يتم الحكم على فكر الإنسان بما يعبر عنه بالقول أو الكتابة، ولأن اللغة هي أداة ذلك التعبير في الحالين، لا بد وان تشير في حد ذاتها الى نوعية فكر الكاتب أو المتحدث وتظهر الاسلوب الذي يتعامل به عقله مع حقائق الحياة. أي أن اللغة المستخدمة تجاهر بصورة أوبأخرى بملامح شخصية صاحبها. لذلك، أفلا يمكن القول أن اللغة التي يستعملها شعب معين في زمن معين هي تعبير عن نوع خصائصه العقلية التي تميزه عن الآخرين. ولعلي أسوق مثلاً اننا كعرب غالباً ما نعبر لاشعوريا في لغتنا عن تنصلنا من المسؤولية عن وقوع حدث. فالواحد منا اذا أوقع شيئاً مثل الكأس يقول وقعت مني الكأس، ويقول اذا استغرق في النوم وأضاع موعداً "أخذني النوم"، واذا تأخر عن الطائرة أو القطار قال: "فاتتني الطائرة" أو فاتني القطار". وفي كل هذه الصيغ تحويل للشيء الى فاعل والمتحدث الى مفعول به، بما يعبر عن تنصل من المسؤولية عما حدث، في حين لا أجد في أية لغة مما أعرف مثل هذه التركيبات، ففيها كلها يقول المتكلم "أوقعت الكأس، أطلت النوم - فقدت الطائرة أو القطار" بحيث يظل المتكلم هو الفاعل، والفاعل مسؤول. إن كتاباً ومفكرين عندنا تعوَّدوا في ما ينشر ويذاع على التشويش على مسؤوليتنا عمّا نواجه من مسائل ومعضلات، بحيث أصبح معظم ما نقرأ أو نسمح يلوح كأنه محاولات مستميتة لطمس حقائق، باستخدام تعابير لغوية قديمة أو مستحدثة، ينتهي بنا الأمر فيها غالباً الى تشويه الفكرة، ودائماً الى ابعاد المسؤولية. ودعونا نفتش عن أمثلة تشرح كيف تدل اللغة التي تُبارز بها حقائق الحياة عندنا، على خصال الإعتداء على طلاقة الفكر والتنصل من المسؤولية. 1 - نسمع ونقرأ عن كتّاب وساسة يحذَّرون من إنهيار عملية السلام مع اسرائيل ويسهبون في وصف الإنفجارات الرهيبة التي ستُغرق الشرق الأوسط، بل تغُرق العالم كله في دوَّامة العنف المخيف. وتزداد جرعة التخويف كلما تكرر التحذير، ونحن نبدو في هذا كأننا غرباء عن المسألة كلها، أو مراقبون يتخذون موقف الناصحين ويتوقعون أن يصدّقهم الآخرون فيسارعون الى القبول بنصيحتهم. 2 - نتحدث عن مؤتمرات للقمة كأن في مجرد إنعقادها الشفاء الكامل، بل نستخدم لغةً توحي بأننا نرى في الإنعقاد ذاته بل حتى في مجرد الدعوة اليه تهديداً لإسرائيل. ومن منا لم يقرأ عن التلويح بعقد قمة بين الحين والحين، على ما في ذلك من وضع للسبب مكان النتيجة بحيث تبدو القمة كأنها أحد أسلحتنا التي نقتصد في استعمالها. وبالطبع لا يخفى على أحد ما في هذا من تسخير للغة للتلاعب بالحقائق وتبديد المسؤوليات. 3 - ينطلق من صحفنا واذاعاتنا قدر مهول من الشتائم الموجَّهة للخصوم، وينال نتانياهو واميركا النصيب الأوفر منها، ونحن بذلك لا نعبّر إلا عن تفكير عصبي يفسد علينا قدرة التعامل مع حقائق المشاكل. وأن الهجوم اللغوي بالشتم يمكن ان يفهم إزاء مواقف شخصية، أما عندما يلجأ إليه من يفكر ويحلل ويوجه، فإن الأمر لا يمكن تفسيره إلا باعتباره تعويضاً عن قصور الفكر. وقد لا يجد من يقرأ أدبياتنا عن قضية فلسطين والحرب والسلام، صعوبة في الحكم علينا من لغتنا بأننا نخاصم الفهم ونبدد المسؤولية. 4 - إن فينا من يكاد لا يكف عن تحميل أجهزة الغرب مسؤولية عرض صورة قبيحة لنا بين ظهرانيهم، ومنا من ينفق الجهد والمال من أجل رسم صورة "جميلة" لنا في عيون الشعوب الغربية، غافلين، عمداً في الغالب، عن ان صورتنا ليست بالوسامة التي ندعيها ولا بالجمال الذي نتخيله. وصحيح ان في الغرب من يعمل لتشويهنا، ولكنه لا ينجح إلا بمقدار متواضع فيما نتفوق نحن على أنفسنا وعلى غيرنا في القدرة على التشويه. ونحن نتحدث لغوياً عن رسم صورة حقيقية لنا في الغرب، فإن ما نعنيه هو التضليل في شأن صورتنا الفعلية. ننسج ونخترع تعابير لغوية لإخفاء ملامح غير محببة في صورتنا، راغبين في إيهام أنفسنا بروعة قسماتنا في إقناع الآخرين بوسامتنا. ومع أن البلاغة لا تسعف في تجميل ما ليس جميلاً، نواصل تسخير اللغة لهذا الغرض، فنبدو كمن يحاول غزو الفضاء بنظم قصائد الشعر، أفليس في هذا السلوك اللغوي ما يدل على حال ارتباك في منهج التفكير؟ 5 - فينا من يتناول اللغة بأسلوب يدل على سيولة في التفكير، ويشير الى شخصية تستهل اللعب بحقائق الحياة من أجل تبديد المسؤولية، ويبدو ذلك مثلا في إنكار قيم ديموقراطية العصر لوجود أعراض جانبية أو عيوب فيها. كما يبدو عند رفض فكرة الإنتخاب من أساسها، باعتبار ان المال هو الذي يتحكم في توجيه أصوات الناخبين. لدينا لغة تدل على اعتيادنا قلب الحقائق لتعزيز المواقف وتبرير الاخطاء، وإلا كيف نفهم مثلا الهجمات الضارية التي يشنها كتابُنا ومفكرونا على تعامل حكومات غربية مع من وفد اليها من عرب ومسلمين، بل الهجوم على حضارة تلك الدول ونعت أنظمتها بالديكتاتورية مع ان أولئك الكتاب والمفكرين ينعمون بحرية لا يجرؤون على الحلم بها في أوطانهم العامرة التي فروا منها أو يكادون. 6 - تدل لغتنا المستعملة، مرة اخرى، على ميل فينا الى تبرير التخلف وإدعاء الاعجاز عندما نسارع كلما سمعنا عن كشف أو اختراع الى البحث في دفاتر تاريخنا عن قصة يمكن الركون اليها للقول أننا سبقنا من اكتشف أواخترع، وياللجهد الذي يُبذل في هذا الشأن لتطويع لغة لزجة يتعذر الإمساك بالمعاني التي تتزحلق خلالها. ولدينا ثروة لغوية تراكمت في سنوات قليلة توحي بأن حضارة العصر الغربية هي حضارة محض مادية نرى في عيوبها ولكل حضارة عيوب وفي أعراضها الجانبية دليلاً على اشرافها على الإنهيار ونتداعى، نثراً وشعراً، الى إنقاذها من إنهيار محتوم، وذلك بتقديم ما هو مكتوب من تعاليم ديانتنا إليها، تلك التعاليم التي لا نعمل بها إلا لماما. 7 - من منا لا يسمع لغة الندية عندنا مع دولة كبرى، ومع أن واقع الموازين الدولية هو الذي يفرض قواعد المعاملة وأن ليس هناك عيب في عدم تكافؤ العلاقة بين الكبير والصغير، ومع أن حقيقة أية علاقة بينهما هي غير متكافئة، فإن ما فينا من رغبة لتلوين الحقائق يدفعنا الى صوغ لغة تختلط فيها الألوان، بحيث تبدو الصورة مختلفة عن "النيغاتيف". 8 - تدل اللغة عندنا على فكر يفضل الوهم على الحقيقة، فما لا نقدر عليه عملا ننسجه لغة ثم نستريح. فعندنا لا يفاجأ القارئ بوجود أخبار وأحاديث عن انطلاقة كبرى في الاقتصاد، أو عن افتتاح اكبر مصنع في العالم أو عن صدور كتاب لمفكر عالمي أو تصوير فيلم شديد العالمية. كما لم يُفاجأ المتجول في شوارعنا، وهو يقرأ لافتة على محل لتأجير الدراجات، كتب عليها "الورشة العالمية الكبرى"، أفلا يذكّر هذا السلوك اللغوي بقول من قال "إني فخور بأني شخص متواضع". 9 - وقصتنا مع حقوق الانسان قصة مثيرة فنحن أكثر ميلاً الى تعكير صفو بساطتها وذلك بتعقيدها لغويا ونبدأ دائما بالقول أنها بضاعة غريبة وان لنا مفهوما خاصا في شأنها، ونسارع حالما نفرغ من عملية الخلط اللغوي، الى الإنصراف عما يُهدر من حقوقنا الانسانية، والذهاب الى ما مارسه أو يمارسه الغربيون واليهود على بعض من شعوبنا، مركزين على فكرة ان المتقدمين يعترفون بحقوق الانسان لأنفسهم وينكرونها على غيرهم من الشعوب. هنا تصبح اللغة أداة لتبرير إهدار حقوق الانسان بيننا ومحاولة لصرف اسماعنا عن حديث الآخرين عما يحدث لنا، وكأن ليس من شأن دعاة تلك الحقوق في الغرب ان يتباكوا على الحال المزرية التي وصلت اليها عندنا، ما داموا هم يظلمون غيرهم من الشعوب. ان اللغة المستعملة هي سلوك يعبّر عن اسلوب، واسلوب يعبر عن سلوك وهي تنضح بملامح شخصيات الذين يستعملونها، فهي صورة شفوية او مكتوبة لتفكيرهم وهي أيضا الموجه لمسيرتهم عبر حقائق الحياة. ولا يحتاج المرء الى بذل جهد كي يتبين اننا نسرف في الإعتماد على لغة نصنعها لتشكيل الحقائق في أذهاننا بالشكل الذي نتمناه، كما نسرف في اللجوء الى اللغة لمواجهة المسائل التي تطرح نفسها علينا ونستخدمها، ليبدو الواقع كأنه تغير الى ما نريد. فلغتنا أداة تضللنا ونضللها، ونحن نبدو في هذا وكأن لا سلاح لنا تجاه حقائق حياتنا إلا الكلمات وهي عدتنا الوحيدة التي لا نرغب في امتلاك عدة غيرها. لذلك نرى كيف ان معظمنا لا يزال عزوفاً عن أدوات العصر مفضلا في سعيه الى أهدافه اكتشاف سيف البلاغة ورفع راية البيان. إن الكلمات لا تزال وسيلتنا للتعامل مع كل خير الحياة وكل شرورها. أو لا نحفظ ونردد حتى في عبادتنا أدعية بليغة وكأننا نظن ان للبلاغة دخلاً في استجابة الخالق العظيم جلّ جلاله لما نتضرع إليه به من دعاء؟ * رئيس الوزراء الليبي السابق.