زائر السرايا الكبير، مقر رئاسة مجلس الوزراء في لبنان، يستطيع، عند الباب الخارجي، مكالمة أي موظف يريد بواسطة الهاتف الداخلي. فهو ان طلب أحد الرقمين 218 أو 219 يرد عليه، مبدئياً، د. حسني المجذوب، ويجيب غسان طاهر على الرقم 125. أما للاتصال بأبو طارق العرب يستحسن استخدام أحد الرقمين 250 أو 4016. اذا فعل الزائر ذلك فإنه معرّض لأحد احتمالين: إما أن يرن الهاتف من دون جواب، وإما أن يسمع صوتاً غير صوت الذي يود التحدث اليه. ليس هذا الخطأ فنياً. انه خطأ بيروقراطي قابل، في بعض التفسيرات، لأن يكون سياسياً. والسبب في ذلك ان المذكورة اسماؤهم غادروا السرايا قبل أسابيع وبينهم من غادر لبنان أصلاً. فهم ينتمون الى فريق عمل الرئيس السابق رفيق الحريري ولم يعودوا يملكون ما يفعلونه في هذا المقر العزيز على قلوبهم. ومع ذلك فإن اسماءهم لا تزال... واردة! هل يكون هؤلاء من "الأشباح" الذين يقضون مضاجع الرئيس سليم الحص سواء في السرايا أم خارجها؟ هل التكاسل في تغيير الاسماء دليل على أن هناك، في السرايا، من يرفض تصديق التغيير الذي حصل؟ هل هناك من تعمّد "ارتكاب" الخطأ من باب ترجمة الشائعة التي تقول ان الوضع الحالي موقت وان الحريري عائد، مع رجاله طبعاً، بعد ستة أشهر كحد أقصى؟ تعكس هذه الأسئلة جانباً من الأجواء التي تعيشها العاصمة اللبنانية. فهي تعيش، بمعنى أو بآخر، صدمة غياب الحريري. هناك من يعيش الأمر كأنه حلم من أحلام اليقظة. وهناك من يعيشه كأنه كابوس. ولكن ما لا شك فيه ان الرجل حاضر بقوة على رغم غيابه المتمادي والمتعمد؟ عن بيروت. لا عجب في ذلك. فالذين عارضوه على امتداد السنوات الست الماضية فعلوا ذلك لأسباب كثيرة بينها انه اجتاح الادارة، والأعمال، والاعلام، والثقافة، والسياسة، والعلاقات الخارجية... تمدد في ثنايا الوضع اللبناني الى حدٍ بات يقال ان لا رئيس للوزراء غيره قبل عقد أو عقدين، وان الاستقرار النقدي مرتبط باسمه والا فالكارثة، وان حضور لبنان في الخارج مصدره هذه الدينامية التي يملكها معطوفة عليها "العلاقات الشخصية" و... الطائرة الخاصة. وبلغ التسليم بهذا الوضع حداً دفع بعضهم الى القول ان كتب التاريخ ستتحدث عن عدد رؤساء الجمهورية الذين "عبروا" عهد الحريري. ولم يتردد أحد مريديه في المفاخرة بأن طلّته باتت صنو لبنان كما كوفية ياسر عرفات بالنسبة الى فلسطين. ولكن، مع ذلك، خرج الرجل اخرج؟ من السلطة. تصل الى بيروت عبر مطار الحريري، وتسلك اوتوستراد الحريري، وتصل الى سرايا الحريري، وتطالعك اسماء رجال الحريري. ولكن لا "حريري" في السلطة. وهذه "المنجزات" كلها التي لا يجادل أحد في ضرورتها تجد من يشكك في جدواها وفي حجم الانفاق عليها وفي امكان أن تكون أكثر تواضعاً. ليس الخلاف خلاف ذوق، انه خلاف على القدرات وتوزع المستفيدين من هذه الانشاءات. وبما انه كذلك فإن الحريري، بعد ابتعاده عن الحكم، قادر على صياغة جدول أعمال السلطة الجديدة. تتحدث، ويتحدث البلد، عن الموازنة فيكون هو الحاضر - الغائب. وكذلك عن الاصلاح الاداري، أو التوازن السياسي، أو العلاقات الخارجية. ويجدر القول، بادئ ذي بدء، ان السجال محتدم. من الصعب ان تجد محايداً. من السهل ان تجد مرتاحاً الى خروج الحريري. لكنها راحة لا تولد عصبية شديدة الاندفاع في الدفاع عن الحكومة الجديدة. ومن السهل جداً ان تصادف جواً استنفارياً يعتبر ما جرى كارثة محققة. وهو يتشكل من "يتامى الحريرية" الذين يتصرفون كمن يعيش جرحاً في كبريائه ومصالحه. ويذكّرون من دون قصد بما عاشته أوساط أخرى مارونية تحديداً بعد اتفاق الطائف وانتخابات 1992 المشهودة. كما أنه يتشكل ممن يمكن تسميتهم ب "الحريريين الخجولين" أيام كان الرجل في السلطة، إلا أنهم اشهروا انتماءهم بعد ابتعاده وشعروا بفراغ غيابه وزادتهم تصرفات ثأرية طائشة تمسكاً بهويتهم الجديدة. إذا كان السجال، عند مستواه الشعبي، يطاول قضايا الاصلاح الاداري والتوازن السياسي وأوضاع الحريات، والسيطرة على الاعلام، الخ... فإنه في دوائر أخرى يتركز على موضوع جوهري: العجز في الموازنة وما يتسبب فيه من تفاقم للدين العام. العجز هو "ام المشاكل" في لبنان. فهو يؤدي الى الاستدانة، والى ارتفاع الفوائد، والركود الاقتصادي بالتالي، وبما ان الركود يرتد تراجعاً في النمو ونقصاً في مداخيل الدولة فإنه يعيد انتاج الحلقة المفرغة ويدفعها، أكثر فأكثر، نحو منطقة الخطر. وبما ان أحداً لم يعد يجادل، بمن في ذلك الحريري نفسه، في ان الدين بات يفوق الناتج المحلي فإن الجهود منصبة على معالجة عجز الموازنة أولاً. كان رئيس الوزراء السابق يتوقع التوصل الى توازن في حدود 1996 أو 1997 على أبعد تقدير. لكن حساب الحقل وحسابات البيدر لم تتطابق. ولذا فإنه كان كلما ذكر وزير الدولة السابق لشؤون المال فؤاد السنيورة رقماً يحدد العجز زاد عليه الخبراء نسبة معينة وتبين، لاحقاً، انهم كانوا على حق. ولذا تم الانتقال من الدفاع الشامل عن الخطط الاقتصادية الى خط ثان يفصل أسباب تراكم الدين وما تتسبب فيه فوائده من عجز. بات يتم الاستغراق في شرح تفاصيل الانفاق ل "تبرئة" الحريرية من تهمة رئيسية لحقت بها وهي الانفاق المبالغ به على "اعادة اعمار فرعونية". ولكن، بغض النظر عن هذه التفسيرات، تبقى المشكلة قائمة. هذا أولاً. وهي ليست من مسؤولية الحكومة الحالية. هذا ثانياً. ولقد كان مقدراً ان يكون الحريري في السلطة حالياً لمعالجة هذه المعضلة لولا أنه وجد أسباباً سمحت له بالانتقال الى موقع آخر. ولذا يمكن القول، بلا مبالغة، ان حكومة الحص هي "حكومة طوارئ" مكلفة "خطة انقاذ". تضم الوزارة الحالية، حتى باعتراف عدد من "عتاة" الحريريين اشخاصاً كفيين ناهيك عن النزاهة ونظافة الكف وهما صفتان لا تكفيان في هذه الحالة. غير ان من الواضح ان علاقاتهم في ما بينهم مستجدة، وهم قادمون من مواقع متباينة تتراوح بين الحماسة الى دولة الرعاية وزير المال جورج قرم والانتماء الى المدرسة النيوليبرالية وزير الصناعة والاقتصاد ناصر السعيدي، وغيره.... إلا أن الرئيس الحص يلعب ضمنها الدور الترجيحي وهو يريد له أن يذهب في الاتجاهات الآتية: اولاً، الاستمرار في السياسات التي عرفها لبنان منذ الاستقلال وأكد عليها الحريري: الاستقرار النقدي، حرية تحويل الرساميل، السرية المصرفية، الضرائب المنخفضة على الأرباح، الفوائد الحامية لسعر الليبرة، الخ... وعندما يتحدث الحص الى "الحياة" أو غيرها عن ذلك فإنه يرفع هذه المبادئ الى مستوى الاقانيم التي لا يجوز مسها، متذرعاً بأن عصر الخلافات الايديولوجية انتهى وبأن هذا التوجه بات معتمداً على صعيد عالمي. هذه "ثوابت". ثانياً، طالما ان التمايز عما سبق من نهج صعب فإن الجهد ينصب على ايجاد سبل لخفض النفقات: ترشيد الانفاق، مكافحة الهدر، التقشف في الأداء الحكومي، الاصلاح الاداري، إعادة النظر في مشاريع أو، على الأقل، في كلفتها... ثالثاً، التركيز على زيادة الواردات. وهنا يؤكد الحص ان هذا هو "جديده". فهو يصر على اعطاء الأولوية للواردات غير الضريبية بعدما جرى انهاك الفئات الوسطى والفقيرة بالرسوم. ويذهب التفكير، في هذا المجال، نحو ايجاد حل مرض للاملاك البحرية، وتجديد التفاوض مع شركات الخليوي، وتحسين الجباية، وتوسيع قاعدة المكلفين، و... الخصخصة! وكان من الطبيعي ان يثير العنوان الأخير موجة تساؤلات تطاول ما يمكن "تخصيصه" فعلاً في لبنان وتستحضر الاعتراضات السابقة على اجراءات أقدم عليها الحريري وبدت انها تذهب في هذا الاتجاه في البريد، والمطار، والتنظيفات، الخ.... لقد ارتفعت أصوات محسوبة على الموالاة تساجل ضد هذه الفكرة. وردت الحكومة بشرح متعثّر بعض الشيء لضروراتها غير انها احتمت بأنها ستحيل على المجلس النيابي قانوناً يشرح الخطة ويلزم بأعلى قدر من الشفافية. يعترف خبير اقتصادي يشارك في "نصح" العهد الجديد بأن القدرة على خفض الانفاق وزيادة الواردات محدودة وانها تكاد لا تؤمن توازناً في الموازنة الأولية أي تلك المحتسبة من دون فوائد الدين العام. ويوافقه وزراء في الرأي معتبرين ان الانضباط ب "الارثوذكسية المالية" يدفع نحو اعتماد خطة خمسية، على الأقل، من أجل كسر الاتجاه الحالي والتقدم نحو ضبط نمو العجز والدين تمهيداً، بعد مواجهة الأول، للشروع في حل المعضلة الثانية. والواضح، حتى الآن، ان أحداً لا يجرؤ على الخروج من دائرة التفكير هذه مع انها تعني السعي الى حل "مشكلة حريرية" بوسائل "حريرية". فالمعارضة السابقة التي باتت في السلطة اليوم كانت تبدو، بالأمس، أوسع خيالاً وأكثر جرأة. فهي "أقدمت" على التفكير في الأسعار العالية للفوائد مقترحة خفضاً محدوداً لها، وهي دعت الى ترك الليرة تنخفض أمام الدولار بهدوء بدل أن توالي ارتفاعها في وقت كان يحصل عكس ذلك في العالم كله. وهي كانت تركز على ايلاء القطاعات المنتجة اهتماماً أكبر وذلك على رغم صعوبة الأمر في ظل المعطيات اللبنانية. لم يعد هذا الكلام حاضراً بقوة في الخطاب الحكومي الحالي. ربما أدت رؤية بيروت من تحت الى الشعور بأن الرؤية من فوق كانت ناقصة. وربما كان السبب الخوف من أي تدبير يوحي بانعطاف ما، ولو بسيطاً، مع ما قد يعنيه ذلك من تخويف للمستثمرين وهم، على كل حال، قلائل اصلاً. ان الخيارات ضيقة أمام الحص، وهي كانت ستكون كذلك لو أن الحريري بقي رئيساً للوزراء. لكن الفرق هو أن الأول غير مسؤول عن هذا الوضع ولو أنه سيحاسب على النجاح أو الفشل في معالجته. وهو يحاول، حتى الآن، بأسلوب محافظ نقدياً ومالياً رافضاً اقتراحات يقدمها اليه الدعاة الى الخروج عن "الثوابت" و"الأصولية النقدية" أو اولئك المشجعون على الاندفاع الى الأمام على درب الانفاق خوفاً من انكماش يزيد صعوبة الوضع الاقتصادي. وإذا كان الحريري ميالاً الى الخيار الثاني فإنه يتعمد عدم تركيز الاعتراض على السياسة النقدية والمالية الحالية. ويصل الأمر احياناً الى حد "تباهيه" بأنها استمرار لنهجه وهو أمر يدفع نحو استغراب الحملة التي تشنها وسائل اعلامه على الحكومة التي يشبهها بعضهم ب "الحملات الواكيمية" نسبة الى النائب نجاح واكيم على الحكومات السابقة. وعندما يخرج نصير للحريري عن طوره فإنه يقول شاتماً الحكومة الحصية "انها تنفذ سياستنا"! وتعليقاً على هذا الواقع يروي مراقب سوري للأوضاع اللبنانية "الطرفة" التالية: كان لينين يخطب في جمع من الفلاحين فلاحظ وجود أكثرية من الاشتراكيين الديموقراطيين بينهم فعدّل في كلامه. صرخ أحدهم في وجهه "لكنه برنامجنا" فأجاب لينين "نعم، لكنه يليق بنا أكثر". والقصد من ذلك ان هناك قدراً أكبر من الاطمئنان الى الفريق الحالي من أجل تنفيذ سياسات سابقة بعد تنقيتها من شوائبها... ورموزها. ان ما يحصل في لبنان، بهذا المعنى، شبيه بما يحصل في بلدان أخرى كثيرة. فتراجع الفروقات البرنامجية على الصعيد الاقتصادي - الاجتماعي يدفع نحو التركيز على التمايزات في مجالات أخرى: الادارة، السياسة، الحريات، علاقة المواطن بالدولة، وزن الانتماءات الوسيطة ودورها، الخ...