تشهد السياحة المصرية منذ العام 1980 ازدهاراً غير مسبوق. وتمكنت الحكومة المصرية، بفضل وسطية نهجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، من تهيئة مناخ ومقومات الانطلاق. وكان الاختيار الصعب والصحيح هو البدء من حيث ينبغي، أي إقامة بنية تحتية متطورة لا يمكن من دونها تحقيق تنمية اقتصادية وصناعية وزراعية. وبفضل تلك السياسات بدأت مصر، وللمرة الأولى، دخول عصر صناعة السياحة الشاملة بعدما عرفت على مدى قرون سابقة بأنها مقصد سياحي للنخبة الثقافية القادمة من أجل منتج سياحي واحد هو الآثار الفرعونية الخالدة، وهي سياحة محدودة العدد بطبيعتها. فحلم زيارة شواهد الحضارة المصرية الفريدة الذي يكمن في وجدان الانسانية يمكن تحقيقه بزيارة واحدة في العمر كله. وهكذا افتقدت مصر في الماضي أهم سمات صناعة السياحة العصرية، وهي تكرارية الزيارة واتساع حجم السياح ونوعيتهم مع تزايد المنتج السياحي وتنوعه. وفي منتصف الثمانينات بدأ بعض مشاريع التنمية السياحية على ساحل خليج العقبة في جنوبسيناء، وكانت سبقتها عمليات رائدة للتنمية السياحية في منطقة الغردقة على ساحل البحر الأحمر. وبمرور الوقت اضيفت الى طاقة مصر الاستيعابية عشرات القرى السياحية والمنتجعات الشاطئية الجميلة، ما أضاف الى جاذبية مصر، كمقصد مميز للسياحة الثقافية الاثرية، قمة جديدة في مجال سياحة المنتجعات التي تحظى بطلب متزايد عالمياً، وبدأت العجلة الضخمة تدور على طريق السياحة العصرية المتعددة المنتج. وبين منتصف الثمانينات ومطلع التسعينات، شهدت السياحة المصرية فترات صعود وهبوط، وعبرت أزمات عدة كانت لها تداعياتها المباشرة على حجم السياحة الوافدة، بدءاً من أزمة الباخرة الإيطالية "اكيلي لاورو" التي خطفت عام 86 من مصر، مروراً بالغزو العراقي للكويت وما أعقبه من حرب كانت لها تداعياتها المباشرة على حجم السياحة الوافدة، وصولاً حوادث الارهاب والتضخيم الإعلامي الغربي الذي رافقها. وكان تراكم تداعيات هذه الأزمات المتعاقبة شديد الوطأة على قطاع السياحة ما أدى إلى هجرة بعض الكفاءات المدربة، وخروج بعض المنشآت السياحية من النشاط، وتراكم الديون على البعض الآخر. وزاد من صعوبة الموقف وجود مجموعة معوقات وقيود إدارية وقانونية وتنظيمية حدّت من التوسع في نشاط هذا القطاع، ووقفت حائلاً دون انطلاقه ليسهم بدوره بالقدر الكافي في التنمية الاقتصادية. وخلال عام 93، دخلت السياحة المصرية في عمق الأزمة بعد ذروة تحققت عام 92، قوامها 2،3 مليون سائح رغم أن هذا الرقم لم يكن يشكل سوى أقل من واحد في المئة من إجمالي حركة السياحة العالمية آنذاك. وانحسرت الحركة الوافدة بنسبة 8،21 في المئة والليالي السياحية بنسبة 9،30 في المئة والايرادات السياحية بنسبة 38 في المئة، واستبعد كبار منظمي الرحلات الأجانب مصر من برامجهم، وأسهمت بعض أجهزة الإعلام الغربية، بصورة مجحفة، في تكوين "صورة ذهنية سلبية" عن المقصد السياحي المصري في الخارج، وتعميق حال من الخوف وإنعدام الثقة. ومع انحسار الحركة الوافدة كان طبيعياً أن تشهد التنمية السياحية بدورها انحساراً مماثلاً، فلا المشاريع التي كانت في طور الاكتمال استطاعت استكمال العمل، ولا المستثمرون وجدوا حافزاً قوياً يشجعهم على توظيف أموالهم في مشاريع سياحية جديدة في ظل حال من التشكك في إمكان تشغيلها على أسس اقتصادية مربحة. استراتيجية جديدة للعمل وبعد استيعاب حقائق الموقف أواخر 1993 بدأت ملامح استراتيجية جديدة للعمل من أجل النهوض بقطاع السياحة المصرية. وساعد على بناء هذه الاستراتيجية ونجاحها استنادها الى رصيد متراكم من الانجازات السابقة التي اضيفت بفكر وبتوجيه كل من تعاقبوا على المسؤولية عن قطاع السياحة سواء على المستوى الرسمي أو الخاص، طوال الاعوام الپ20 الماضية. وكان قوام الاستراتيجية الجديدة: 1- تنشيط الحركة السياحية الوافدة من خلال حملة مكثفة للعلاقات العامة مع أجهزة الإعلام الدولية لتصحيح الصورة الذهنية عن مصر أولاً، ثم خطة تسويقية- إعلانية مدروسة، تجمع بين أكثر أدوات التسويق العصرية تأثيراً وفاعلية، والمشاركة النشطة في أهم المعارض والأسواق السياحية الدولية، واستحداث أجندة للمناسبات السياحية المحلية ذات الجاذبية الدولية. 2- تنويع المنتج السياحي المصري لتلبية أنماط وحاجات السياح، ومن ذلك الاهتمام الى جانب السياحة الاثرية، بسياحة المنتجعات والسياحة العلاجية وسياحة المؤتمرات والحوافز، والسياحة البيئية والصحراوية، وسياحة المهرجانات الفنية والثقافية والموسيقية والرياضية، وسياحة المشتروات وغيرها من الأنماط المستحدثة. 3- تنويع الأسواق المصدرة للسياحة إلى مصر بإضافة مجموعة من الاسواق الجديدة الواعدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وجنوب افريقيا وروسيا والدول الاسكندينافية واميركا اللاتينية الى مجموعة الأسواق التقليدية المعروفة في اوروبا واميركا حتى لا تكون السياحة المصرية أسيرة تأثير هذه الأسواق بنمط المعالجات الاعلامية الاجنبية غير المنصفة. 4- مساندة قطاع السياحة المصري الخاص لحل المشاكل التي يواجهها سواء مع أجهزة حكومية أو بين وحداته ذاتها أو من خلال وضع الإطار التنظيمي والتشريعي الكفيل بدفع حركته ورفع الاعباء عن كاهله. 5- الاهتمام بالجودة السياحية وبمستوى الخدمات المقدمة للسياح وللمستثمرين والارتقاء بمهارات وقدرات العنصر البشري، وتطوير أدوات العمل داخل الوزارة وهيئاتها بتطوير واستحداث مراكز للمعلومات وربط هذه المراكز بشبكات المعلومات المحلية والاقليمية والعالمية مثل شبكة "انترنت". 6- الاهتمام بتشجيع الاستثمارات السياحية الجديدة وفق خطط شاملة ترعى فكرة التكامل بين مشاريع كل مركز سياحي، وترعى البيئة ومقتضيات الحفاظ على مواردنا وثرواتنا الطبيعية النادرة، خصوصاً في البحار والصحاري لجعلها مصادر متجددة للدخل ولفرص العمل. وقبل بدء العمل التنفيذي في هذه المجالات كان من الضروري بلورة إطار فكري يحكم الحركة. وارتكز هذا الإطار على مفاهيم السياحة قاطرة التنمية الاقتصادية في مصر، والسياحة حالة اجتماعية، وضرورة تنويع المنتج السياحي المصري، وإيلاء السياحة العربية الأولوية، والعمل بالتوازي وليس بالتوالي على محاور التنشيط والتنمية والجودة السياحية. اهتمام رسمي وتمثل الاهتمام الرسمي جلياً بدفع جهود التنمية السياحية عبر الزيارات المتكررة للرئيس حسني مبارك لمواقع المشاريع السياحية وتشجيعه للمستثمرين بتذليل كل المعوقات التي كانت تواجههم، وزياراته المتكررة أيضاً للمواقع الأثرية ذات الجذب للسياحة العالمية للالتقاء بالسياح والاطمئنان الى أنهم ينعمون في مصر بالأمان والمتعة الثقافية الرفيعة. وحققت رعاية الرئيس مبارك لاجتماعات الدورة الپ11 للجمعية العامة لمنظمة السياحة العالمية في القاهرة في تشرين الاول اكتوبر 1995، ذروة النجاح لتلك الدورة. ومع تنامي الوعي العام بقيمة صناعة السياحة، وبروز المزايا الاقتصادية والاجتماعية العديدة لهذه الصناعة الواعدة، كان طبيعياً أن تحظى السياحة أيضاً باهتمام ورعاية الحكومة المصرية، وبرز ذلك منذ اليوم الأول لعمل حكومة السيد كمال الجنزوري عندما تم تشكيل مجموعة عمل وزارية خاصة بالسياحة ضمن مجموعات العمل الوزارية الأخرى، وعندما تم تمثيل وزارة السياحة في عدد من مجموعات العمل الوزارية وفي مجلس المحافظين ولجان تشجيع الصادرات والتخصيص. كذلك خصص مجلس الوزراء جلسة - هي الأولى من نوعها - في 7 شباط فبراير 1996، لمناقشة قضايا السياحة وإصدار مجموعة من القرارات لدفع جهود التنمية السياحية وإزالة المعوقات وتعظيم عوائد مصر من السياحة الوافدة. وبادر رئيس مجلس الوزراء بالدعوة الى عقد المجلس الأعلى للسياحة للمرة الأولى - بعد فترة جمود استمرت حوالي عشرة اعوام - لمزيد من مناقشة قضايا السياحة على ضوء ورقة العمل التي تقدمت بها الوزارة تعبيراً عن حاجات كل أطراف القطاع. وصدرت مجموعة مهمة من القرارات والتنظيمات والتشريعات التي وصفها الكثير من الخبراء بأنها كانت أشبه بحلم بعيد المنال. ونتيجة لذلك زادت السياحة الوافدة الى مصر خلال العام المالي 95/1996 لتتجاوز رقم 5،3 مليون سائح وهو ما لم يتحقق من قبل في تاريخ السياحة المصرية. كما ارتفع حجم استثمارات القطاع الخاص الموجهة للتنمية السياحية خلال الاشهر الستة الأولى من عام 1996 الى اكثر من 1،8 بليون جنيه. والدلالة القاطعة لهذين الرقمين أن مصر كانت في صدد مرحلة جديدة تماماً، لا علاقة لها بأي من مواصفات أو ممارسات الماضي، في صناعتها السياحية الواعدة. ولم تمر سوى شهور حتى اصيب قلب السياحة المصرية بسهم إرهابي مسموم في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1997 عندما قتل 58 سائحاً في معبد الدير البحري في الاقصر إثر هجوم مسلح، ما أثر في شدة على موارد البلاد، ودخلت السياحة المصرية نفقاً مظلماً طمس معالم أي تقدم، خصوصاً بعد تحذير العديد من الدول رعاياها من السفر الى مصر، وانخفضت حركة السياحة بنسبة 60 في المئة ونسبة الاشغال في الفنادق الى أكثر من 50 في المئة. ما بعد الأقصر ولم تأل الحكومة المصرية جهداً في تثبيت دعائم هذا المجال سعياً الى تجاوز تداعيات حادث الأقصر على رغم بلوغ الخسائر 684 مليون دولار. لكن تحدي الدولة كل المعوقات وتؤكد وجود تحسن كبير في أسواق عدة خصوصاً بعد تقلص نسبة الانحسار السياحي الى 8،12 في المئة فقط نتيجة جهود مكثفة وسعي دائم لتحسين وإثراء الأجندة السياحية. واجتذبت مصر العديد من الاجتماعات المهمة سياحياً من بينها اجتماع لمجموعة شركات ألمانية، وفعاليات المؤتمر السنوي ال41 لاتحاد شركات السياحة الفرنسية. ورب ضارة نافعة، فحادث الأقصر أكد مدى الترابط العربي إذ خصص وزراء السياحة العرب لدى اجتماعهم الطارئ في القاهرة عقب الحادث أن عام 98 سيكون عام السياحة الى مصر وربحت الأطراف المشاركة أكثر مما كان متوقعاً، وكانت النتيجة لم شمل السياحة العربية. وشهدت الحركة السياحية العام الماضي تحسناً مطرداً إذ استقبلت المناطق السياحية في مصر نحو 5،3 مليون سائح بانخفاض نسبي عن عام 96. ويبقى أن تبرز حقيقة جوهرية أن المشروع القومي الكبير الذي تقوده الدولة يهدف الى إقامة الدولة العصرية الآخذة بالحرية السياسية، والتقدم الاقتصادي والعدل الاجتماعي والحداثة التكنولوجية والتنوير الثقافي، وتلك جميعها عناصر متفاعلة شديدة الارتباط في ما بينها. والمؤكد ان المكون الاقتصادي لهذا المشروع القومي تتزايد أهميته في عالم تتسارع فيه التكتلات الاقتصادية الدولية، وصناعة السياحة العالمية تقع في قلب تلك التحولات. ومصر تتمتع في هذا النشاط المنتج بميزة نسبية وقدرة تنافسية كبرى، والانجاز في هذا القطاع ضخم، والطريق مفتوح الى المزيد والمستقبل مفعم بالأمل.