ولدت الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة سليم الحص في عملية قيصرية، كان رئيس الجمهورية اميل لحود يستعد، حسب المقربين منه، لمرحلة تعايش صعبة مع الرئيس رفيق الحريري. لكن الأخير قرأ المعطيات التي تشير إلى أن هذا التعايش سيكون أشد صعوبة عليه فاعتذر. قلب الأدوار. وبعدما كان، من موقعه في الحكم عنصراً في تشكيل المعارضة، أصبح، من موقعه في المعارضة، عنصراً في تشكيل السلطة واعطائها مضموناً: ازالة آثار "الحريرية". كان يمكن هذه المهمة أن تكون أكثر سهولة في بلد اعتاد تداول السلطة. ليست هذه عادة لبنانية برغم الحد الأدنى من الديموقراطية في البلد. ولذا يمكن القول إن انتقال الحكم من الفريق السابق إلى الحالي هو أكبر تحول سياسي سلمي في بلد عربي. وهو يفوق، في جوانب منه، أهمية وصول الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي إلى رئاسة الوزارة في المغرب. ليست هذه المهمة سهلة، لأن الحكومة اللبنانية تواجه معضلة مركبة ناتجة من تصادم عدد من العوامل: - ثمة ارتفاع مؤكد في سقف التوقعات يقابله الافتقاد إلى أدوات السياسة الاقتصادية والاجتماعية البديلة... ناهيك عن الأدوات المالية. - تجد الحكومة نفسها مضطرة إلى اتباع سياسة تقشفية لكنها تحتاج إلى حشد تأييد شعبي أو الاحتفاظ بالرصيد الحالي. وبما أن كل سياسة تقشفية غير شعبية حكماً، فإن المطلوب هنا هو نوع من "تربيع الدائرة". - إذا كان "غياب" الحريري ترك فراغاً داخلياً وخارجياً، فإن المنطقي هو التعويض عن ذلك من دون إثارة الأوهام، كما في الماضي، حول دور هذا "الوزن" في حل المشاكل الواقعية للبلد. لقد تصرف الحريري مثل رجل يريد بناء زعامة والحص يتصرف، وهذا طبعه، مثل رجل يريد النجاح في الإدارة. لقد قيل عنه انه "قدوة لا قائد" لكن ذلك كان محتملاً قبل هبوب عاصفة الحريري على لبنان. - يجد العهد الجديد نفسه مضطراً إلى تصحيح الخلل في التوازن السياسي السابق من دون التسبب في استيلاء مشكلة جديدة. فإذا كان الكلام عن إحباط مسيحي ماروني تحديداً قبل أشهر يحمل بعض الوجاهة، فإن أسوأ الحلول له هو الايحاء بأننا أمام احباط إسلامي سني تحديداً. - يجمع اللبنانيون على ضرورة الاصلاح الإداري. لكن السؤال هو أين ينتهي هذا الاصلاح وأين يبدأ الانطباع بأن في الأمر مطاردة ثأرية لرموز "العهد البائد"؟ ومن قال، أصلاً، ان الاصلاح هو فقط عملية تطهير للإدارة من فاسدين مع ما قد يعنيه ذلك من مس بعدد من "الأبرياء"؟ - لقد راجت في لبنان فكرة بائسة تقول إن "حكم الاوادم هو الحل". وهكذا جرى اختصار السياسة، بما هي خيارات وقرارات، إلى سمة اخلاقية. ولعب ذلك دوراً في التغطية على موبقات كثيرة. ولا شك في ان "أوادم" هم الذين يحكمون البلد اليوم لنقل أكثرية من الأوادم! ولذلك فإن هؤلاء مطالبون باثبات ان نظافة الكف ليست نقيض الفعالية ولا التوجهات الصائبة. - من حق الحكومة الحالية ان تدعو إلى شفافية إعلامية، لكن ذلك يضعها على حافة خطر الظهور مظهر من يستعد لمصادرة الآراء المخالفة وقمع الحريات وتوجيه الاعلام والتدخل فيه. إن هذه "الورشة" توازي، لا بل تفوق، "ورشة إعادة الإعمار" الشهيرة، لأنها، ببساطة، تتضمنها وتصححها وتتجاوزها. وتستوجب المعضلات المشار إليها وغيرها ردوداً سياسية بالدرجة الأولى. وإذا كان بالامكان القول إن عناصر هذه الردود متوافرة، وان هناك ما هو أكثر قانون جديد للانتخابات، تطبيق اللامركزية، إنشاء المجلس الاقتصادي - الاجتماعي فعلاً، الشروع في بحث مصير الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية...، فإن الجواب يبقى ناقصاً. إذ من دون أن تكون هذه الردود مشدودة إلى تصور اجمالي لصيغة لبنانية جديدة لا هي صيغة ما قبل الطائف، ولا هي صيغة الممارسة الممسوخة له عبر الترويكا وتوازناتها ... فإن الشعور سيبقى سائداً بأن هناك ما هو ناقص. هنا، تحديداً، تبدو الحكومة كأنها "من غير لسان"، أخطر من ذلك. تبدو كأنها من غير مخيلة. فهي موزعة بين وزراء تكنوقراط يؤدون عملهم بجدية ولكن لا يقدمون له التغطية السياسية والفكرية المطلوبة، وبين وزراء سياسيين يمكنهم، بسهولة، أن يكونوا محامين خاسرين لأي قضية ناجحة. إن الحكومة باهتة، ورمادية، لا روح لها. ويقول عنها أحد أشد المعنيين بنجاحها "لقد شاخت بسرعة" وأكلت، بالتالي، قسماً كبيراً من رصيد خطاب القسم وحتى من رصيد بيانها الأول. ربما كان وصف "الحكومة الباهتة" في بلد آخر وزمان آخر مديحاً. لكنه "هنا، والآن" ليس كذلك لأن حجم المعضلات المطروحة يستدعي نوعاً من التعبئة وإثارة الحماسة لا يستقيم إلا مع توليد القناعة بأن المهمة هي، فعلاً، مهمة خلاص وطني. إن العهد الحالي يحتاج إلى أفكار أكثر مما يحتاج إلى خبراء. ثمة شعور سائد في بيروت بأن هذه الحكومة لا تفتح شهية الموالاة. لذا فإن من يؤيدها يفعل ذلك بعقلانية باردة. لكن الغريب هو أنها تفتح شهية المعارضة المحمومة. فالكلام الذي يسوقه ضدها وليد جنبلاط، وبغض النظر عما يساوي في أي ميزان جدي وعاقل، يبدو نابضاً بالحيوية، قابضاً على قضية. وعندما كان نجاح واكيم يفعل الشيء نفسه ضد حكومات رفيق الحريري كان يتصدى له العشرات بعصبية لا تقل عن حدة كلامه. يكاد جنبلاط يكون أفرغ جعبته من الأسلحة الثقيلة. لقد بدأ معارضاً عالي الوتيرة وهو لا يعرف أين الذهاب بعد ذلك ولذا فهو يراوح مكانه على... القمة. والغريب أن أحداً من مناصري الحكومة لم يتصد له، ولم يناقشه ولم ينتبه أصلاً إلى أنه خصم سهل جداً سواء بسبب التقلب المذهل لمواقفه في الماضي أم بسبب المعرفة اليقينية كما يريده في المستقبل. إن أي تحليل نص، ولو بدائياً، لما يصرّح به جنبلاط كفيل برد سهام جارحة عن الحكومة. ومع ذلك فإن الميدان خال. إن الحكومة الحصية، برئيسها وتركيبتها وانتماء معظم وزرائها، صاحبة مصلحة مؤكدة في فتح الملفات. ليس المقصود بذلك تلك التي تتعلق بأموال البلديات والطريقة التي طرحت بها، وليس المقصود طبعاً أي اسلوب بوليسي. كلا. إن المقصود هو فتح الملفات الجدية واطلاق أوسع نقاش وطني حولها. يجب أن يشرح أحد للبنانيين حجم المشكلة الاقتصادية - الاجتماعية، وسبل الخروج منها. فالحديث عن "التركة الثقيلة" يبدو محبطاً إلا إذا جرى تمييز الخيط الرفيع الذي يميزه عن انسداد الافق. ففي مجال الخصخصة مثلاً ثمة الكثير للقول من دون الوقوع في "شعبوية" الرفض الايديولوجي، ولا في ابتذال تصفية القطاع العام بطريقة مافيوية. هناك وزراء في الحكومة يعرفون جيداً ما يدور حولهم في العالم. وهم يملكون، مبدئياً، الذخيرة الكافية للتمييز بين اسلوبين من الاندراج في السياق الدولي: ذلك الذي اتبعته روسيا، مثلاً وقاد إلى الكارثة، وذلك الذي تتبعه فرنسا، مثلاً، ويتولى وزراء شيوعيون لا غبار على اهتمامهم بالمصالح العمالية، أمر الاشراف عليه. يجب الخلاص من صنمية القطاع العام كما من صنمية القطاع الخاص. فأطياف الرمادي بين الأبيض والأسود أكثر من ان تحصى. أما عن الاصلاح الإداري فحدث ولا حرج. إنه يبدو، حتى الآن، كأنه ارهاب للمستثمرين، في حين ان العكس هو الصحيح. يتذكر اللبنانيون على الأرجح ان هذا الموضوع كان العنوان المفضل لاركان العهد السابق وفي الامكان البرهنة على أن ما وصلت إليه عملية "التطهير" هو أبعد مما كان يعد به ملتحقو اللحظة الأخيرة بقطار الاصلاح. لا يجوز، والحال هذه، لمن أشرف أو شارك في تعيين فاسدين، وباعترافه، أن يلوم غيره لأنه أبعد بعضاً منهم... فقط! إن ميزة فتح هذا الملف هو أنه يسمح للحكومة بسماع انتقادات مجدية. فهناك من يقول إن التعيينات كانت بلا لون ولا طعم. ومع أنه يستحسن فتح أبواب الترقي ضمن الإدارة، لكن أولوية كان يجب ان تعطى لضخ دم جديد ولإحداث صدمة. ليس مهماً ألا يكون التوازن السياسي اختل وعاد إلى "ما قبل الطائف". المهم، في هذا المجال، هو الانطباع المتروك. وهناك، بالفعل، بين المسيحيين من ينسب إلى الرئيس اميل لحود قوة تصب في مصلحة "المحبطين سابقاً". وهناك في المقابل، من يعتبر ابتعاد الحريري مصدراً لاحباط جديد. ولعل الخطأ في معالجة هذه المشكلة هو تجاهلها ونكران وجودها في الوجدان طالما أنها غير قائمة عملياً. لا بديل من المصارحة. وهي تبدأ بالقول إن أسباباً عدة جعلت من الوضع السابق "ظالماً" لفئات. ولقد كان تجاهل هذا الظلم هو "طائفية مقنعة ووديعة". ولا بديل من المصارحة بأن السعي، اليوم، هو لإعادة الأمور إلى نصابها والاحتكام الدقيق إلى الدستور في انتظار بلورة أي بديل. والمفتاح لهذه المصارحة هو ان يلعب الحص دوره كاملاً وأن يتحول مجلس الوزراء إلى مؤسسة جدية، وأن يحصل الفصل بين السلطات، وأن يتعزز القضار ويستقل، وأن يكون القانون الانتخابي عادلاً. ولمناسبة الحديث عن العدل ، فإن ملفاً لا بد من أن يفتح: الاعلام. لقد مرّت هذه الفضيحة من دون أن تثير الردود الكافية برغم ما أثارته من غبار. ويجب التمييز هنا بين مخالفات كبرى جرى ارتكابها - المحاصصة - وبين أخطاء قابلة للارتكاب، ربما كان وزير الاعلام أنور الخليل أكثر هدوءاً من أن يشن حملة مقابلة، ولكن من قال إن هذه مهمته وحده؟ هذه عينة، مجرد عينة، من القضايا المطروحة التي تبدو فيها الحكومة في خط دفاعي في حين أن العكس يجب ان يكون صحيحاً. فهل هناك من يقنع الوزراء بأن حداً من الحماسة يمكنه أن يكون معدياً؟ وهل من الكثير أن يطالبهم اللبنانيون بقدر من "الإثارة"؟ إن بعض هذه القضايا، خصوصاً الاقتصادية والاجتماعية والضريبية، تستدعي إحداث "ثورة ثقافية" في بلد مثل لبنان اعتاد على حلول سهلة، وادمن وعود الحلول السهلة، واطلق على ذلك كله اسم "المعجزة". يستحسن مكاشفة اللبنانيين بأن "معجزة" خروج الحريري قد لا تتكرر. كما يستحسن مكاشفة الحريري نفسه بأنه مطالب بتحقيق "معجزة" ضد نفسه إذا أحسن المرور في "مطهر" المعارضة!