1 على غرار المعارض السابقة، التي تجاوزت الثلاثين سنة، يقدّم الفنان محمد القاسمي عمله الاخير منشوراً على أرض الدهشة والمفاجأة. خصيصتان لم تفارقا معارض القاسمي. منذ ان تعرّفتُ على أعماله الأولى. بين الرباط ومكناس. وها هو يظهر من جديد من خلال التركيب الذي استقبلته قاعة باب الرواح. في فضاء جناح بكامله. من الجانب الأيسر ومن البلاط الى ارتفاع الجدار. ارتفاعاً منغّماً بضوء كاشف. يُفسح للعتمات في البروز. وللمدارات في التكوين. ارضاً وجداراً. علواً في هواء تحسه يتحرّك تحت قدميك. كأنك على ارض غريبة. تكاد تشم اختلاط روائحها بروائح المواد المستعملة في بناء هذا التركيب. لم أسأله عن عنوان العمل. كنتُ أركّز على نظرة العينين. وهي تبحث عن أفق للرؤية. رؤية الزائر ورؤية الاصدقاء الذين. سافروا مع القاسمي. في شتى معارضه. دهشة ومفاجأة. لكل منا خطه الذي اتبعه في السفر مع القاسمي. في أعماله. عبر مغامرته. ذلك ما لا تنساه العين. وهي تتقدم. ببطء. الى حيث السفر يبدأ. يعيد البدءَ. رامياً بالنفس الى عنوان مجهول. لا واقعي. في صيغته المثلى. مع ذلك فهو أليف. ينفتح في أعماقنا. شقوقاً. متدفّقةً. غائرةً. متكتمةً. جامحةً. عطوفةً. تقتلع الارض من الارض. كي لا يبقى بعد العمل الفني سوى ما نتقاسمه سراً. في الرؤية. حيرةً لمن لم يُطِلّ بعدُ على عالم يتكوّن في عينيه. جارحاً كلمةً أولى. الفهم. وتلك علامة ان تختار السفر مع القاسمي. في أعماله. التشكيلية. نافيةً ما كنتَ سطرته لكي لا تتُوه ثانية. فإذا بك أنت تهاجر في ما يمحو. حكمةً. البداية التي تعيد البدء. مشمولةً بطبقات التكرير المحجوبة. بين عينيك اللتين كنتَ بهما رأيتَ وبين عينيك اللتين بهما ترى. المابين. فسحة ألا ترى ما كنتَ رأيت. في الاعمال المنحدرة شلالات. مرتطمة بالصدر. كأنك لا تفارق الزيارة الأولى. وما هي بأولى. هي البدء الذي لا يكف عن البدء. حرية تمس يديك وهُما تنتبهان الى كون تلمسه بما لا تتوقف عنده الكلمات. اللغويةُ. في المجرد اللاموجود. لأن المابين يُفْرِجُ عن المدهش والمفاجىء. عملاً. في أعمال لحظةً في تاريخ اللحظات. ولا سبيل لان ترفع عينيك. مُناجياً دخيلتك. لقد قبضتُ عليك. وزَجَجْتُ بك في المقولة. النهاية. للرؤية. ذلك اللاسبيلُ. يُفسح لك في التلعثُم. واقفاً. صامتاً. رعشةً. في الاعضاء. والكلمات لا تدري شيئاً مما جرى لها. تؤثر ان تمرر بأصابع يديك على سطح المادة. لعلها تدلّك قليلاً على الطريق. في صمت الوقوف. المتردّد. في تاريخ الاعمال. فلا أنتَ ولا الكلمات. تستريحُ. مستوًى من العتمة يفرض عليك ان يختلف صمتُك عن الصمت. وفي النشوء تنحلُّ لطائف المناجاة. إنك هنا. أمامي. معي في سفر. لنا نحن الساكنين في مرتفعات الصمت. 2 نشيدٌ. أجلْ. نشيد. ولِمَ لا. أفضّل ان أترك العين تحاور العين. ولي تاريخ لا أنكره في تربية العين. التي وفَدَتْ عليّ في الصبا. من العتمات والأضواء. في زنقات فاس وأحيائها. حيث كنتُ أتابع تكوينات الزلّيج فيما أنا أتابع التشكيل المعماري للأزقّة والدروب أو للبيوت والأضرحة والمساجد. ذلك تاريخ عيني. وهو ينبثق ببطء بدون كلمات. كان يهتدي بالترانيم وبالتراتيل. لا يختلف فيه النهار عن الليل. ومن فوق السطح يمكنك ان تمسحَ السطوح كلها. بحركة متوازنة. في مدينة يعْسُر ان تعترضُك قباب. استواءُ السطوح هو ما يترك العين طافيةً. على ماء الرغبة. والأعالي من كل جانب. تنبّهك بوخزة ان ترى أفقاً مختفياً وراءً. وأنت لا تعرف عنه شيئاً. ايها المُعاين لميلاد عيْنك. تاريخُ العين لم يكن مودوعاً في مخطوط ولا في دولاب. هو في الحياة اليومية. المتراصة ينسُج شبكته. وتلك الحياة نفسها هي التي تفاعلت مع الحياة الفنية. التشكيلية. العالمية. ثم المغربية. أحمد الشرقاوي. الجيلالي الغرباوي. محمد شبعة. محمد المليحي. فريد بلكاهية. ميلود لبيض. وكان القاسمي. منادياً على السفر. منذ نهاية الستينات. ولم يتوقف السفر الا عند مرابط. كانت تُعلن عن أسفار اخرى. وعنْ ما لا تُدركه العين الا مجاهدةً. ومعرفةً. وفنّاً. وكتابةً. كأنك كل مرة لا تتذكر دون ان تنسى. وفي تاريخ كهذا كانت أعمال القاسمي تفتح ارضاً وتستكشفُ غيرها. في النداء على السفر. واللارجوع من المفاجأة والدهشة. كل هذا التاريخ يستيقظ على كتفيك وانت في موقف الرؤية. امام هذا التركيب. الذي احتفلت به قاعةُ باب الرواح. ومنها الى نفوس وبلاد وثقافات. أختار كلمة التركيب لهذا العمل. منطلقاً من غِنى توظيف الجذر اللغوي الى ما لا ينتهي من اشكال التجسدن. عملاً يتركّب من عناصر أصبح العمل التشكيلي في تجربته الاخيرة يعتمد تنويعاتها. عناصر لا نتعرّف على طبيعتها الا في العمل المخصوص. وهو ينْفلت من الانحصار في قماش مثبت على إطار خشبي بحجم يمكن ان تتوقّع طوله وعرضه دون عناء كبير. تبعاً لما علّمتك إياه الاعمال الفنية عبر تاريخها الغربي. ولكن العمل الآن يَثور على القماش كما يثور على الإطار الخشبي المحدد حسب مواصفات لها تقاليدها. فعلُ التركيب يمنح العمل الفني إمكانية الاشتغال على عناصر هي بدورها مفاجئة. ومدهشة. لمسةٌ خفيفة كانت نسغَ إعادة تشكيل المادة وفق منظور فني. وهذا التركيب الآن يضيف الى حرية الفنان التشكيلي ما يقتحم به مكبوتات لم تسمح التقاليد الغربية السابقة باستغلالها أو التعامل معها كمادة وكفضاء. هو ذا العملُ يؤالف بين المتنافر. أو هو يسمح لتقاليد فنية تشكيلية بعيدة عن التقاليد الغربية ان تندمجَ ببعضها بعضاً. في فضاء. مفتوح. لا يحدّه الا العمل الفني ذاته. حتى ولو كان هذا العمل يحتل المساحات غير المعهودة في تركيب وعرض الاعمال الفنية. قاعدة عرض. رواق. 3 في فعل ركّبَ، حركةُ وضع بعض الشيء على بعض. يصدر عن الفعل ذاته تركّب وتراكَب. واستعمال كلمة المُتراكب مقصورٌ عند العرب على القافية. وهي كل قافية توالت فيها ثلاثة أحرف متحركة بين ساكنين. وللعمل الفني. التشكيلي عُلْقةٌ بوضع بعض شيء على بعض. الا ان الوضعية العمودية التي تحددها دلالة الأداة "على" لا يفيد بالضرورة. هندسيةَ الوضع. فالتركيب يحتل الافقي والعمودي في آن. قد يفيد التباعد كذلك. ومفهوم التركيب. هنا لا يبقى محصوراً في الدلالة الأولية. انه ينحت دلالة جديدة ملتصقة بعلاقة العناصر المتراكبة. في فضاء عمل فني واحد وموحد. يحدده النسقُ قبل غيره. تلك دلالةٌ أقرب الى العمل الذي يعرضه القاسمي علينا. جناح بكامله يجتاحه التركيب الفني. ولك ان تقرأه من الجهة التي تشاء. لكنه محكوم بحركة تطال اليمين واليسار. أو بعبارة أبعد في التأويل. تطال المشرق والمغرب. وانت بينهما. تذرع العمل الفني كما تذرع الكون والبسيطة. ولك الخليقةُ كما لك الكون. تلك هي خرائط الكون. وأحوالُ الخليقة. في الجهة اليمنى قماش مجزأ الى ثلاث قطع. واحدة وسطية كبرى في حاشيتها قطعة صغرى من كل جانب. تنزل من الاعلى الى الأسفل. بعُنف الجاذبية التي تشدّ ما على الارض الى الارض. وللهواء ان يحرك قطع القماش. ثم فراغ لا تدري كيف ابتدأ ولا كيف انتهى. لأنك تتأمل هذا المعلّق. المعلقات التي تسرق منك الحواس. لتسافر في العمل وفي الفراغ - الصمت. ثم ها أنت أمام خرائط الكون. دوائرُ لا تشك في انها تحيلك على الهندسي المتداول. فيما هي تشكل كوناً مصغّراً لا تفلت منك تضاريسه الموضوعة كأنها بقع معدنية مسكونة بنارها وهوائها كما هي مادة ترابية. تبصرها. متحركة. بطاقات. من الهواء. هو هذه المربعات الخشبية الملقاة على الارض في تنظيم. من الجانبين. هل نسيتَ صور الارض التي تحترق؟ وقطع صغرى مكتوبة بخط يدوي. شخصي. له أسراره. في مرافقة التركيب. ومن زاوية الى زاوية يخلق القضيب المعدني حركية الكون. نشيداً يغطّي الكون بلون نحاسي يُخفي بريقه دون جهرٍ بالرنين الملازم للسحر. النشيد. وعلى الجهة اليسرى. الغرب. الغربية. المغرب. رأس بشرية. بعينين منفتحتين. رأس مكتملة التكوين مع بقع سوداء في أقصى الجبين. لا تنطق بما تكتمه هذه البقع. لا تهجِس بما تسره اليك هذه الرأس المتروكة في مواقف الوحدة. أو مدار الانفصال. هي رأس مكتملة بشفتين. وبعينين. تحدقان جيداً. في الكون وتسرّح البصر بعيداً حتى تلتقيا بالخليقة. انعكاساً للرأس ذاتها. ربما. وانغراساً في المخلوقات التي تعجّ بها المعلقات. قل انها معلقات تأتي لتظهر الخليقة. في عهد لا نطلع عليها الا من خلال العمل الفني. المعلق. المبسوط. المركب. التركيب المتراكب. المتنافر. المهيأ للتأمل. 4 في عمل كهذا. مركّب. لنا ان نطرح مسألة الفن التشكيلي. والفن عموماً. في نهاية قرن. وهو هنا يتخلّى عما كنا اعتبرناه حدوداً للرسم. قماش وإطار. لا شيء يحدُّ العمل الفني الآن. والعمل لا يقتصر عما كان يمثله من إنجاز. ضمن الخطاب الانساني، من الفن الى الفلسفة الى العلم. في تركيب كهذا يحق لنا ان نطرح السؤال مرة اخرى عما آل اليه العمل الفني. في التجربة الانسانية الحالية. وعما أقدم عليه محمد القاسمي. وهو ينخرط بحيوية في المغامرة البشرية. لا أوروبا التي كانت وحدها مرجعاً للنموذج الفني. ولكن في أفريقيا. واسيا وأمريكا. شمالاً وجنوباً. حركة كونية تسعى بطاقات مدهشة الى الخروج من أسر محدودية النموذج الغربي. الأوروبي. لتقتحم تقاليد ثقافية. تقاليدها المحجوبة. عن الانظار في الممارسة الفنية. وتنفذ الى الجمالية المختلفة. هذا السؤال لا يقتصر على ربط العمل الفني بتاريخه. فقط. بل هو يرمي الى اعادة النظر في انتاج الدلالة وإنتاج المعرفة على السواء. في زمننا. بعد ان أعطى الخطاب الفلسفي ما أعطى. وله اليوم ان يُنصت الى غيره من الخطابات. تشكيلاً. شعراً. روايةً. مسرحاً. صورةً. سينما. ذلك السؤال الذي يهدف الى تبديل النظرة الى حبَسْنا فيها الممارسة الفنية. كصدى للفلسفة أو للسياسة أو للاقتصاد. أو حتى للعلم. نظرة لا يستجيب لها عمل فنيّ. مثل هذا العمل. وهو يعيد تركيب خرائط الكون ويصوغ أحوال الخليقة. في نهاية افكار ونهاية قرن. لنتأمل. يقول لك العمل الفني. وهذا بحد ذاته باعث على الفرح. لنتأمل. من قبل كنا نقف عند بعض الاعمال لكي نرى الجمالية التي تنبع من العمل الفني. لكن الجمالية ليست منفصلة عن الفكر. وعن التجربة الوجودية. ذلك هو الفنان الذي له ايضاً رؤية للكون وللخليقة. بها يدفعنا الى التساؤل مجدداً عما هو الفن وعما هي تجربة الفنان. وسط حمّى الابدالات العنيفة التي يعرفها زمننا. إن شئت ان أوضح كتبت اننا لم نعد في معرفتنا مقصورين على الخطابات التي كانت تقْصر المعرفة عليه حقلها. انها الإشارة القوية الى زمننا والى إنتاجه الفني. الادبي. 5 التشخيصات البشرية المشوّهة أو المائية. هي التشخيصات التي دأب عليها القاسمي في أعمال سابقة. تشخيصات محتفية بعنفها ونزوعها الشبقي. بلونها الازرق المعدني. الذائب. على القماش. وفي اعماق العين التي تحدق جيداً. من جهة الغرب. المغرب. وحيدةً. و مشدودة العينين. لترى ما لها ان ترى. بطريقة فنان يعيد بناء خطاب. فني. له بعد التأمل في زمن وفي مصير بشري. متخطياً ما وضعه فيه التقليد الفني. الذي كان يجعل منه منتجاً لجمالية نرفض ان نسند اليها بعداً فكرياً. لانه يغامر، محمد القاسمي. في مساحة تمتد من المشرق الى المغرب. تركيباً. مركباً. عناصر على الارض مبسوطة. واخرى من الجهتين. معلقات يسري فيها نبض بشري لا يتوقف عن النبضان. ورأس بشرية واجمة. تحدّق جيداً وترى ما يدلني على زمن. وعلى رؤية الفنان في زمنه.