بات الاهتمام باللغات الأخرى والتعاطي معها أمرا ملحوظا في أوساط المجتمع السعودي، وعوملت وكأنها حضارة بحد ذاتها.. وصلت إلى التنصل من العربية وازدرائها، وبما أن انهيار اللغة أو تهميشها لأي شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم هو أمر كفيل بانهيار حضارة شعب بأكمله، لفقدانه روابط التواصل الثقافي والفكري والمعرفي مع الشعوب الأخرى. وقد طالب عدد من المختصين من خلال جريدة «الرياض» ب ضرورة المحافظة على لغتنا العربية كتابة وتحدثا ، وحملوا المثقفين وقادة العملية التعليمية مسؤولية العناية باللغة العربية، باعتبارهم القادرين على تعزيز ثقافة الأمة وهويتها من خلال قراراتهم الناضجة التي تستجيب لمعطيات العصر. "لغة مقدسة" الرشيدي: تهميشها انهيار للهوية وحول هذا قال الباحث حمد الرشيدي: أولا علينا أن ندرك أن تعلم اللغات "تعلما ذاتيا" أو دراستها، على سبيل التخصص العلمي أو الأكاديمي لا يعني بتاتا التنصل من اللغة الأم. ثانيا: قضية "التنصل" مسألة شخصية، تتوقف بواعثها ودوافعها على الشخص نفسه، وهي تختلف من شخص الى آخر باختلاف الأسس والمبادئ والأفكار التي يؤمن بها أو يعتقدها هذا الشخص أو ذاك في حياته. أي باختصار أن التنصل مسألة ليست محصورة في التنصل من اللغة فحسب، وإنما قد تشمل أيضا التنصل من الدين والأخلاق والقيم والوطن والانتماء للأصل والهوية والجنس وغيرها، ولا ينبغي علينا حصرها في الجانب اللغوي وحده دون غيره. فالتنصل إذا كمبدأ وارد، ووقوعه أمر محتمل الحدوث، سواء من اللغة أوالدين والقيم، أو الأخلاق أو غيرها. وأضاف الرشيدي: أن الاهتمام باللغات الأخرى والتعاطي أمر له ضوابطه وحدوده وأهدافه، التي يفترض أن يكون أحد شروطها الأساسية "عدم الغاء الثقافة الأصل، أوتهميشها لصالح ثقافة الآخر" ، وإلا سوف تنتفي الاستفادة الكاملة من تعلم اللغات ودراستها كما في الآداب المقارنة مثلا أو علوم الترجمة، والتي لن تتحقق الفائدة منها على الوجه المطلوب إلا بموازنة الأهمية بين اللغة الأم للدارس أو المتعلم وبين اللغة المكتسبة، دون ترجيح أحد الطرفين في هذه المعادلة اللغوية على حساب الآخر. وأكد بأن اللغة العربية تختلف تماما عن سائر اللغات البشرية التي عرفها الانسان قديما وحديثا، فهي ليست مجرد لغة فحسب، وإنما هي أكبر من ذلك بكثير، لكونها لغة مقدسة "لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة" ولذلك وجب احترامها، ولا يجوز المساس بها بأي شكل من الأشكال، فضلا عن ازدرائها. ولذلك فهي مستثناة هنا من النظر اليها كغيرها من لغات العالم بقديمها وحديثها. وغيرها من اللغات الأخرى التي حتى وإن وجب علينا احترامها وتقديرها والاعتراف بأهميتها، إلا أنه ليس لها أي صفة قدسية على أي حال. مشيرا إلى أن انهيار اللغة أو تدهورها وضعفها أو تهميشها لأي شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم سواء العرب أو غيرهم بالتأكيد، هو أمر كفيل بانهيار حضارة هذا الشعب أو ذاك, لفقدانه روابط التواصل الثقافي والفكري والمعرفي مع الشعوب الأخرى. وحول أهم المخاوف المترتبة على تهميش ثقافتنا الأم واللهاث خلف الثقافات الأخرى قال الرشيدي: أظن من فائض القول إذا قلت هنا إن تهميش ثقافتنا الأم له أضرار سلبية بالغة الأثر حاضرا ومستقبلا، فهو تنصل من الهوية والأرض والانتماء وسلخ لماضي حضارتنا العربية والاسلامية العريقة وأصالتها عن حاضرها ومستقبلها. "انفتاح سلبي" أبو ملحة : تلقف الآخر .. انهزامية من جانبه قال الناقد أ.د محمد أبوملحة: إن الانفتاح على اللغات والحضارات الأخرى بشكل عام أمر محمود وله نتائج إيجابية، ولكنه في الوقت ذاته يحمل بعض الإشكالات والسلبيات حين يتم التعامل معه بطريقة انهزامية تستهلك فقط. وأضاف : إن اللغة "أي لغة" هي حضارة وفكر وقيم معينة يكتسبها الإنسان حين يتعلم تلك اللغة، وحين يتخلى المرء عن الاعتزاز بلغته الأم وينخرط في التشبع باللغة الأخرى فهو في الحقيقة يتخلى عن هويته وذاتيته. وأشار أبوملحة أن الشخص الناجح هو الذي يستطيع الموازنة بين تعلم لغة أو عدة لغات والاعتزاز بهويته اللغوية والحضارية والثقافية. وأما الانخراط في اللغات الأجنبية والانهزام أمامها فهو مزلق خَطِر، من حيث إنه ذوبان للهوية وإهتزاز للشخصية الثقافية والحضارية للمرء. والأخطر من ذلك حين يكون هذا الانهزام والذوبان على مستوى المجتمع، حيث إن هوية الشخصية المجتمعية في تلك الحالة تكون عرضة للاهتزاز والاضطراب. وتابع: إن الأمم الواعية لا تنغلق دون الثقافات والحضارات واللغات الأخرى، لكنها في الوقت ذاته تضع مسارات واضحة للتثاقف العلمي والمعرفي مع تلك الثقافات والحضارات، بما يضمن لها المحافظة على هويتها اللغوية والحضارية مع القدرة على التعامل والتفاعل بندّية مع اللغات والثقافات الأخرى. وأردف أبو ملحة: وتزداد أهمية ذلك حين يكون الحديث عن لغتنا العربية، فهي لغة ديننا الإسلامي الخاتم للأديان، وهي لغة حضارتنا العربية والإسلامية التي امتدت شرقًا وغربًا إلى أقاصي المعمورة، كما أنها ضاربة في أعماق التاريخ، واللغة العربية في الوقت نفسه "كما نؤمن وكما تؤكد الدراسات اللغوية والحضارية" هي لغة المستقبل، فهي محفوظة بحفظ الله سبحانه لكتابه العزيز، ومن جانب آخر أكدت دراسات لغوية في مراكز أبحاث أجنبية أنه بحلول العام 2050 سينقرض ثلث لغات العالم اليوم بينما سيتوسع حضور اللغة العربية وسيتضاعف عدد الناطقين بها. مؤكدا على أن كل هذه المؤشرات والتطمينات لا تعفينا ولا تعفي المسؤولين في الدول العربية من تحمل مسؤولياتهم تجاه ترسيخ الاعتزاز باللغة العربية والإنتماء إليها من خلال الخطاب الرسمي الواعي، والممارسات الإعلامية الناضجة، والفعاليات الثقافية الأصيلة، وكذلك من خلال السياسة التعليمية الرشيدة التي تتبنى التثاقف مع الحضارات الأخرى وفي الوقت نفسه ترسخ الانتماء للثقافة العربية والإسلامية. "سيادة وتاريخ" الحربي: المفردة الأجنبية تميت نظيرتها وقال الأديب والشاعر أحمد الحربي: أن الإنسان من أهم العناصر القوية التي تحافظ على اللغة، فاللغات تنمو وتسمو بسمو إنسانها العلمي والفكري والمعرفي، فهي كائن حيّ تعيش وتنمو وتزدهر إذا توفرت شروط الازدهار والعكس يجعلها تضمحل وتموت وتفنى. والاهتمام باللغات الأخرى غير العربية والتعاطي معها يكسبها قوة وعزة ومنعة ويميت اللغة العربية. موضحا بأن أهل اللغة هم المسؤولون عن لغتهم والحفاظ عليها، والمسؤولون عن الإعلام الحديث تقع على عاتقهم مهمة ليست سهلة في الحفاظ على اللغة وموروثها، فالانزلاق الإعلامي إلى بعض المفردات الأجنبية يؤدي إلى انتشار المفردة في مقابل موت ما يقابلها في العربية، كما أن استخدام اللهجات المختلفة يفكك اللغة ويحيلها إلى لهجات دارجة تضيع بسببها قوة اللغة التي كانت تتسيد العالم عندما كان العرب سادة العلم والفكر والثقافة. وألمح الحربي إلى أن المخاوف المترتبة على تهميش ثقافتنا الأم كثيرة، ومادام أن الإنسان هو المسؤول عن ثقافته، فإن قوته قوة وضعفه ضعف، وفي حال تهميش الثقافة العربية الأم فسيكون العرب في ضعف وهوان ويتشبثون بالتبعية والاتكال على الغير والتغني بماضينا التليد،, دون رعاية وعناية بالحاضر، فيجب أن نعتز بلغتنا ونفتخر بها وندعمها للوصول إلى المرتبة الأولى عالميا وليس ذلك ببعيد. "خدمات الطالب" الغريبي: أضاعوها أنصاف المثقفين وقال الكاتب سعد الغريبي: لا أتصور أن أي مثقف في أي زاوية من العالم يفكر مجرد تفكير في أن يتعلم لغة أخرى قبل إتقانه للغته الأم. اللغة ليست للاتصال بين الناس والتعايش معهم فحسب، بل هي الوعاء الذي يستوعب الأفكار والثقافات. كيف لمن لا يمتلك نواصي لغته أن يقرأ تاريخه ويطلع على كنوز حضارته، فضلا عن قراءة كتاب الله الكريم وفهمه وتطبيق أحكامه. الذي أراه يجعل أنصاف المثقفين يتهافتون على اللغات الأجنبية قبل إتقانهم لغتهم هو عجزهم عن إتقان لغتهم وظنهم أن اللغات الأخرى أيسر من لغتهم وأنها هي لغة العصر والحضارة والتقدم العلمي. هل يظن هؤلاء أن هناك لغات دون قواعد نحوية وصرفية؟ ودون نظام لغوي يحكمها؟ ودون مترادفات ومعان حقيقية ومجازية؟ حتى اللهجات العامية بل واللغات البدائية لها أنظمتها وقوانينها. ومن يفشل في إتقان لغته وحضارته فهو لما سواها أكثر فشلا، وما هذه الدعوات التي نسمعها من حين لآخر بصعوبة اللغة العربية وعدم جدواها والتقليل من شأنها إلا دعوات مجحفة ومردودة على أصحابها لأنهم يصدرونها عن غير علم وعن عدم اطلاع. كيف تصف لغة بالصعوبة وأنت لم تعرفها ولم توازن بينها وبين اللغة الأخرى؟ وأضاف: لماذا تفوقت أجيال من مثقفي ومفكري الأمة العربية وهم لم يتخرجوا من جامعات؟ ولماذا كان من يتخرج لدينا في الماضي من "الكتَّاب" ومن المدارس الابتدائية في أول ظهورها بالمملكة بعد دراسة سنوات يسيرة توكل له مهام التدريس ويكون جاهزا لوظائف الدولة، بل ويصبح قادرا على التأليف والإبداع؟ والسبب هو أن "الكتّاب" والمدرسة الابتدائية في ذلك العصر يركزان في تدريسهما على إتقان المهارات الأساسية للتعلم ومن أهمها القراءة والكتابة، وإذا أتقن المرء القراءة ملك زمام العلم والثقافة وأصبح قادرا على الإبحار في مجاهلها وغياهبها. وزاد: لنرَى ما يحدث للطلبة المبتعثين، فهم يفرغون لتعلم اللغة أولا وقبل أن يدرسوا ساعة واحدة في الفرع الذين ينوون التخصص فيه. لماذا لا يسمح لمن لم يتقن اللغة بمواصلة دراسته؟ لأنه سيصبح عبئا على الجامعة ولن يتعلم أبدا! وبين الغريبي أن طلابنا بعد اثني عشر عاما من الدراسة ينتقلون إلى الجامعة وهم لم يحسنوا لغتهم! وبالتالي لا يحسنون التفكير بها ولا توسيع مداركهم بالإطلاع على المراجع والمصادر التي تتطلبها الدراسة الجامعية، ويكونون كذلك غير قادرين على الكتابة السليمة الواضحة المعبرة عن أفكارهم، فيلجؤون إلى دكاكين البحث المستترة تحت عناوين "خدمة الطالب". وهذا الطالب الجامعي بعد أربع سنوات سيكون مدرسا وموظفا وباحثا! واختتم قائلا : لا شك أن الاطلاع على حضارات الأمم وثقافاتهم لا تتأتى إلا بالقراءة الجادة لنتاجهم، والأفضل أن تكون باللغة التي كتبت بها. صحيح أن هناك من أبناء الدول التي وقعت تحت الاستعمار مدة طويلة فقضت على لغتهم وشيء من حضارتهم كتبوا باللغة الأجنبية وأبدعوا فيها حتى أصبحوا من الرموز في الفكر والإبداع، لكن هؤلاء يُعدُّون من أبناء اللغة التي نشأوا في حضنها، وإن كان الواجب عليهم بعد أن تحررت بلادهم وأصبحوا ممن يشار لهم بالبنان في بلاد المستعمر أن يعيدوا قراءتهم لتراثهم وحضارتهم وأن ينقلوا كنوز العربية إلى العالم أجمع. حمد الرشيدي أ.د محمد أبوملحة أحمد الحربي سعد الغريبي