شهد العام الحالي جهداً استثنائياً من أجل وحدة فصائل المعارضة العراقية، فكان اجتماع وندسور في آذار مارس 1999 للمجلس التنفيذي للمؤتمر الوطني، بعد غياب دام سنوات، بداية لتحول ايجابي، حيث تم انتخاب قيادة سباعية موقتة للمؤتمر الوطني ضمت ممثلين عن الحزبين الكرديين الرئيسيين وآخرين عن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية رفض أخذ موقعه وحركة الوفاق الوطني، اضافة الى ثلاث شخصيات مستقلة انسحب في ما بعد أحدهم. كان هذا الاجتماع حصيلة جهد أميركي مكثف تحمل "المنسق الخاص للمرحلة الانتقالية في العراق" السفير فرانك ريتشارديوني الذي باشر مهامه في الأول من ذلك الشهر، العبء الأكبر فيه. وكما قالت اليزابيث جونز نائبة مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط في شهادة لها في مجلس الشيوخ في مطلع آذار 1999: "ان ريتشارديوني يحض أعضاء المجلس التنفيذي للمؤتمر على عقد اجتماع غير رسمي في الاسبوع القادم يعقبه اجتماع رسمي يمهد لاجتماع ناجح للجمعية العمومية". تمخض اجتماع وندسور الذي شارك في حضوره ممثلون عن الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية ومجلس النواب البريطاني والكونغرس الأميركي عن تشكيل لجنة مهمتها "اجراء الاتصالات مع الأطراف التي امتنعت عن حضور اجتماعات المجلس التنفيذي، أو الحركات والفصائل التي حجبت نشاطاتها ضمن المؤتمر، أو سحبت عضويتها منه، وكذلك الأطراف التي كانت لديها اعتراضات على المؤتمر منذ تأسيسه، وكذلك الاتصال بالقوى والأطراف التي تأسست في الفترة ما بعد تشكيل المؤتمر الوطني العراقي عام 1992" بهدف عقد اجتماع موسع للجمعية الوطنية للمؤتمر الوطني، حدد له موعد في 7 تموز يوليو 1999. وبعد تلكؤ طويل يعلن، وبشكل مفاجئ، الناطق الرسمي باسم وفد المؤتمر الوطني لنيويورك في بيان صادر في نيويورك بتاريخ 23 أيلول سبتمبر 1999، ان "المؤتمر الوطني العراقي سيعقد اجتماع الجمعية الوطنية العراقية الثالث في مدينة نيويورك، ابتداء من 29 تشرين الأول اكتوبر 1999"، "كما شكلت لجنة تحضيرية للإعداد لعقد اجتماع موسع للمعارضة العراقية الذي سيدعى للمشاركة فيه قوى وشخصيات عراقية معارضة، من أجل انتخاب قيادة جديدة، ويتوقع عقد هذا الاجتماع مباشرة بعد عقد اجتماع الجمعية الوطنية للمؤتمر الوطني العراقي". عقدة "اللجنة التحضيرية" في مفاوضات "الوسط" مع "المؤتمر" بعد محاولات واسعة تقلصت دائرة اتصالات القيادة الموقتة للمؤتمر ب"الأطراف الأخرى" تنفيذاً لقرارات اجتماع وندسور، لتنحصر عملياً بتيار "الوسط الديموقراطي"، وذلك بعد أن اتخذت فصائل أخرى - اسلامية ويسارية وقومية عربية وغيرها - موقفاً سلبياً من القيادة الموقتة للمؤتمر. وقد توصل الطرفان - القيادة الموقتة والوسط - الى اتفاق أعلن في منتصف تموز 1999، على عقد اجتماع موسع مفتوح لجميع القوى العراقية المناهضة للديكتاتورية "له كامل الصلاحية التنظيمية والسياسية لمراجعة مسيرة المعارضة العراقية وتحسين أدائها، بما في ذلك إعادة النظر في هيكلية المؤتمر الوطني العراقي الموحد". ومن أجل ذلك اتفق الطرفان على تشكيل لجنة تحضيرية تضم، "كخطوة أولى"، ممثلين عن القيادة الموقتة للمؤتمر الوطني وتيار الوسط الديموقراطي، على أن يواصل الطرفان الاتصال والانفتاح على بقية القوى والشخصيات العراقية المناهضة للديكتاتورية من داخل وخارج "المؤتمر الوطني" من أجل مشاركتها في اللجنة التحضيرية وبالتالي "الاجتماع الموسع" وذلك لانتخاب قيادة سياسية جديدة. وكتب صاحب هذه السطور "الحياة" 28/7/1999 تعليقاً على ذلك: "ان نجاح اللجنة التحضيرية في استكمال تشكيلتها وبالتالي تحقيق أوسع المشاركة في الاجتماع التوحيدي الموسع، بعيداً عن ممارسات العزل أو الانفراد السياسي، سيكون المحك العملي لجديتها وجدارتها للتصدي لمهمة التغيير الديموقراطي في العراق، بما يكسبها ثقة العراقيين أولاً، والآخرين من دول الجوار والقرار". إن البيان الصادر في نيويورك بهذا الشأن هو تعبير عن نوايا وليس حقائق قائمة. فمع الأسف، الى اليوم وبعد مضي أكثر من شهرين، لم يستكمل تشكيل اللجنة التحضيرية، ناهيك عن استكمال أعمالها، فكيف سيصار الى عقد الاجتماع الموسع مباشرة بعد عقد اجتماع الجمعية الوطنية للمؤتمر الوطني العراقي في 29 تشرين الأول 1999؟ خاصة وأن صلاحية الترتيب للاجتماع الموسع، بما في ذلك اختيار الزمان والمكان، هو من اختصاص اللجنة التحضيرية. وما جدوى عقد الجمعية الوطنية إذا كان سيعقبها مباشرة اجتماع موسع ينتخب "قيادة جديدة"؟ بل ان التحضير لاجتماع الجمعية الوطنية - التي لم تجتمع منذ عام 1992 - لم يستكمل بعد والقائمة التي اعتمدتها القيادة الموقتة باسماء أعضاء الجمعية الوطنية، بمن حضر أو دعي للمشاركة، تضم 306 اسماء، غالبيتهم انسحب أو توفي. لا أريد في هذا الصدد توزيع اللوم أو الانتقاد، فاستحقاقات الفشل يسددها الجميع بغض النظر عن النوايا، ولكن لا بد من مشاركة العراقيين وهم أصحاب القضية أصلاً، ولو على صفحات الجرائد، بالوقائع والمواقف المختلفة. - لم تستطع القيادة الموقتة للمؤتمر من التحرك بفاعلية ووحدة، فقد تخلف أحد أهم عناصرها - ممثل المجلس الاسلامي الأعلى - عن المشاركة، وسرعان ما انسحب اسلامي آخر، ورفضت رموز التيار الاسلامي الشيعي المستقلة المشاركة. - تعامل الحزب الديموقراطي الكردستاني مع القيادة الموقتة كجهد ثانوي ولم يشارك، ولو بالحضور شكلياً، الا في ما ندر. - انحصر دور التفاوض بممثلي حركة الوفاق الوطني والاتحاد الوطني الكردستاني وبكل من أحمد الجلبي ورياض الياور كمستقلين. - لم يطرح ممثلو القيادة الموقتة في أي وقت من الأوقات أي مقترح محدد لتشكيل اللجنة التحضيرية، واقتصر موقفها بمناقشة ما قدمه ممثلو تيار الوسط من اقتراحات، والتي غالباً ما انتهت بالتأجيل. - اعترضت القيادة الموقتة على اقتراح نسبة تمثل "الوسط" في اللجنة التحضيرية بسبعة اسماء، فاستجاب الأخير بتقليص الرقم الى خمسة، وترك سقف اللجنة مفتوحاً لأي رقم تقبله القيادة الموقتة. - طالبت القيادة الموقتة ان يحافظ على نسب التمثيل الاثني والقومي والسياسي التي اعتمدها "المؤتمر الوطني"، ومرة أخرى استجاب "الوسط" من دون تحفظ. - كما استجاب "الوسط" الى طلب قيادة المؤتمر باعتماد خطاب المؤتمر الوطني الذي أقر في صلاح الدين، بالنسبة للفيديرالية وغيرها، بما يستجيب لحقوق الأكراد. ومع ذلك تم تأجيل البت في أمر تشكيل اللجنة التحضيرية من جلسة الى أخرى، الى أن بادرت واشنطن باقتراح ارسال وفد للمعارضة العراقية الى نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في الاسبوع الثالث من أيلول 1999. وأكد ممثلو "الوسط" على ضرورة تشكيل اللجنة التحضيرية قبل تشكيل الوفد لنيويورك بما يعطي الأخير زخماً كممثل لمعارضة موحدة. اقترحت قيادة "المؤتمر" ترك تشكيل اللجنة التحضيرية الى نيويورك حيث سيتواجد هناك رموز من التيارين الكردي والإسلامي وغيرهما من قادة المعارضة لحسم الأمر. ان الكثير من عناصر الوسط فقدت ثقتها بجدية "القيادة الموقتة" ولكنها أرادت السير الى نهاية الخطوة الأخيرة من الميل الأخير في رحلة "تشكيل اللجنة التحضيرية"، فسافر لهذا الغرض ممثلون عن تيار الوسط الى نيويورك، ومع ذلك عاد الوفد من نيويورك بخفي حنين. صعوبة التعامل مع الولاياتالمتحدة على رغم قناعة تيار الوسط بأن عراقيي الداخل هم أداة التغيير في العراق، إلا أنهم على دراية بأهمية الدور الأميركي ليس في تغيير النظام القائم فحسب، بل لما بعد التغيير بما يحقق رفع العقوبات وإعادة النظر في الديون والمساهمة في إعمار العراق وتأهيله اقليمياً ودولياً، وأخيراً وليس آخراً حمايته من التهديدات الخارجية. فالعلاقة المطلوبة مع الولاياتالمتحدة هي علاقة استراتيجية وليس مجرد خطوات تكتيكية آنية. ولكن المؤسف ان أطرافاً أميركية تعاملت مع الشأن بقصر نظر أو كورقة سياسية في صراعات حزبية أميركية داخلية. - مر تعامل الادارة الأميركية مع المعارضة العراقية بمراحل مختلفة، فبعد دعم مباشر وفاعل تمخض عنه قيام المؤتمر الوطني العراقي الموحد في صلاح الدين عام 1993، تخلت الادارة عن "المؤتمر" بل وساهمت في انتكاسته عام 1996 عندما تركت القوات الحكومية تدخل اربيل من دون رادع. - عادت الادارة للتعامل مع بقايا المؤتمر تحت ضغط الكونغرس، فكانت وراء عقد اجتماع وندسور الأخير، ويبدو الآن ان ذلك كان تحركاً تكتيكياً من دون أن يكون جزءاً من تصور شامل أو استراتيجية واضحة. وعلى أحسن حال تعاملت مع المؤتمر كواجهة سياسية إعلامية لرفع العتب من جهة وللرد على ضغوط قيادة الحزب الجمهوري التي تعاملت مع "المؤتمر الوطني" وشخص رئيس المجلس التنفيذي السابق كورقة للهجوم على إدارة كلينتون "المتخاذلة" تجاه "العدو" صدام. وكون الادارة الأميركية على أبواب انتخابات الرئاسة جعل من تعطيل استخدام الكونغرس لورقة المعارضة العراقية هدفاً ذات أهمية مضافة. - تجاوب الكثير من المعارضين، وكاتب هذه السطور من بينهم، مع اعلان الادارة في تشرين الثاني الماضي عن تحول سياستها من الاحتواء الى "الاحتواء زائداً" التغيير، ولكن واقع الحال والممارسة العملية كشفت بأن التحول في السياسة الأميركية هو فقط "التظاهر" بالعمل من أجل التغيير وليس التخطيط الفعلي للتغيير، وليس هناك أفضل من المعارضة العراقية كورقة لمثل هذا التظاهر، خاصة عند استعراضهم في صور فوتوغرافية مع وزيرة الخارجية الأميركية. - المؤسف ان هناك أطرافاً عراقية باسم معاداة صدام سمحت لنفسها أن تصبح أداة بيد قوى ضغط يهودية متطرفة أخذت تمارس ضغوطها في أميركا لصالح طرف عراقي دون آخر حسب أجندتها السياسية. فهاجمت تلك القوى كلاً من عدنان الباجه وغسان العطية، وكان آخرها ما كتبته مجلة "فورورد" المعروفة باتجاهها اليهودي اليميني المتطرف والصادرة في نيويورك بتاريخ 10 أيلول 1999 بقولها، "ان المفكرين وأعضاء مجلس الشيوخ الأميركيين الذين دعموا مشروع الاطاحة بصدام عملوا عن قرب مع مظلة المعارضة العراقية المؤتمر الوطني العراقي، التي اتخذت قيادته، بما في ذلك أحمد الجلبي موقفاً متعاطفاً مع اسرائيل ونأت بنفسها عن صدام. وعليه يعتبر بعض الداعمين الأوائل للمؤتمر الوطني تصاعد نفوذ العطية بمثابة نكسة لجهودهم للاطاحة بصدام وقيام نظام بديل ديموقراطي برلماني حليف للغرب". وذهبت للقول: "يختلف العطية مع المؤتمر الوطني والسيد الجلبي حول عدد من القضايا. أولها اسرائيل، فعلى رغم أن العطية يقول بأنه "يؤيد عملية السلام" ويتمنى أن يرى نهاية للصراع العربي - الاسرائيلي، فهو ينتقد الجلبي على علاقته مع اسرائيل ولجنة العلاقات العامة الاسرائيلية - الأميركية ايباك. وأضافت المجلة: "والأمر الآخر الذي يختلف فيه العطية هو قانون تحرير العراق الذي أصدره الكونغرس في العام الماضي، فالمؤتمر الوطني يساند هذا القانون بقوة"، ولكن العطية قال مستهزءاً، ان "القانون بمثابة وصفة سحرية لإنهاء صدام من دون استخدام قوات عسكرية برية أميركية، بما يجعل من شراء بطاقة يانصيب أفضل حظاً بالنجاح من انتظار سقوط النظام". - اذا كانت مشكلة معظم فصائل المعارضة العراقية في التعاون مع الولاياتالمتحدة هي في عدم قناعتها بجديتها في الاطاحة بالنظام العراقي فإننا نواجه اليوم مشكلة "جدية واشنطن" في المساعدة في وحدة المعارضة العراقية، خاصة وأنها صاحبة الشأن والنفوذ داخل "المؤتمر الوطني العراقي". * كاتب وسياسي عراقي مقيم في لندن.