1 صباحَ يوم الثلثاء 16 نوفمبر. الماضي. فاجأتْني بعضُ الصحف المغربية. بخَبر. حريق شبَّ في معْرض الفنان المغربي المهدي القطبي. بمدينة لِيلْ الفرنسية. حريقٌ شبّ ليْلاً. في صمْتِ قاعةٍ للعَرْض. دون أن ينتبهَ أحدٌ لذلك. قبْل الصّباح. حيثُ اللوحاتُ التي كانت من قبلُ معروضةً. تحولَتْ الى حْطام. ورمادٍ. في الصباح علِمَ صاحبُ القاعَةِ بالحَريقِ. بعْدَ ليْلٍ من الهدْوء. الذي امتزج بلحظاتٍ منَ النّيرَان. لحظاتٍ كانتْ كافيةً لتدمير كُلّ الأعمال المعْروضَة. لوحاتٌ زيتيّةٌ. وأخرى على الورَق. كلُّها. احترقَتْ. في لحظاتٍ قصيرة. والجيران لا يدرونَ. شيْئاً. وفِرَقُ الأمْنِ لا تدري، شيئاً. والحارسُ لا يدْرِي. شيئاً. لحظاتٌ. أثْناء الليْل. في بردِ مدينَةِ لِيلْ. حريقٌ شبّ ليدمْر أعمَالَ فنّان. مغربيٍّ. مُقيم بباريس. منذ حوالي ثلاثين سنةً. إشارةٌ. ربّما لإلْقاءِ نظرةٍ. وهَا هِيَ النّيرانُ. تأكلُ. اللوحَاتِ. نقْضِمُهَا. واحدةً. واحدةً. في عِزّ الليل. في الهدوءِ الكَبِير. للشّارع. والأمكنة العمومية. ذلك ما قرأتُه، صباحَ الثلثاء. بألَمٍ هُوَ ألمُ منْ يرَى صديقاً أمام حُطامٍ. ورمَادِ. ما كَانَ وهَبَ حياتَه من أجْله. أعمالٌ تطلّب إنجازُها خمساً وعشرين سنة. بعمَل يوميٍّ. لا يتوقّف. عن مُعاودة العمل. بنفْس الحركيّةِ ذاتِها. التي تُنْعِش البصر وتدفعُ بالقلْبِ الى التّخُوم. الحُرّة. في النّهايات. وما بعْدَ النّهايات. أعمالٌ لحياةٍ. هي خمسٌ وعشرون سنةً. في مُصاحبة. اللّوحات. والأوْرَاقِ. والألْوَان. كيْفَ لي أن أقرأَ هذا الخبرَ المُفْجِع؟ صباحَ الثّلثاء. أقرأُ وأنا أتساءَلُ. عمّا يمكن أن يكون عليه حالُ صديقِي. لا أميّزُ بيْن سُؤال كهذا وأسئلة تداخَلَ بعضُها ببعْضٍ. في تلقائية كرَبٍ. يختلط فيه سُؤالٌ بسُؤَال. كيْف يُمكن لهذا أن يحدثَ. في مدينة محْرُوسَةٍ. كيْف وقعَ الحريقُ. ولم تقَعِ السّرقةُ. التي تعوّدْنا عليْهَا. في الأخبار الخاصة بالعالَم الفنّي. أخبار المتَاحف. أو البيُوت. أو القاعَات. عندما يتعلق الأمر. بأعمال لها قيمةٌ ماديةٌ عاليةٌ. وأسماءٌ. تنذِرُ باهتزاز الأرض. سرقةٌ تتكرّر. من دون مناسبات. حيثُ اللصوص. يُتقِنُون. وضْع الخُطط المرسومة على خرائط. المدن. وتصاميمِ المعْمَار. يتعاون عليها خُبَراءٌ. محترفُون. لتكون السرقةُ مضمونةَ النّتائِج. 2 لكنّ صديقي. تعرضتْ أعمالُه لِلْحَرِيق. وهو يُقيم معْرضاً استرْجَاعِيّاً. لنقُلْ إنّهُ نوعٌ من المعْرِض الذي يهيئهُ الفنّان. كلُّ فنّان. عندما يُدرك أن أعمالَه أصبحَتْ تشكّلُ ذاكرةً ثقافيّةً. فنيّةً. في مُحِيط ثقافي. هو المحيط الفرنسيُّ بالنسبة للفنان المهْدي القُطْبي. الذي اشْتغلَ بدون انقطاع عن العمَل. اليوميِّ. لمدةِ خمْسٍ وعشرين سنة. كلّها في لحظة. خاطِفَة. احترقَتْ. هلْْ هذا ممكنٌ؟ سألتُ نفْسِي. وأنا أقرأ الخبر. فاجعةً كان الخبرُ. ولا أصدقُ ما أقرأ. حتى تأكدتُ من كلِّ شيءٍ وأنا أكلّم المهْدِي. شخصيّاً. ويردُّ عليّ بتقطّع الصوْتِ. نعَمْ. كلُّ شيْء احتّرقَ. خمسٌ وعشرُون سنةً من العمَل. الأعمالُ التي تعْرِفُها. يا محمّد. مع كِبَار الكُتّاب. حتى عملنا المشترَكُ احترَقَ. يا مُحمّد. كلُّ شيْءٍ. أنا الآخرُ لا أصدّق. هذا ما حدَث. ليّلاً. ولا أحدَ يدْرِي. شيْئاً. لا أستطيعُ أن أضيف كلمةً واحدةً الى حُزْن المهدِي. لنتكلَمْ لاحقاً. قلتُ له. وانتهَتِ المُكَالمة. يأخذُ الحَرِيقُ. شكْلَه. في المُخيّلة. وأنا أحاول أن أٌبعِدَه. لوحاتٌ معلّقة. بعنَايةٍ. وتنظيمٍ. لا يقِلُّ فنّيةً عن إنْجازِ الأعْمَال. فعرْضُ اللّوحَاتِ يحتاج لذَائِقَة فنّية رفيعة حتى ينجَح المعرضُ. في هدَفِ إيصال الأعمال الى مُشَاهِدِهَا. تقنيةُ العرض. والمعْرُوض. حيث لك أن تَرَى بطريقةٍ أحْسَن. وتنفذَ الى الحياة الخاصة بالعمل الفني. وهو يُعْرضُ عليْكَ. في وضعٍ يسمح لكُما بلقَاءٍ. لا يُشَوِّشُ عليه ما هو خارجٌ عنِ العمَلِ ذاتِه. في تمَام اللّقَاءِ. بيْنَكَ وبيْنَ العمَل. وجْهاً لوجْهٍ. يقْتَرِبُ الواحِدُ منَ الآخر. في صمْتٍ. يخْتَفِي عن الزُّوار. الذين ينفردون باللوحات. في صمتٍ أو في ضجيج. غيْر. مسمُوع. خمسٌ وعشرونَ سنةً. وأنا أتخيّلُ اتساعَ القاعَة. لا بُدّ أنّها من القاعات الشهيرة بسُمْعتِها الممتازة. لأن المهدي يختارُ القاعَات بدقة مُتنَاهية. كلّمَا عرَضَ كان ذلك حدثاً ثقافيّاً. هو الذي اكْتسَب قيمةً فنّيةً في الوسط الثقافي الواسِع. في فرنْسَا. ثم خارجَ فرنْسَا. بيْن طوكيو ونيويورك. بلادٌ من أروبا تعْرِفُ أعمالَه وتقْتنِيهَا. متاحف تتوفّر على سلْسلَةٍ من أعماله. وهو يكِدّ حقّاً. لكيْ يبلُغَ المراتبَ التي يحلُم بهَا. في الوسطيْن الفنّي. والثّقافي. هذا المجنونُ. الذي لا يحولُ دونَه عائِقٌ. لأنه بأعماله يُقْنِعَ الخبراء. أكبرَ الخبراء. بما يُنْجِزه. منذ خمسٍ وعشرينَ سنةً. يتواصَلُ فيها. الشّهْرُ بالشهْر. والعملُ بالعمَل. متنوّعاً. متدفّقاً. مخْترقاً. تلك عادتُه. التي تعْرِفُه بهَا وهو يعْمَل. ويعْرِضُ أعْمَالَه. فكيف لقاعةٍ متميزة. أن يشبّ فيها حريقٌ. ليْلاً. ولا أحدَ يدْري شيئاً؟ 3 صَداقتُنا قديمةً. منذ بداية الثّمانِينيات. المهدي القُطبي. هذا الطفلُ الفنّان. دائماً أراه في هيئةِ طفْلٍ يلْعَبُ بالألوان. وبالحروفِ العربيّة. ظلالٌ من الخطّ المغْربيّ. العتيقِ. خطٌّ لم تكنِ النُّخبة المغربيّة. في نهاية الأربعينيات. وبداية الخمسينيات. ترى له مُستقبلاً. لأنه يناقض الخط المشرقيَّ. ولا يفْهَمُه المشارقةَ. الذين تربطنا بهم أواصرُ الوحْدَة الثقافية. لذلك عليْنَا. كما كانوا يُردّدُون. أن نتخلّصَ من الخطّ المغربيّ توفيراً لاختلافٍ لا فائدةَ فِيه. مَساكِين هؤُلاء الزّعمَاءَ الثّقافيُّون. كانت ثقافتُهم القاهريةُ تُبعِدُهم عن الوعْي الحديثِ بالقضايا الأساسيّة. فيمَا هُمْ يُعلِنُون في المغرب حرْبَهُم. على الخطِّ المغربيِّ. مجلاّتٌ. مقَالاتٌ. تُعبّر عن وعْي شقيّ. بقضايا الثقافَة. همُ الذينَ توهّمُوا أنّ هذَا الخطّ الذي امتَدّ من الأندلس الى حدودُ مِصْر. وجَنُوناً. في أغلب البلاد الإفريقية. أصبحَ العائِقَ الحقيقيَّ في اللقاء بين المشارقة والمغاربة. تلكَ قصّةٌ أخرى. تحتاجُ وحْدَها. لحديثٍ. يتفرّعُ. حتى يُظهِرَ عجْزَ هذه الزعامةِ عن إدراك. ما يجِبُ إدْراكُه. لكنّ المهديّ. لم يكن يعْبَأُ بأيِّ شيء يمنعُ عنْهُ جسَدَه. هذا الخطّ المغربيُّ. هو تلقائياً. خطُّهُ. كما أن للمشرقي خطَّه. وهو لا يشتغل على هذا الخطّ. اعتماداً على مَوْقِف إيديولوجي. لاَ. أبداً. إنه الخطُّ الذي تعوّدَ عليه. وأحبّه. ومنْهُ انطلقَ في وضْع أعماله الفنية الأولى. بعد أن كان تعرّفَ في باريس على الفنان الغَرْبَاوِي. أحدِ الأسماء المؤسسة. لتَاريخ الفنّ المغْرِبيّ. الحديث. الى جَانِب الشرقاوي. ذلك اللقاء بين المهدي وبين الغرْباوِيّ. كان الطريقَ التي تُضيء له عمَلَه. رغْمَ أن الغرباوي. لا يشْتغِلُ على الخطّ. وتلك علامةٌ على حُرية اللّقَاء. عندما تعرّفْتُ إليْه كان اسمُه حاضراً. في الحياة الثقافية الباريسية. أعمالٌ أولى اطلعتُ عليها. في الكَرارِيس الفنّية. ثم في كُتب خاصة. بالفنّ التشكيلي المغربي. أو العربيّ. ولم يتطلب التجاوبُ بيننا أكثرَ من كَلِمَات مُوجَزَة. لي معرفةٌ بما كَان المهدي يشتغل عليه. وهو بعيدٌ عن الحُروفيين العرب. الذين اسْتَسْلَمُوا للجمالية. السّريعَةِ الزّوال. كنتُ منْ قبْلُ مُعجَباً بالفنان الزّندَرُودِي. الإيراني الأصل. وها هو المهديّ القطبي. يفتح الحركةَ الخطيّة على تجريديّة. غنائيّةٍ. لكنها غنائيةٌ تنفي المرجعيةَ الخطَابِيّة. أعمالٌ لا تستريح في نقْل الحِكَم. والموَاعِظ. ذلك شأن لا يطمئنُّ اليه عملُه الفني. ثمةَ ما يدْفعُه للبحث عن جمالية غنائيّة. تنطلقُ من الخطّ لتلْعَبَ بالأشكال كما تلْعَبُ بفضَاء اللّوحَة. ألواناً. ومقاييسَ. أشكالٌ. تتموّجُ أو تتكسّرُ. بتلقائية اليَدِ. التي تمحُو ولا تُثبتُ. تنْسَى ولا تتذكّرُ. في الفاصِل بينَهُما. في الشّقُوق. الانْشِقَاق. تُقيِمَ اليدُ. وهي تلْعَب. ضاحكةً. على طُرقات البحثِ. والفرح البْدئِيّ. 4 بهذه الحكْمَةِ السّرّية. التي لا يكشِفُ عنها إلا الفنّانُون. المتمكّنوُن. استطاعَ المهديُّ القطبي. أن يجمعَ حوْله كُتْاباً كباراً. في مناطقَ متعددة. من العالم. ليشتغل على أعْمَالِهمْ. بعد أن يخُطُّوا قصيدةً أو مقطعاً. بأيديهم على القمَاش. ثم بعد ذلك يشرع المهدّي. في ترْكيبِ العمَل. جنباً الى جنْبٍ مع العمَل المكتوب. أسماء. أُوكْتَافْيو بازْ، أيفْ بونْفْوَا. مشِيل تُورْنِيي. أدْونيس. مشِيل بيتُور. فيرْنَانْدُو أرَابَالْ. أحْمَد الصيّاد. هيلين سيكْسُوسْ. إدْوار غْلِيسَان. غِلْفِيك. فيليب سُولِيرز. عينةٌ من هذه الأسماء التي ارتبطتْ أعمالُ المهديّ القُطبي. بهَا. وهو يشْتَغِلُ. يخْتَرِعُ مُفاجأةَ المغَامَرة. والعينِ. واليدِ. في تركيبات شكليةٍ. ولونيّة. تسْتَقْدِمُها اليَدُ. من مكَانٍ - لاَ مكَانٍ. وأنت ترْحَل في دهشَة. تنقُلُكَ. من المألوفِ إلَى. الغَريبِ. دون أن تجعلكَ تُنكِرُ الغريبَ. والعجيبَ. كقيمةٍ تكْوينيّة للعمل الفني. بلْ للفَنّ. هُنا في العمَل الذي يشتغِلُ عليه أعمالٌ تجري في الهواء خفيفة وراقصةً على مدَى خمْسٍ وعشرينَ سنةً. حينَما اقترحَ عليَّ أن أكتُبَ ذاتَ يوْم. منَ الثمانينيات. إحْدى قصَائِدي. بخطّ يَدِي. وهو لا يقترح إلاّ علَى منْ أحبْ أعمالَهُم. في التجاوب المتفرّد. لديْه. بين المرسُوم والمكْتُوب. هذه الحركةُ اليدويّةُ. الخطيّة. التي لا تتشابه. بين شاعر ورسّام. في الخطّ يلْتقِيَان. ثم في الخطِّ نفْسِه يفْترِقَان. كلُّ واحدٍ يعْبُر الطُرقَ التي لا يعْبُرها الآخرُ. وفي وضْعِ الطُّرُقِ. على قماش واحِدٍ. يحْدُث. العَجِيبُ. الصّادِم. صدمَةَ أنْ ترَى طُرقاً لا نهائيةً ترْتسمُ على القُمَاش. واللوحةِ في اتجاهات. متآخيّةٍ. ترْحَلُ. فيكَ. وأنتَ تُشاهِدُها. أمامَكَ. معلّقَةً. على جدار. قاعةٍ. فلا تتخيّل يوْماً أنها ستتعرّض لحريقٍ شبّ ليْلاً في شهر نوفمبر. 1999. بمدينةِ لِيلْ. الفرنسية. 5 طفلٌ. يرْسُم. هُوَ المهدي القُطْبيّ. يلعبُ بالحُروف. ولا يَتحسَّرُ. كَمَدٌ في الكَلِمَات. يعْلْمُ. هلْ هُناك ما هو أقسْىَ على فنّان يرى حُطام حياةٍ فنية. أمامه؟ خرائطُ الآلام كلُّها تتّقِدُ. نيرانٌ. في الجسَد بكَامِلِه. لا أقول لكَ. اصْبِرْ. علَى مَا أَصابك. أيها الصديقُ. لي الصمتُ. في المكانِ القريب منكَ. وأنا أتأملُ. هذه النيرانَ التي أحْرقَتْ أعمالَكَ. نيرانٌ. في يَدِي. لربّما. كتبتُ لكَ. صمْتِي. مُهاجِراً. إليْكََ. في الطُرق المتعدّدة. لأعمالكَ القادِمَة.