نشر في العدد الصادر نهار الخميس 18 تشرين الثاني نوفمبر 1999 في جريدة "الحياة" نقد لكتابي "شعر الحداثة في مصر الابتداءات .. الانحرفات .. الأزمة" كتبه حلمي سالم. ومع أنه واحد من الشعراء الذين تناولهم النقد في كتابي السالف الذكر، فهو ظل صامتا ما يقرب سنة كاملة منذ صدور الكتاب، فاذا به يعرف الشجاعة فجأة، متناولاً الكتاب وصاحبه بأسلوب يدل على أزمته النفسية التي ظل يعانيها سنة كاملة. ويبدو انه قد أفاق مما كان يعانيه فحاول عن طريق التهجم والمغالطات والشتائم أن ينال من كتاب كشفه هو والتيار الذي ينتمي اليه، وقد كان الكتاب اكثر الكتب رواجاً كما يقول المسؤولون عن ذلك في الهيئة المصرية العامة للكتاب التي طبعته. وفي استفتاء قامت به جريدة "السياسي المصري" القاهرية شارك فيه - كما نشر صلاح فضل، وعبدالعال الحمامصي، وعبدالمنعم عواد يوسف وغيرهم، وكانت النتيجة انه من الافضل الدراسات النقدية التي صدرت عام 1998 في مصر. على أن وجه العجب والدهشة هو أن حلمي سالم لا يعرف القاعدة النقدية المسماة المعجم الشعري فهو يقول انني ملأت الكتاب بالجداول الاحصائية التي ترصد عدد المرات التي وردت فيها كلمة بعينها مثل المرايا، الجسد، النورس، القميص، الخريطة وغيرها عند أدونيس ثم عند شعراء الحداثة المصريين في استقصاء بوليسي نادر، وهو يقول، - وهنا المغالطة الكبرى - ان من حق أي انسان ان يستعمل هذه الالفاظ فهي "ليست ملكاً خصوصياً لأحد، شاعراً كان او غير شاعر" فهو لا يعرف ان اللفظة الواحدة اذا اصبحت اثيرة لدى الشاعر، فهو يكثر من ذكرها غير متعمد، وهنا تصبح من معجمه الشعري. فكلمة النورس استعملها ادونيس بكثرة صفحة 32 من كتابي حتى اصبحت من معجمه الشعري، وقد استعملها شعراء الحداثة المصريون في قصائدهم قبل سنوات، وأقلعوا عنها بعد هذه الكثرة من الاستعمال وتحت تأثير النقد الذي اشار اليها هي وغيرها من المعجم الادونيسي والذي شجع حلمي سالم على فهمه الخاطئ، هو انني ذكرت للشاعر الحداثي الواحد في مجال تأثره بأدونيس بيتاً واحداً فيه كلمة نورس مثلاً. من هنا قال إن اية لفظة عربية من حق الشاعر ان يستعملها وغاب عنه - متعمداً - انني لو رحت اجمع لهذا الشاعر الحداثي جميع نوارسه المذكورة في شعره لاحتجت الى كتاب آخر في حجم كتابي على الاقل. من هنا كان اختياري 15 مفردة فحسب من 40 مفردة هي التي تشكل قاموس ادونيس الشعري، ومع ذلك ملأت المفردات المختارة هي وأبيات شعراء الحداثة التي ذكروها بعد ادونيس 103 صفحات من كتابي البالغ 319 صفحة. على ان وجه العجب هنا هو ان نقده لحديثي عن المعجم الشعري من خلال مغالطة واضحة كما حدث لم يجره الى مغالطة اخرى تتناول احد ابواب الكتاب وعنوانه: "تركيب الجملة عند أدونيس وعند شعراء الحداثة". فقد اهمل هذا الباب تماماً بعد ان وقف امام الحقائق التي كشف عنها والتي لا تجدني معها المغالطات، ومع ان المساحة ضيقة الا انني سأذكر اربعة امثلة فقط تبين هذا التأثير .. يقول أدونيس: 1 - لو كنت شجرة لرأيت أهدابي موصولة بالأفق، والأفق موصولا بغيره. 2 - .. حيث تتحول الكتابة الى نخلة، والنخلة الى يمامة. 3 - .. والحلم في أجنحة اليمام، واليمام في التنور. 4 - النفايات ولائم للأطفال، والأطفال ولائم للجرذان. ويقول شعراء الحداثة المصريون: 1 - هل استجرت من الموت بالجوع، والجوع بالموت محمد آدم. 2 - استجير من الطفولة بالنجوم، واستجير من النجوم بخضرة الشمس الوريفه صلاح اللقاني. 3 - طفل تجرد من بدن .. بدن تجرد من ثياب الغي سامي غباشي. 4 - لون الري يناسب كل الاعين، كل الأعين يمكن ان ترتاح للون الري عبدالحكم العلامي. وقد كان اختياري للشواهد الدالة على التقليد - كما رأينا - لأي شاعر حداثي مهما كان نصيبه من الشهرة، فأنا اكتب عن تيار عام لا عن شعراء مختارين، وامام هذه الحقيقة الدامغة صمت حلمي سالم، ولم يقبل عبر تحيزه غير الموضوعي ان يناقش هذا الباب. ولست ادري هل اكرر له هذه الادلة وغيرها فالتكرار يعلم الشطار وهي جملته التي تفضل بها ادبه الجم فوجهها اليّ..... أما قوله انني قلت: "شعراء الحداثة في مصر يغلبون التشكيل على الدلالة، بل يضحون عن عمد بالدلالة في سبيل التشكيل، أو يعتبرون مطلق التشكيل هو في ذاته دلالة متكفية بذاتها". وهذه الفقرة كلها ليست من كلامي، انما هي من كلام محمود امين العالم في مقاله الذي نشره في مجلة "ابداع" عن حلمي سالم نفسه وأعطاه درساً لم يستفد منه. والفقرة في المجلة والكتاب منسوبة الى محمود امين العالم! الى هذا الحد يفتقر حلمي سالم الى الامانة العلمية؟ فيخلط الاوراق عمداً، وينسب إليّ ما لم اقله في سبيل انتصار يتوهمه؟ ماذا اقول لإنسان يغالط ويشتم وينسب الاقوال الى غير قائليها؟ ولو كان السبب هو غير الامانة العلمية فهل نسب إليّ اقوال محمود امين العالم وهو غائب عن الوعي؟ والغريب انه بعد هذه السقطة يتحدث عن "الامانة" فيقول: "إن قليلاً من الجهد قد يصلح النقد، وقليلاً من الامانة قد يصلح النفس". وواضح انه اولى مني بنصائحه، اما نصيحتي اليه فهي "ان قليلاً من الامانة والحياء قد يصلح النقد والنفس". أما الغموض - وحلمي سالم من أكبر ممثليه - فيكفينا نقد محمود أمين العالم له. فقد حيره وأتعبه فهم شعره حتى لجأ الى السيدة ماجدة رفاعه، ولها باع في فهم شعر الحداثة كما يقول محمود العالم..... وطبيعي ان يقف محمود أمين العالم وغيره امام الهذيان البعيد عن الفن تماماً موقف العاجز عن الفهم.... وقد انهى مقاله بنصائح ابويه لحلمي سالم ولكل شعراء "الحساسية الجديدة" الثوريين كما افتخر احدهم، ومن نصائحه لهم قوله: "ألا يفرض علينا شعر الحداثة في كثير من تشكيلاته المبهمة ان نسعى الى تفهمه، وفك تكويناته على طريق حل الألغاز؟ ألا يفضي هذا بنا الى فقدان التذوق العميق للشعر؟ أعرف ان المسألة تحتاج الى دُربة وألفة، ولكنها قد تحتاج من الشاعر كذلك الا يغالي الا للضرورة التعبيرية في رحلته الاستعارية البعيدة التي قد تتعارض استعاراتها مع بعضها البعض كما رأينا في المثال السابق، أو تتعقد على الاقل تعقداً شديداً". وهو يقول بعد ذلك عن شعراء الحداثة أخشى أنهم بهذا لا يطورون اللغة، ولا يطورون الخبرة الشعرية، بل يضاعفون من القطيعة بين الشعر والخبرات الانسانية الحية - مجلة "ابداع"، آذار مارس 1994 ص 89 -90. ويمضي حلمي سالم ليقول: "لقد لقيت حركة الشعر الحر الاستهجان والنكران اللذين يتهمانها بمحاباة التطور الصحي السليم، وبأنها مجلوبة من الغرب". وحلمي سالم لا يعرف أن كل حركة جديدة لا بد ان تقاوم وتستنكر في الأمة الحية، حتى اذا اثبت الجديد جدواه وانه صالح للحياة، تفتحت له القلوب وهذا ما حدث لحركة الشعر الحر أو شعر التفعيلة التي غيرت الأذواق واستقرت رافداً مهماً في الشعر العربي ظل خمسين سنة حتى الآن هو التيار المسيطر على الساحة الشعرية. وقد اعترف به رسمياً حين اختاروني عضواً في لجنة الشعر في المجلس الاعلى للفنون والآداب في عهد مقررها عزيز اباظة لأمثل هذه الحركة الشعرية الجديدة قبل ان يختاروا صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي عضوين في هذه اللجنة، فقد جاءا بعدي بشهرين. والامر الذي كان وراء نجاحنا هو اننا لم نقطع صلتنا بالتراث، ولا بقوميتنا، ولا بمشاكل مجتمعنا وكأننا شخوص هبطت على الأرض من كوكب مجهول كما هو الحال مع اصحاب "الحساسية الجديدة". على انني مع كل هذا لا أدهش من تفكير حلمي سالم ومغلطاته وشتائمه. فما زلت اذكر طريقته في بيع نسخة من ديوان "سراب التريكو" اذ قال لي: هات خمسة جنيهات من دون ان يبدي سبباً لطلبه، فأعطيته خمسة جنيهات، فإذا به يفتح درجاً ويخرج منه نسخة من ديوانه الشديد الغموض وكتب اهداء يقول: "قد إلى الاستاذ الدكتور كمال نشأت لعله يحب بعض ما يكره". وكان الاهداء يحمل نفساً شعرياً لم أجده في شعر الديوان "سراب التريكو" الذي علق عليه شاعر يحب الفكاهة فقال: "ما معنى سراب هنا.. انها لا تفهم عقلاً ولا يمكن ان تكون ركزاً ذا ايحاء.. ولو انصف الشاعر لقال "شراب التريكو" فيكون من كلام الآدميين والشراب في العامية المصرية هو "الجورب"..". * شاعر وناقد مصري.