمة أخرى تكون أكثر وفاء"، ظننت أنه يتحدث عن إحدى الروائع الأدبية التي لا يجوز المس بحرفية نصها، وليس عن رواية بوليسية لكاتب انكليزي متواضع، ليس في المعجم الفرنسي لاسمه أي ذكر، ولم تعرف العربية أياً من رواياته الأربعين، باستثناء هذه الرواية، التي، لولا الصدفة، لم تجد مترجماً أو ناشراً. كان ذلك مطلع الستينات عندما حاولت إدارة صحيفة "النهار" اللبنانية أن تفاوض مجلة "بلانيت" Planژte الفرنسية، على إصدار طبعة عربية لها، كما الحال اليوم مع مجلة "لوموند ديبلوماتيك" Lemonde Diplomatique ولإبداء حسن تفهم الصحيفة اللبنانية لتوجهات المجلة الفرنسية التي كانت تعنى بالأحداث الغرائبية والحلم الخيالي، قررت الصحيفة ترجمة ونشر رواية "لعنة زحل" التي كان أحد مسؤولي المجلة ادرجها في خط المجلة وقدم لطبعتها الفرنسية. ومع أن المفاوضات توقفت، مع توقف المجلة الفرنسية عن الصدور، إلا أن الرابح من كل هذه الصفقة كان السيد ج. ب. بريستلي الذي عرفت العربية اسمه للمرة الأولى عبر ترجمة روايته ونشرها مسلسلة في الملحق الأسبوعي لصحيفة "النهار". والعام الفائت، لدى مراجعة ارشيفي في "النهار" بعد مغادرتي لها، اكتشفت الفصول المنشورة، وتطوعت "دار الفارابي" لنشرها في كتاب، ليس اقتناعاً بأهميتها، بل لأن الترجمة تحمل اسمي. فماذا عن الترجمة التي لم تعجب صاحب التعليق، وسوّد شبه صفحة كاملة من "الحياة" لنقدها؟ كنت سأظلم الرواية والقارئ العربي معاً لو انني قمت بترجمة حرفية لها، ليس فقط لأن السرد فيها ليس له أي قيمة فنية إلا بقدر ما يخدم الحدث، بل أيضاً لأن هذه الرواية التي غايتها تسلية القارئ، كانت ستصبح مملة له، لذلك اخترت الاسلوب المعروف بالتصرف في التعريب، الذي جعل القارئ العربي الذي لا يعرف النص الأجنبي يستمتع بها، كما بدا في الكتابات التي تناولتها في بعض وسائل الاعلام. ولو سنحت لأي قارئ فرصة المقارنة بين الأصل والترجمة، لأدرك على الفور الاسلوب الذي اتبعته في الترجمة، إلا السيد جعفر الذي حاول أن يوهم القارئ الذي لا يعرف النص الأصلي بأن التحوير في النص الذي يتطلبه التصرف، إنما هو نتيجة الأخطاء في الترجمة. وهكذا راح يعدد بعض المقاطع الناقصة وبعض المقاطع الزائدة، في بعض الصفحات، كناقد غيور على الأمانة في الترجمة، في حين ليس ثمة صفحة واحدة في النص الأصلي تتطابق والنص العربي الذي جاء بسبب الاختزال أقل بمئة صفحة. فلماذا أصر هذا الناقد المدقق ان يغشّ القارئ فيدعي انه اكتشف بعض النواقص والاضافات في بعض الصفحات، بدل أن يصارح القارئ بحقيقة الاسلوب الذي اتبعته في الترجمة؟ في اعتقادي ان السبب يعود إلى كونه يستطيع أن يدعي بأن بعض الاختلاف في بعض العبارات بين الترجمة والأصل، هو نتيجة الخطأ في الترجمة. يقول إنني ترجمت خطأ عبارة "مئتي قرية روسية" فقلت "قريتين روسيتين"، ما يجعل القارئ يظن بأنني شوّهت صحة خبر تاريخي تناولته الرواية. أما الحقيقة فإن العبارة المذكورة جاءت في سياق ثرثرة امرأة تكره رجلاً المانياً صديقاً لزوجها، فتقول عنه: "إن فكري مشغول بذلك الألماني الذي يبدو مظهره كأنه كان يقود فرقة مدرعات في حرب القرم، ولدى انسحابه أحرق مئتي قرية روسية"، كما جاء في النص الأصلي الذي اختزلته بقولي "وكأنه عائد من معركة أحرق فيها قريتين". ما الذي كان سيتغير لدى القارئ من الصورة البشعة عن هذا الألماني في ذهن تلك المرأة لو أنه احرق مئتي قرية بدلاً من قريتين؟ وماذا كان سيهم القارئ إذا ذكرت له حرب القرم أو غيرها طالما أن الصورة رمزية أصلاً؟ وهكذا الأمر في عبارات أخرى حيث يستفظع الناقد المدقق استبدالي كلمة "سمكري" في حديث امرأة تقول جواباً على سؤال: "لا أعرف. يا الله، اتظنني كنت هنا الآن اجمع الايجارات، وانتظر السمكري، لو كنت أعرف...". ماذا كان سيتغير من فحوى شكوى هذه المرأة المتضايقة من وضعها لو أنها استبدلت السمكري بالمبيض أو ساعي البريد أو بائع الحليب، طالما أن الصورة استعارة رمزية؟ وهكذا في عبارة "الفندق الشرقي" التي مرة استبدلتها بالمستشفى الشرقي، لأنه كان أيضاً منتجعاً للنقاهة. أو "ابنته" بدلاً من "حفيدته" لأن الجد كان يقدمها للناس تدليلاً بأنها ابنته، أو "الرسام الصناعي" بدلاً من "المصمم الصناعي"، أو "المحامي" الذي يقول إنني سميته "وكيل الأعمال" طالما أنه فعلاً هو وكيل أعمال الشخص المعني في الرواية، وهكذا جاء في النص الفرنسي الذي هو ترجمة حرفية: Proeureus وليس Avocal. ويتمادى الناقد في الاساءة إلى الترجمة، فيصف بعض العبارات التي وردت فيها أخطاء مطبعية بأنها عبارات "لا تتفق مع طبيعة تركيب اللغة العربية وأسلوبها"، ومثالاً: طارت كلمة من نهاية جملة "القسم الخارجي من البيت ليس فيه"، والمقصود "ليس فيه أحد". هكذا سيفهمها القارئ اللبيب من متابعته لسياق الكلام، ومثالاً أيضاً العبارة التي يتحدث فيها أحد أبطال الرواية عن النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، فيقول: "إن هذا النصف، غير المتطور، لا يزال على مسافة من تطور النصف الشمالي"، لكن خطأ مطبعياً فات المصحح، جعل كلمة "لا يزال" تتحول إلى "لا ينزل" والقارئ اللبيب، إذا استعاد الجملة، صحح الخطأ تلقائياً فاستقام المعنى، أو جملة "يضل القدس نفسه" والصواب "القديس"... بل آخر هذه الأخطاء التي اعتادها القارئ في أي كتاب، وفي مقالة الناقد نفسه أكثر من خطأ مطبعي فهو يقول بأن ج. ب. بريستلي "توفي العام 1948" والصواب "1984" أو "بعض الأمثل" والصواب: "الأمثال" أو "الأمثلة". ثم ان الناقد يستغرب انني نفيت وجود مقدمة في الرواية برغم وجودها، كما يقول، والسبب في ذلك انني سميتها "استهلالاً" كما جاء في النص الفرنسي Prolaque لأنها جاءت على شكل رسالة وليس كعادة المقدمات. والطريف أن الناقد يطالبني بتبرير تغييري لعنوان الرواية، وكأننا ازاء إحدى الروائع الكلاسيكية، ولسنا ازاء رواية للتسلية، فالترجمة الفرنسية حملت أيضاً عنواناً مختلفاً عن الأصل، لأن العنوان الأصلي "زحل فوق وجه الماء" Saturne Over The Water ليس بالعنوان الذي يجذب القارئ في هذا النوع من الروايات. وكان بامكاني ان استخدم العنوان الفرنسي "انعكاس زحل" Le reflet de Saturne إلا أنني وجدت "لعنة زحل" ليس فقط أكثر جاذبية، بل هو يعبر أكثر عن مناخ الرواية. علماً انني اثبت العنوان الأصلي للرواية في مقدمة كتابي. وكنت اظن ان كل هذا اللغو، الذي يسميه السيد جعفر نقداً، أنه يصدر عن ادعاء أو جهل وليس عن نية سيئة، حتى وقعت على ملاحظة يقول فيها انني، في إحدى الصفحات، حوّلت "مسؤولة الحانة" إلى "طبيب"، وانها ملاحظة، لو كانت صحيحة، لخرجت الترجمة من التصرف إلى التشويه. ولأنني لم أتصور ان ادعاء الناقد قد يبلغ هذا الحد، ظننت ان في الأمر خطأ مطبعياً، ولأنه لم يذكر الجملة المعنية قرأت كل الصفحة التي أشار إليها، ثم الصفحة التي قبلها والتي بعدها، وعدت إلى الأصل الفرنسي الصادر في منشورات Robert Laffant سنة 1961، فقرأت الفصل كله الذي يتضمن الصفحة المشار إليها، فلم أجد "مسؤولة الحانة" بل لم أجد حانة، لأن أحداث الفصل كله تدور على ظهر مركب وليس بين المسافرين من النساء سوى امرأة واحدة يصفها الراوي بأنها أرملة شابة مغناج. فمن أين جاء السيد جعفر بالحانة وبمسؤولة الحانة التي زعم بأنني حولتها إلى طبيب؟ الحق انني لا اعرف سبب هذا التحامل على ترجمة هذه الرواية، ولم أجد أي مبرر لأي من ملاحظات السيد جعفر باستثناء ملاحظة واحدة حول خطأ ارتكبه الناشر عندما وضع اسمه جوزف بريستلي على غلاف الكتاب. المعروف أن هذا الكاتب البريطاني اعتمد في كل مؤلفاته الحرفين الأولين من الاسم يسبقان الشهرة: ج. ب. بريستلي. هكذا ورد اسمه في الطبعة الفرنسية من الرواية، وهكذا ورد اسمه في ترجمتي الأولى لروايته المنشورة في ملحق صحيفة "النهار". لذلك فوجئت باسمه الكامل على غلاف الكتاب، ولم تسمح لي الظروف بمعاتبة الناشر، ولا كيف عرف اسمه الأول، ولماذا تجاوز مسؤوليته في ذلك. ثم كانت المفاجأة الثانية عندما تبين لي من مقالة السيد جعفر، الذي يبدو أنه اطلع على اسم الكاتب من نبذة عن حياته لمناسبة وفاته، بان اسمه الأول ليس جوزف بل جون. وعندما راجعت الناشر في صدد هذا الخطأ المزدوج الذي سأتحمل أنا مسؤوليته، اتضح انه لدى طبع غلاف الكتاب، استغرب عدم وجود الاسم الأول للمؤلف، ولأنه حديث العهد في عالم النشر، ظن انني اهملت ذكر الاسم الأول سهواً، فاتصل بيّ قبل طبع الغلاف ليسألني عن الاسم فلم يجدني، فاستعان بالمصحح ليفتش له عن الاسم في القاموس الفرنسي في قسم الاعلام. ومن غريب الصدف ان عثر المصحح على اسم جوزف بريستلي، الذي هو عالم كيميائي بريطاني من القرن الثامن عشر، ولأن الحرف الأول من اسمه يتطابق والحرف الأول من اسم الكاتب، ولأنه البريستلي الوحيد المذكور في القاموس الفرنسي، ظن أنه هو المقصود، فنقل الاسم إلى الناشر دون أن يقرأ الشرح الذي يقابله، ربما لسروره بأن اسم جوزف هو الاسم الأول أيضاً للناشر. هكذا حصل الخطأ. فأخطأ الناشر في حقي مرتين: الأولى لأنه ذكر الاسم كاملاً، وليس هذا من حقه، حتى لو كان مطلعاً على الاسم الكامل، والثانية أنه أخطأ في الاسم. والغريب ان السيد جعفر، انسجاماً مع ادعائه الدقة والتدقيق، كان الأولى به أن يستنكر وجود الاسم كاملاً على غير رغبة المؤلف قبل أن يستنكر الخطأ في الاسم. لكن يبدو أنه لم يتقصد الامانة لاسم المؤلف بقدر ما تقصد الادانة للمترجم، ظناً أنه، لعدم قناعاته بادعاءاته السابقة عن الأخطاء المفترضة، قد ضبطني بالخطأ المشهود، فقال: "إنه خطأ لا يعذر عليه المترجم". لكن الوقائع تثبت عكس ذلك، فإذا كنت لم ارتكب هذا الخطأ لدى نشري الرواية أول مرة، قبل أربعين عاماً، فهل ارتكبه اليوم، بعد كل هذه الخبرة في مجال الكتب والنشر والاعلام؟ ولو انني المسؤول عن هذا الخطأ، أما كان الأولى بي أن اذكر الاسم كاملاً في مقدمة الكتاب التي اعرّف فيها بالرواية والروائي، بل أن اضع الحرف الأول من اسمه في المقدمة، والاسم الكامل على الغلاف؟ وختاماً لا يسعني إلا القول إنني ما كنت لأرد لولا احترامي ل "الحياة" ولقارئ "الحياة".