حين حاول العالم اليهودي ايمانويل فلايكوفسكي إعادة ترتيب التاريخ الفرعوني ليتوافق ونظرته اليهودية الى هذا التاريخ، اعترضته صعاب كثيرة. من هذه الصعاب ما واجه فرضيته أن الملكة التي زارت سليمان هي حتشبسوت وليست بلقيس ملكة سبأ، واتبع فلايكوفسكي استراتيجية ثابتة لنفي اي وجود جغرافي لمملكة سبأ. وأي وجود تاريخي للملكة بلقيس... فهل كانت سبأ وهماً مكانياً وبلقيس مجرد اسطورة إنسانية؟ في البداية، يقرر فلايكوفسكي أنه "... حتى المخطوطات العديدة عن شبه الجزيرة العربية. أغفلت اي ذكر للمملكة سبأ، هذا عدا ان الرحالة والباحثين قلبوا كل حجر في جنوب شبه الجزيرة بأمل العثور على اي دليل، ولكن بلا ادنى امل يذكر"! فاذا كانت تلك المملكة غير موجودة، وبالتالي ملكتها، فلنا ان نتساءل: من اين اذن استمد معلوماته عنهما؟ من المؤكد ان المصدر الاساسي لهذه المعلومات، كان اسفار العهد القديم، فلقد وردت حكاية زيارة بلقيس الى اورشليم في التوراة لإثبات مدى ما وصل اليه سليمان من الغنى والحكمة، وما وصلت اليه مملكته من الابهة والعظمة. وفي ما يتعلق بمملكة سبأ، فقد ورد ذكرها خمس مرات في اربعة مواضع، وذلك في ثلاثة اسفار هي اشعيا وارميا وحزقيال. وفي المقابل، ورد ذكر بلقيس، بوصفها ملكة سبأ، خمس مرات ايضاً في خمسة مواضع، في سفري الملوك الثاني، واخبار الايام الثاني، وعلى ذلك نستطيع ان نؤكد انه طبقاً لاسفار العهد القديم، فإن مملكة سبأ وملكتها بلقيس هما حقيقتان تاريخيتان. ومن الغريب الا يناقش فلايكوفسكي تلك النصوص حتى لا يصطدم بقداستها، لأنه في هذه الحالة اما ان يشكك في صدقية التوراة، او يهدم فرضيته من الاساس. والى جانب التوراة، ورد ذكر بلقيس كثيراً في مدونات الاخباريين العرب. ومع ان فلايكوفسكي استشهد منهم بالاصفهاني والمسعودي والطبري وابي الفدا، في مواضع اخرى من الكتاب، الا انه تجاهل شهاداتهم التي تتعلق بمملكة سبأ او بالملكة بلقيس. فقد ورد ذكرها، كما يقول زياد منى في كتاب عن بلقيس، في كتابات ابن نشوان الحميري وابن جرير الطبري والبكري. وهؤلاء الثلاثة يتفقون على وجودها مع اختلاف في سلسلة نسبها، والاقرب انها "بلقيس بنت هداد بن شرح بن شرحبيل ابن الحارث". وقد ذكرت مملكة سبأ في "لسان العرب"، كما ذكرها ابن حزم الاندلسي في "جمهرة انساب العرب"، والهمزاني في مؤلفاته "المشتبه" و"الاكليل" و"صفة جزيرة العرب"، وابن الجوزي في "تاريخ الاعيان"، والفيروزابادي في "القاموس المحيط"، والمسعودي في "مروج الذهب"، ووهب بن منبه في "التيجان"، وابن خلدون في "العبر"، وابن عبدربه في "العقد الفريد". واتفقت خلاصة آراء هؤلاء الاخباريين على ان بلقيس كانت ملكة سبأ، وان هذا الاسم الذي اشتهرت به لم يكن اسماً، بل صفة مركبة. كما اتفقوا على ان اسمها الحقيقي كان "يلمقة" او "يلقمة" او "ألقمة". ومن المعروف ان يلقمة في لغة سبأ هي كوكب الزهرة، وألقمة هو القمر، وهما إلهان كان يعبدهما اهل سبأ. ويمضي زياد منى في كتابه ليشير الى وجود لغة معروفة لسبأ كانت تقع ضمن اطارها اللهجات المعينية والقتبائية والحضرمية. وثبتت للسبأيين لغة ذات ابجدية تضم 29 حرفاً، وتعرف في التراث العربي باسم "المسند". فإذا ما انتقلنا الى الشواهد التاريخية والاثرية التي ينفي فلايكوفسكي اي وجود لها، سوف نجد أنه تخلف عن حضارة سبأ عشرة آلاف نقش تم اكتشافها في بلاد اليمن، ويبدو ان فلايكوفسكي لم يسمع بها. وعلى جانب آخر، فإننا نجد ان ذكر سبأ وملكتها بلقيس تردد كثيراً في كتابات الرحالة والمؤرخين القدامى، من جنسيات مختلفة وفي ازمنة متفاوتة. فقد اكد تيودور الصقلي، الرحالة والمؤرخ الاغريقي القديم في كتابه "مكتبة تاريخية" أن السبأيين هم اكبر القبائل العربية، وانهم يقطنون ذلك الجزء من الجزيزة العربية المسمى ب"السعيد". كما ان الجغرافي الاغريقي سترابون وصف في كتابه "الجغرافيا" مملكة سبأ وتحدث عن شعبها. كذلك فإن بلينوس الاكبر سجل ملاحظاته عن جنوب شبه الجزيرة العربية، وأشاد بالبخور الذي يأتي من سبأ، او من "العربية السعيدة" على حد تعبيره. وأشار لويس عوض في كتابه "مقدمة في فقه اللغة العربية" الى ان جزيرة العرب الجنوبية كانت معروفة لليونان، كما ان الجغرافي اليوناني اراتوسطين 200 ق.م حدثنا عن انقسام جنوب شبه الجزيرة الى اربع ممالك مستقلة، هي ممالك المعينيين والسبأيين والقتبائيين والحضارمة، وايدت النقوش واللهجات هذا التقسيم. اما الرومان، فكانوا منذ حملة ايلوس جيليوس على بلاد العرب 25-24 ق.م، يقسمون الجزيرة العربية الى: العربية الصخرية الشمالية، والعربية السعيدة الجنوبية. وآثار الفنون التشكيلية في القرن الاول ق. م. تدل على تأثيرات يونانية في حضارة، سبأ كذلك تشير النصوص اليونانية الى وجود مملكة مزدوجة في جنوب شبه الجزيرة هي مملكة سبأ وحمير، وعاصمتها ظفار بدلاً من مأرب عاصمتها القديمة. وكانت اريتريا جزءاً من مملكة سبأ. وعلى ذلك، فإن كتابات اهم الرحالة والمؤرخين والجغرافيين القدماء، والتي تعد مراجع علمية معتبرة لأنها مرآة تدل على ممالك وشعوب عصرهم، اكدت وجود مملكة سبأ، واتفقت الآراء على انها بالتأكيد تقع في الجزء المسمى ب"السعيد" في تلك الجزيرة، ما يؤكد صحة ما ورد في اسفار العهد القديم عن سبأ، وبالتالي يصبح ما ورد في هذه الاسفار عن ملكة سبأ هو تأكيد على وجود شخصية الملكة بلقيس. ان فلايكوفسكي، بافتراض حسن نيته، لم يفطن الى كتابات وآراء الاخباريين العرب، والرحالة والمؤرخين الجغرافيين من جنسيات مختلفة اغريقية ورومانية وصقلية. كما انهم كانوا في عصور مختلفة ومتباعدة، فهل فاته الاطلاع على آراء وأبحاث المؤرخين والمستشرقين المحدثين الذين تناولوا تاريخ مملكة سبأ وأخبار ملكتها بقليس؟ إن هناك العديد من الدراسات المهمة والاستكشافات التاريخية حول هذا الموضوع، الذي بدأ الاهتمام به مع بداية حركة الاستشراق في اوروبا، وكذلك مع بداية الدراسات التوراتية الحديثة التي تعتبر ان التوراة مرجع تاريخي الى جانب كونه مرجعاً دينياً. ومن اهم الأبحاث في هذا الاتجاه: - دراسات المستشرق الانكليزي مونتغمري وات. - دراسات المستشرقين الالمان: شتاينشيانور، وكريمر، وجوستاف روش. - دراسات المستشرقين الفرنسيين: دوساسي، ورامي، وكاراردي فو. - دراسات الباحثة النمسوية روزفيتا ستيغنر. إن هذا الاهتمام بمملكة سبأ والملكة بلقيس لا يمكن ان يكون مجرد اهتمام بوهم مكاني او بأسطورة انسانية. ثم أن النقوش والآثار التي تخلفت عن تلك المملكة هي خير دليل مادي على وجودها. ناهيك عن التأكيد على هذا الوجود عبر الكتب المقدسة، بخاصة التوراة والقرآن وكتاب "كيبرا انجشت" ويعني "كتاب عظمة الملوك" عند الاثيوبيين. أدلة التوراة اولاً النصوص التي تتعلق بمملكة سبأ: أ- جعلت مصر فدية عنك، وكوش و"سبأ" بدلاً منك اشعيا - 43-3 ب- والذين يجيئون من "سبأ" حاملين الذهب والبخور، مبشرين بأمجاد يهوه اشعيا 60: 6 ج- لماذا يأتونني بالبخور من سبأ، وبعيداً عن الطيب من ارض بعيدة ارميا - 20 : 6 د- تجار سبأ ورعمة كانوا تجارك.. حران وكنة وعدن و"سبأ" واشور تاجروا معك حزقيال 27: 22 و 23. ثانياً: النصوص التي تتعلق بالملكة: أ- وسمعت "ملكة سبأ" بخبر سليمان لمجد الرب، فأتت لتمتحنه الملوك الثاني - 10:1 ب- فلما رأت "ملكة سبأ" كل حكمة سليمان والبيت الذي بناه... الملوك الثاني - 10:5 ج- واعطى سليمان "لملكة سبأ" كل مشتهاها.... الملوك الثاني- 10: 13 د- ولم يكن مثل ذلك الطيب الذي اهدته "ملكة سبأ" للملك سليمان اخبار الايام الثاني - 9:9 ه وسمعت "ملكة سبأ" بخبر سليمان، فأتت لتمتحن سليمان... اخبار الايام الثاني - 9:1 والآن من نصدق: التوراة ام فلايكوفسكي؟ * شاعر وكاتب مصري.