يتزايد اهتمام النقد الحديث بأطراف عمليات التواصل الجمالي، لتحليل ادوارها في إنتاج الدلالة الأدبية من ناحية، وإضاءة آليات تفاعلها وكفاءتها الوظيفية من ناحية ثانية، بغية الفهم الاعمق للنصوص الابداعية وتمثل نظمها الجمالية. من هنا فإن استجلاء الصورة التي يرسمها النص للقارئ تكشف المنطقة التي تصل بينهما كما تبدو في الأثر الادبي ذاته. ومع أن طه حسين كان أملى أعماله النقدية الأساسية قبيل منتصف القرن إلا أن المتأمل في تكويناتها وتياراتها الظاهرة والخفية يلمح فيها إرهاصات ذكية لكثير من المبادئ التي كانت تختمر في الافق النقدي حتى تدفقت في ثورة البنيوية وما بعدها في العقود التالية. ذلك لأنه كان موصولاً بحركة الحياة الفكرية الإنسانية، ومشدوداً الى الإسهام في تنظيم إيقاعها وإنضاج مقولاتها، ومهيّأً لإدراك روحها واستبصار مساراتها، كانت ظروفه الشخصية على وجه الخصوص، في العجز بنفسه والقدرة بغيره - كما كان يؤثر ان يصفها - تصنعه في قلب إشكالية التلقي البارزة، فهو منوط بالآخر الذي يقرأ له إذا استقبل، ومنوط به أكثر إذا تهيأ للإرسال، ولا يستطيع الاستغناء عنه كوسيط في عمليات التواصل، أي ان مجلسه دائماً يشهد حضوراً فعلياً لأطراف التواصل، حيث تختبر إشكاليات الفهم بشكل فوري، وتستوفي شروط الاستجابة تلقائياً، وتتم معالجة المعوقات بطريقة منظمة، إذ يتعين على "الأنا" أن تنشطر منذ البداية لتلتحم مع "آخر" هو الوسيط الذي يصبح مخاطباً مجسداً، وليس مجرد فرض متخيل يتوارى أو يبرز. إن استحضار هذا الموقف - على بداهته المفرطة - لا يفسر وجود القارئ الضمني بوضوح في نص طه حسين الإبداعي والنقدي فحسب، بل يفسر طبيعة أسلوبه وآليات تعبيره، ونوع الشعرية التي يمارسها ويتلقاها ويدعو إليها، يفسر اختياراته في الشعر والفن، كما يبرر أحكامه في الأدب، والنقد، لكنه مع ذلك لا يصبح إنتاجاً محكوماًَ بضرورة الموقف الوجودي، ولا مشروطاً بأوضاعه المادية، بل منطلقاً منها لتحقيق درجة عليا من حرية التخيل ومهارة صياغة استراتيجية فكرية وتعبيرية متميزة فهو بقدر ما يستجيب لتحدي المعطيات الحسية يتجاوزها كي يرتاد افقه الابداعي الخلاق. كتابة الرسائل كانت بعض مقالات طه حسين تأخذ شكل الرسالة، المضمرة حينا والظاهرة أحياناً أخرى، فهو يتوجه بها الى قارئ صريح، لا يزعم على الاطلاق - كما يحلو لبعض الكتاب أن يتوهموا - أنه يكتب لنفسه، يتخذ دائماً موقف المشاركة، بكل ما يقتضيه من بيان وتأثير ولذة، لا يطيق الغموض ولا الإبهام، لأنهما يقطعان حبل التواصل، ويمارس لونا من "المناورة المراوغة" حيث يعمد إلى تنظيم القول بطريقة الدهشة والمفاجأة في النتيجة، مع الألفة والرفق في سوق المقدمات، فبنية لحجاج عند طه حسين تتميز بهذه الاستراتيجية الفعالة، يتمثل دائماً متلقيه، يصفهم إلى مستويات، ابتداء بالاقربين الى موقعه، الموافقين له، وانتهاء بالخصوم الذين كان يصطنعهم ويبسط لهم القول في جدل محسوب، يعرف كيف يثيرهم، ويناوشهم، فإذا ما خاطب أكثر مستويات القراء براءة افضى اليهم بذات نفسه، وتحول كلامه إلى عمل إبداعي لا نقدي. لنقرأ مطلع الفصل الاول من كتابه الجميل "من بعيد" لنلاحظ على الفور إدراكه - ابتداء من العنوان ذاته - للمسافة التي تفصله عن القارئ، واثرها في تكوين الخطاب، وتحديد حركاته واختيار صيغه ومفرداته: "تحية طيبة زكية إليك أيها القارئ الكريم، من كاتب حرم التحدث إليك حينا، وكثيراً ما نازعته نفسه الى التحدث فلم يجد إليه سبيلاً، مرضت اسبوعاً وسافرت أسبوعاً، فلم استطع أن أتحدث إليك، ولقد كنت إلي ذلك مشوقاً، تقنية الرسالة هي التي تؤطر الفصل كله، وهي بالطبع ترتكز على عملية استحضار للكاتب، بضمير المتكلم والغائب معاً، واشتباك مع القارئ المخاطب دائماً، لانتاج حديث، وهذا الوصف ليس عبثياً - بل يلتزم اقصى الدقة في القول، لا ننسى أن كلمته "حديث" لها أهمية خاصة عند طه حسين، فأكبر مجموعة لمقالاته الادبية والنقدية يتضمنها "حديث الاربعاء"، وهي تسمية لفعل القول ونتاجه معاً، وهي مرتبطة بالزمن المتجدد، وموسومة بالتواصل المتعدد الأطراف، لا يتحدث المرء إلى نفسه إلا على سبيل المجاز، وهو عندما يتحدث لا يكتفي بالتعبير عن ذاته، بل يتعدى ذلك دائماً أنه إحداث شيء لمخاطبه، الى التفاعل الايجابي معه. فإذا مضى طه حسين في حديثه، وغفل قليلاً عن حضور قارئه، لا يلبث ان ينتفض ليخاطبه وهو يعرض تجربته، مقارنة بتجارب الآخر قائلا: "أعبرت البحر؟ أأحسست في السفينة ما أجد من ضروب الحس وما أشعر به من مختلف الشعور؟ يتحدث الناس بأن الامد بين مصر واوروبا قصير، وبأن عبور البحر لذيد، وبأنه أمن لا خطر فيه، ولعلهم محقون، ولكني اعترف بأني لم اشعر بذلك ولم احس هذا الامن وهذه الدعة يوماً من الايام، منذ ألفت عبور البحر، وإنما وجدت - ويظهر أني سأجد دائماً - إلى جانب هذه اللذة، التي يحسها من يعبر البحر شعوراً خفياً جداً، لا أقول إنه الخوف، ولا اقول إنه يشبه الخوف، ولكنه شيء ينبئ الانسان بأنه ضئيل، ضئيل جداً لا يكاد يذكر، وبأن حياته شيء أوهن من نسج العنكبوت" وإذا كان الاستفهام هو الذي يجدد حركة المقطع ويؤكد حضور القارئ المتفاعل فإن تحليل الشعور الذاتي الخفي لا يلبث ان يتجلى بشكل بديهي. فالناس "يتحدثون" بقصر المسافة البحرية بين مصر وأوروبا، وبلذة عبور البحر وأمنه، وهو لا يريد أن يبدو أمام مخاطبه جباناً خائفاً، لكنه يود الاعتراف بشعوره الحقيقي، وهو إنساني وصادق ومشرف، فلتكن ضآلته البدانية وحياته الهشة المهددة بالفناء هي الطريقة التي يعبر بها عن هذا الشعور فلا يفقد احترام محدثه، بقدر ما يوسع من دائرة وعيه بذاته، كلما أدرك الكون من حوله وأشفق مثل طه حسين من هوان قدره. استراتيجية المشاركة في هذا الخطاب تتجاوز الضمائر البارزة لتقوم بتشكيل أنماط التعبير الواضح الجلي، وهي تلمس برفق خبايا الروح، ولو كان طه حسين يمسك بالقلم ليكتب ذلك لاختلف نظام الجمل، وتقلصت المترادفات، وتكثفت العبارات، وتغير مناخ الموقف بأكمله، إن ما نمارسه عند "سماع" هذا الحديث ليس لذة القراءة فحسب. بل هي متعة الصحبة والمشاركة الحسية. ملكات القارئ إذا أخذ طه حسين في نقد القصة، كانت بؤرة تركيزه على فعاليتها الجمالية تنصب على وصف حاله كقارئ، ووصف ما يتعين على بقية القراء أن يستوعبوه منها، فموقف القارئ هو الذي يحدد طبيعة النص، وليس العكس كما يتوهم بعض الناس، وعندما يقرأ صاحبنا قصة جديدة لصديقه العتيد الدكتور محمد حسين هيكل بعد عقود من كتابته "زينب" وهي قصة "هكذا خلقت" يقول تعقيباً عليها: "إن هيكل بارع في هذه القصة، لا يتحدث فيها انه القلب والشعور وحدهما، ولا يتحدث فيها الى العقل وحده، ولكنه يتحدث الى هذه الملكات كلها هي وملكات اخرى غيرها، يتحدث إلى السمع بهذا اللفظ السهل العذب النقي البريء من التبذل والابتذال جميعاً، والبريء مع ذلك من التعقيد والتكلف، وهو يتحدث الى الضمير حين يقيس اعمال الناس بما فيها من خيروشر، وبما فيها من إحسان الى الناس أو اساءة اليهم. وبما فيها من ارضاء للعقل وللشعور الديني، وهو من أجل هذه الاحاديث كلها لا يشغل بعض ملكات قارئه، وإنما يشغل ملكاته جميعاً ونلاحظ أن الكتابة عنده لا تزال حديثا متصلاً، وأن قيمته تكمن في استجابة القراء له، واستغراقهم فيه، وتحريك طاقاتهم الروحية والعقلية والاخلاقية، بل والحسية ايضاً خلال التفاعل معه، إنه بذلك يبني الخطوط الجوهرية لصورة القارئ، وهو يرسم المعالم البارزة للنص القصصي، يحدد أفق استجابته، وطبيعة توقعاته، ومدى ما يتم فيه من اشباع لهذه التوقعات او احباط لها، ومع أن طه حسين لم يستخدم هذا المصطلح النقدي "أفق التوقعات" الذي سيشيع بعد ذلك بعقود في نظريات التلقي وجمالياته إلا أنه يكاد يشرح حركته ويرسم حدوده في مثل هذا المشهد. وعندما يعبر عن اعجابه العميق، وتقديره الفائق لنجيب محفوظ في قصته "بين القصرين" وهي الحلقة الأولى من الثلاثية الشهيرة - فإنه لا يزيد على وصف هذا القارئ النموذجي لمحفوظ "ما رأيك في قصة تتجاوز صفحاتها المئات الاربع وتقرأها أنت فلا تشعر في أي وقت من أوقات القراءة بالحاجة إلي أن تستريح منها إلى غيرها من الكتب، وإنما يتجدد نشاطك الى المضي في قراءتها دون أن يجد الملل أو السأم أو الضعف أو الفتور الى نفسك سبيلاً؟ وأنت جدير أن تأخذ في قراءتها فلا تدعها حتى تتمها، لولا ان ظروف الحياة تحول بينك وبين ما تحب من ذلك، وتضطرك الى الوقوف لتأتي عملاً لا تستطيع تأجيله، أو تقرأ شيئاً لا سبيل الى ارجاء قراءته، ثم أنت لا تكاد تفرغ من هذا العمل الذي صرفك عنها حتى تعود إليها مدفوعاً الى هذه العودة دفعا لا تستطيع مقاومته ولا الامتناع عليه... وقد يمضي الوقت الطويل بعد فراغك من قراءتها وإذ أنت على ذلك تعود إليها فترى أنك لم تنس منها شيئاً، لأن قراءتك الأولى قد ثبتت احداثها وصورها واحاديثها في نفسك تثبيتاً. ولا نستطيع أن نستخلص من هذا الكشف المطول لتأثير القصة على نفوس القراء انه يحصر قيمتها في هذا النطاق السيكولوجي فحسب، بل يلتفت الى طابعها الاجتماعي الجوهري، وتحقيقها لنموذج فذ في الجمع بين جماليات الوحدة والنوع، وقدرتها علي تمثيل التاريخ الحي، ثم توظيفها لنوع جديد من اللغة يسميه طه حسين - مثل الحكيم - لغة وسطى، وهي التي "يفهمها كل قارئ لها مهما يكن حظه من الثقافة، بل يفهمها الاميون إن قرئت عليهم، وهي مع ذلك لغة فصيحة نقية لاعوج فيها ولا فساد". مقياس الكفاءة الادبية في تقدير طه حسين هو قابلية الفهم، أي تحقيق التواصل الجمالي، واقسى ما يرمي به الكتابة التي لا توافق هواه ادعاء انها غير مفهومة، كثيرا ما قال هذا عن بعض كتابات العقاد التي لا تروقه، لكنه عندما يتوقف امام شيء حقيقي غير قابل للفهم المباشر لرهافته أو صعوبة تحديده واستعصائه على الادراك الواضح فإنه يسلك في تبيانه طريق الرمز والمجاز، فهو عندما يعجب بنص شعري فائق يتعاطف معه بشدة، وقد كان كثير الخضوع للهوى الشخصي الجارف في الحب والكره، يقول لك إنه يجد فيه ما لا يدري من أسرار الجمال، ثم يتدارك قائلاً: "بل أنا أدرى ما هو، هو قبس من هذه النار التي كانت تضطرم في نفس الشاعر.. إلخ" والرمز إلى الشعر في جوهره بالنار واللهب مما يلجأ اليه النقاد لتمثيل ما لا يقبل التمثيل المباشر. المعايير النظرية للذوق إذا كانت النصوص التطبيقية لطه حسين تحفل، برسم صورة القارئ وتتكئ جوهرياً على استحضاره بشكل لافت، فإن المشاهد التأملية النظرية تدخل هذا المفهوم في صلب المعايير الجمالية التي تعتمدها، فهو عندما يتحدث في فصوله النقدية الشيقة عن "شوقي وحافظ" حول المثل الاعلي للشعر يعرفه باعتباره. "هو هذا الكلام الموسيقي الذي يحقق الجمال الخالد في شكل يلائم ذوق العصر الذي قيل فيه، ويتصل بنفوس الناس الذين ينشد بينهم، ويمكنهم من أن يذوقوا هذا الجمال حقاً فيأخذوا بنصيبهم النفسي من الخلود" فملاءمة الذوق والقدرة على إثارة المتعة الجمالية لدى القراء هي ضمان الخلود ومعيار النموذج الامثل في الشعر، أما هذا الذوق فله عند طه حسين مستويان: أحدهما الذوق الجماعي لكل الجمهور في عصر معين، والآخر هو الذوق الفردي الذي يمتاز به بعض المثقفين، فيختلفون عن عامة الناس، والعلاقة بينهما جدلية متوترة لا تخلو من شد وجذب، يشرح طه حسين ذلك في مفاجأة حميمة لصاحبه الحقيقي او المتخيل، لكنه الحاضر دائماً في وعيه ومجلسه، يحاوره فيحاور معه الناس اجمعين: "ألم نتفق على أن هناك ذوقين فنيين، لكل واحد منهما حظ يختلف قوة وضعفاً، ويتفاوت سعة وضيقا، باختلاف ما لشخصيته من القوة والظهور. فهناك ذوق فني عام يشترك فيه ابناء الجيل الواحد في البيئة الواحدة والبلد الواحد، لانهم يتأثرون بظروف مشتركة تطبعهم جميعاً بطابع عام يجمعهم ويؤلف بينهم، وكنا نتفق على أن هذا الذوق يتسع ويضيق ويقوى ويضعف، فأهل مصر يشتركون فيه اشتراكاً قوياً. وهذا الاشتراك هو الذي يجمعهم على الاعجاب ببعض الآثار الفنية دون بعض، وهم يشاركون فيه الي حد ما جيرانهم أهل الشام وفلسطين. ويشاركون الى حد اضعف جيرانهم من اهل افريقيا الشمالية، لكن أهل مصر على اشتراكهم في هذا الذوق العام تتفاوت حظوظهم منه بتفاوت بيئاتهم وجماعاتهم، ثم كنا نتفق على أن هناك ذوقاً آخر فنياً يتأثر بهذا الذوق العام ولكنه مع ذلك متأثر بالشخصية الفردية، أو هو مظهر ومرآة يمثلها تمثيلاً صادقاً يستبد به الفرد او يكاد يستبد به لا يشاركه فيه احد، وكنا نتفق على أن هذين الذوقين هما اللذان يقضيان بأن القصيدة الشعرية الرائعة تنشد فنشترك في الاعجاب بها، أو قل في مقدار من الاعجاب بها عام، سواء أو كأنه سواء بيننا، ثم لا يمنع ذلك أن يكون لكل واحد منا اعجاب خاص بالقصيدة كلها، أو بالبيت من ابياتها، وكنا نتفق على أن الحياة الفنية إنما هي مزاج من هذين الذوقين، فيه الوفاق حينا، وفيه الصراع حينا آخر، وكنا نتفق على أن هذا الذوق العام هو الذي يعطي الحياة الفنية خطا من الموضوعية، وهذه الاذواق الخاصة هي التي تعطى الحياة الفنية حظاً من الذاتية". ولست اعرف من النقاد العرب المحدثين من كان يمتلك مثل هذه الرؤية الواضحة لمعايير التلقي الادبي، حيث لا يمكن أن ينتصب المبدع في فراغ، بل هو طرف في عملية تواصل جماعي تؤلف كلها "حياة فنية" وهي حياة ليست عشوائية ولا تحكمها الفوضى كما قد يتوهم البعض، بل هي مشدودة بانتظام الى ايقاع يرتبط بروح العصر وضرورات المكان، ولها مستويات تتوقف على الاختلافات الفردية في الوعي والمزاج والثقافة. لكن لها مع ذلك، أو بفضل ذلك طابع عام يتسم بكثير من التجانس والانساق، وهو تجانس المختلف في طبيعته، المتعدد في مصادره وإذا كان الحس الاجتماعي البارز عند طه حسين، والتجربة النقدية الطويلة هي التي هدته الى هذه الاستراتيجية في الاعتداد بعمليات التلقي وتفاعلها، فإنها قد وضعته في موقف يختلف عن موقف منظري التحليل الاجتماعي الايديولوجي للادب، لانهم في سعيهم لإثبات الطابع الجمعي للخلق، والتعبير عن الضمير المشترك والرؤية الطبقية قد تجاهلوا قليلاً اهمية الطابع الفردي أو ارادوا محوه، لكن طه حسين يعرف جيداً خطورة هذا الطابع الفردي لدى المبدع والمتلقي معاً، ويؤكد حضوره المشروط في جدلية عميقة وخصبة مع الطوابع الاجتماعية، وتكوينها كلها لايقاع العصر ومتطلباته التواصلية، ولعل هذا المعيار المتحرك الذي يقع في منطقة العلاقة بين العام والخاص ودورهما في تشكيل الخبرة الجمالية وطرق ادائها في المواقف المحددة، لعل ذلك أن يفتح الباب عندنا لبحوث أوفى حول التضاريس الثقافية والمعرفية للمجتمع العربي، بما يجعلنا نسهم في انضاج عوامل التفاعل الايجابي، ونتجنب اشكال الصراع الفج سواء كان طبقياً او ايديولوجياً في حياتنا الفكرية والنقدية. على أن طه حسين عندما يطبق هذا المعيار في قراءة شعر حافظ أو شوقي فإنه يعجب منه بما يؤدي حق المشاركة الوجدانية والفكرية، ويرفض ما لا يقوى على صناعة هذه المشاركة، يحلل مثلا بدقة نصية مرهفة قصيدة شوقي عن "توت عنخ آمون" لكنه يتحمس على وجه الخصوص للمقطع الذي يتحدث فيه شوقي. عن الدستور، وهو مطلب شعبي وثقافي ملح في عصره، وفي كل العصور: زمان الفرد يا فرعون ولّى ودالت دولة المتجبرينا وأصبحت الرعاة بكل ارض على حكم الرعية نازلينا إذ يتراءى له حينئذ أنه شاعر مصري "يعيش في هذه السنة يحس ما نحس ويشفق مما نشفق منه" أي أنه يبلور رؤية الجماعة في شعر ممتع، أما اذا رضى طه حسين عن حافظ فإنه يخلع عليه اوصافا تجعله نموذجاً بليغاً في الخطابة، فهو عندما يقول في رثاء مصطفي كامل. الله أكبر هذا الوجه أعرفه هذا فتى النيل هذا المفرد العلم غضوا العيون وحيوه تحيته من القلوب إذا لم تسعد الكلمة لبيك نحن الألى حركت أنفسهم لما سكنت ولما نمالك العدم يعلق طه حسين قائلاً: "هذه أبيات لو قرأها ارسطوطاليس صاحب الخطابة ومنشئ علم البيان لما تردد في أن يتخذها مثلاً لما يسميه في الكتاب الثالث "وضع الشيء تحت العين". وربما كان طه حسين في استدعائه لمبادئ الخطابة الارسطية لا يحتذي منظور البلاغة العربية التي حاولت استقاء مبادئ الشعر من فن الخطابة فحسب، وإنما ينطلق من طبيعة وعيه بالموقف التداولي في التواصل الجماعي، وهو موقف يستحضر الذوات الجماعية صانعة الذوق العام ويضع تحت العين صورة القارئ وهو يختبر فاعلية الشعر وكفاءته الوظيفية وربما كان من الطريف أن نتذكر أن طه حسين هو الذي اشار بقابلية قصيدة عبدالله الفيصل "سمراء" للغناء الجميل، والتقط الامير، أو المغني منه هذه الاشارة التي تصل ما بين النص الشعري الغنائي والسماع الجماعي، لتذوب في لحن كلى من التوافق المنسجم بين الشعر وجمهوره، هذا اللحن الذي كان طه حسين "المايسترو" البارع في تنظيمه وتوجيه حركاته، أملاً في تشعير الحياة، وبعث الحيوية القصوى في الشعر. * ناقد وأكاديمي مصري.