لم يكن الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال برويز مشرف مفاجئاً، فنواز شريف، رئيس الوزراء المخلوع، بلغ خطوة متقدمة في عملية قضم المؤسسة العسكرية، اذ بدأ بإقالة قائد البحرية الجنرال منصور الحق، وحمّل قادة القوات المسلحة مسؤولية المجابهة في كشمير، وأمر بسحب المقاتلين من قمم جبال كاركيل ودراس وباتاليك من دون التشاور مع قادة الجيش، وبلغ ذروة غير مسبوقة في تحدي الجيش بإقالة الجنرال مشرف، قائد الجيش، خلال وجوده في سريلانكا. ما ان نجح حزب الرابطة الاسلامية الذي يتزعمه نواز شريف في الانتخابات البرلمانية في شباط فبراير 1997، حتى بدأ رحلة السيطرة على اجهزة الدولة واحتكار السلطات. بدأ باستثمار الغالبية البرلمانية التي يتمتع بها حزبه 141 مقعداً من 217 مقعداً، فعدل المادة 58 ب ووضع بديلاً لها المادة 14 التي تمنع اعضاء البرلمان من تغيير ولاءاتهم الحزبية والسياسية حتى يتلافى مخاطر حجب الثقة ويؤمن استمرار رئاسته للسلطة التنفيذية، تلى ذلك نيسان/ ابريل 1997 تعديل المواد التي تحدد صلاحيات رئيس الجمهورية التعديل الثالث عشر الذي قضى بحرمان الرئيس من حق حل البرلمان، وبالتالي عزل الحكومة وتعيين قادة الجيش وحكام الاقاليم. وقضى بتولي رئيس الوزراء هذه الصلاحيات. وجاء رفض نواز شريف المصادقة على تشكيل مجلس الدفاع والأمن القومي، الذي يُشرك للمرة الاولى الجيش في اتخاذ القرارات المصيرية، ليؤلب الجيش عليه، الذي لم يغب عنه ان سحب صلاحية حل البرلمان واقالة الحكومة من يد رئيس الدولة كان موجهاً ضده، لأن الدستور الباكستاني يعتبر رئيس الجمهورية القائد الأعلى للجيش وهو الذي يقوم بتعيين قادته، بالاضافة الى ان الرئيس لم يكن يحل البرلمان ويقيل الحكومة الا بعد التشاور مع الجيش. لم يقف نواز شريف عند السيطرة على صلاحيات رئيس الجمهورية، بل وانتقل الى القضاء، حين اقترح قانوناً لمكافحة الارهاب يُخوّل اجهزة الأمن قتل المجرمين والمشتبه بهم، وعندما رفض القضاء التصديق على القرار، رد نواز شريف 20/10/97 برفض تنصيب خمسة قضاة جدد في المحكمة العليا، واتهم رئيس المحكمة العليا بعرقلة عمل رئيس الوزراء السلطة التنفيذية. رد القضاء بإلغاء قرار البرلمان الذي حظر على النواب تغيير ولاءاتهم الحزبية وبإعادة حق حل البرلمان وعزل الحكومة الى رئيس الجمهورية. فعقد شريف جلسة طارئة للوزارة لإقالة رئيس الجمهورية لتحالفه مع رئيس المحكمة العليا ضد السلطة التنفيذية واستثمر خلافات داخل القضاء، فاستصدر حكماً قضائياً بإقالة رئيس المحكمة العليا سجاد علي شاه، لأنه ليس الأحق بتولي رئاسة المحكمة العليا، كونه ليس الأكبر سناً بين قضاة هذه المحكمة. واستقال الرئيس فاروق ليغاري متهماً نواز شريف بالسعي الحثيث لفرض هيمنته على كل اجهزة الدولة، وانه "يريد سلطة مطلقة بلا رقابة لاحقة". عبّرت قطاعات واسعة من الشعب الباكستاني عن ارتياحها لزوال سلطة متسمة بالاستبداد والفساد، غير عابئة بما قيل عن ضرب التجربة الديموقراطية ذلك لأن أولويات المواطن الباكستاني لا تتضمن التمسك بالديموقراطية والدفاع عنها، فلقمة العيش تحتل رأس هذه الأولويات، وسبق للشعب الباكستاني ان غض النظر عن تجاوزات شريف، وضربه بمتطلبات الحياة الديموقراطية فصل السلطات، احترام القضاء… الخ عرض الحائط، مكتفياً بوعده محاربة الفساد وتحسين الأوضاع المعيشية. لم يستطع نواز شريف الاحتفاظ بتأييد الشارع الباكستاني لأنه لم يحقق هدفه الأول من جهة، ولأنه طعن آماله في تحقيق نصر عزيز، كان من شأنه ان يستعيد للبلاد بعض كبريائها الوطني، الذي فقدته في حروبها السابقة مع الهند من جهة ثانية. فعلى الصعيد الاقتصادي وصلت باكستان حد الافلاس لم يبق في خزينة الدولة الا بليون دولار عملة صعبة. فالدين الخارجي نما بصورة مطردة من 12.6 بليون دولار عام 1989 الى 32 بليوناً عام 1999، يوازي 90 في المئة من الناتج العام، تدفع باكستان 40 في المئة من ناتجها العام لخدمة الدين، العملة الوطنية انخفضت بنسبة 20 في المئة، دخل المواطن السنوي 400 دولار، 65 في المئة من المواطنين تحت خط الفقر، تردى مستوى الخدمات الصحية والتعليمية. 80 في المئة من الباكستانيين أميون، اقتطاع 20 بليون روبية حوالى بليون دولار من الأموال المخصصة للخدمات الصحية والتعليمية استجابة لشروط صندوق النقد الدولي. فالسياسة الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة تعتمد على القروض الخارجية، وهذا جعل خطط التنمية الباكستانية خاضعة لرضى الجهات المقرضة ورهن القرار السياسي الباكستاني، والاقتصاد الباكستاني للرأسمال الاجنبي. حكومة نواز شريف ليست مسؤولة عن كل مشاكل باكستان، لكنها بدل تحسين الاوضاع، كما وعد شريف، زادت الأوضاع سوءاً، اذ تدنى مستوى المعيشة وزاد الفساد - الذي وعد بمحاربته وجعله سيفاً على رقبة بنيظير بوتو - استفحالاً والرشوة تفشياً. وتبين ان شريف وهو من اصحاب مئات الملايين من الدولارات وشقيقه حاكم اقليم البنجاب لا يدفعان ضريبة دخل، وان استباحة المال العام في ظل حكومته بلغت حداً خطيراً تجلى في نهب الشخصيات النافذة، بمن فيهم شريف نفسه، في الحزب والدولة لأموال المصارف عن طريق قروض كبيرة من دون ردها 100 بليون روبية ما يعادل 5 بلايين دولار الى نهب اموال المساعدات والقروض التي تتحمل الدولة مسؤولية سدادها، ناهيك عن فساد وخلل النظام الضريبي والمصرفي. وعلى صعيد القاعدة الاجتماعية للحكومة لم ينجح شريف في توسيع هذه القاعدة التي تكونت من تحالف رجال اعمال وصناعيين ومتدينين مستقلين وزعماء قبائل وجماهير شعبية انجذبت لوعود الاصلاح ومحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية. كما لم يتقدم بحل لمشكلة الاستقطابات الحادة التي تخترق المجتمع. فالصراع بين المهاجرين الذين جاؤوا من الهند بعد قيام باكستان والسكان الأصليين لا يزال يسمم الحياة الاجتماعية، خصوصاً في السند والبنجاب، اذ تسود نظرة احتقار للمهاجرين، ودعوة المهاجرين الى الاستقلال خصوصاً وان وضعهم الاجتماعي زاد سوءاً إثر المتغيرات الداخلية التي حصلت على صعيد التعليم التي عرفتها باكستان بعد السبعينات، وأفقدت المهاجرين مواقعهم في الادارة والتعليم التي احتلوها عند هجرتهم الى مناطق قليلة التعليم والخبرة، كما عقّد الوضع وقوف السلطة المحلية ذات الجذر السندي او البنجابي ضدهم. والصراع بين السنّة 80 في المئة والشيعة 20 في المئة الذي اخذ شكلاً عنيفاً راح ضحيته العشرات 1800 قتيل عام 1994، 2000 قتيل عام 1995 ولعبت السلطة بهذا الملف من خلال دعمها لجماعة "حقيقي" التي تساهم في اذكاء نار الفتنة بين الطرفين، والتفاوت الواسع بين الاقاليم اذ يتركز الغنى والسلطة في اقليمي السند الاقليم الزراعي والبنجاب الاقليم الصناعي. فالمواطنون السند والبنجابيون يسيطرون على مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والحزبية حزب الشعب - أسرة بوتو اصولها سندية اقطاعية، الرابطة الاسلامية - اسرة شريف اصولها بنجابية صناعية، وغالباً تأخذ عملية توزيع المناصب شكل توازن بين ابناء هذين الاقليمين بلوشستان والشمال الغربي حالات متدنية على مستوى الخدمات والتعليم الى فقر مدقع. اما على صعيد التفاوت الاجتماعي بين المواطنين فإن الطبقات العليا، التي ينتمي اليها شريف، لا تقبل التنازل عن أي من مكاسبها لصالح المواطنين البسطاء، في وقت ينتمي 60 في المئة من اعضاء البرلمان الى الأسر الاقطاعية. لم تسع حكومة شريف لجسر الفجوة بين الأقاليم، وبين الطبقات الاجتماعية باجراءات حقيقية بل سعت، ومنذ تجربتها الاولى في السلطة من 90 - 93 الى الالتفاف حول المشاكل الفعلية والانفتاح على قضايا اخرى لها حساسية شعبية لجذب اهتمام المواطنين وتأييدهم مثل تبني هوية اسلامية وفرض التشريع الاسلامي. وأدركت القوى الاجتماعية اللعبة، فقاطعت انتخابات شباط 97 التي جاءت بشريف الى سدة الحكم 25.96 في المئة ممن يحق لهم التصويت فقط، شاركوا في الانتخابات، اقل نسبة مشاركة: عام 88 شارك 69 في المئة، وعام 93 شارك 40 في المئة وخصوصاً الطبقة الوسطى التي لم تشارك في هذه الانتخابات لأنها لم تجد في المعادلة السياسية التي أسس شريف نظامه السايسي عليها ظاهرة ايجابية، وهذا عبّر عن وجود ازمة سياسية عميقة تلقي بظلالها على باكستان، لذلك كان لنجاح شريف الانتخابي طعم الهزيمة. يبدو ان شريف الذي نجح في تحجيم رئيس الجمهورية ورئيس المحكمة العليا وقيّد اعضاء البرلمان تجاهل حساسية المؤسسة العسكرية ونفورها من تدخل القيادات المدنية في شؤونها الداخلية، فارتكب غلطة الشاطر التي كلفته منصبه وربما حياته او على الاقل مستقبله السياسي. أعلنت قيادة الانقلاب ان شريف ضالع في التآمر على حياة قائد الجيش، وانه سعى الى اضعاف الجيش عن طريق ضرب بعض قياداته ببعضها تعيين رئيس المخابرات العسكرية في منصب قائد الجيش، وتقسيمه بخلق صراعات بين قادته. ناهيك عن دوره في الفساد وإهدار المال العام وتفريطه بالمصالح الوطنية في كشمير تحت الضغط الاميركي باكستان أُذلت كما قال مشرف. يبقى السؤال عن قدرة قادة الانقلاب على حل المشاكل التي تواجه باكستان، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، مشروعاً، خصوصاً وان الجيش حكم البلاد 24 عاماً من اصل 50 عمر الدولة انقلابات 1958، 1970، 1977 ولم يفلح كثيراً في مواجهة المشاكل الكبرى، وان الانفاق العسكري ثلث الناتج المحلي في بلد محدود الموارد احد اسباب الأزمات الاقتصادية وان باكستان تتعرض الآن، ضمن عملية كبيرة لإعادة صوغ نظام اقليمي جديد يستجيب لمصالح قوى دولية نافذة الولاياتالمتحدة تحديدا، لتآكل اهميتها ودورها لصالح الهند التي يمكنها ان تلعب دوراً اكثر نجاحاً من باكستان في احتواء الصين منافس واشنطن المقبل، وهذا سيجعلها عرضة لضغوط كبيرة اقتصادية وسياسية وعسكرية، لاخراجها من حلبة التنافس على السيادة في الاقليم. ان النجاح في محاربة الفساد وتنشيط الاقتصاد، وهما مهمة غير سهلة، المدخل الرئيس للإبقاء على التفاف الشارع الباكستاني حول القادة العسكريين، والمحافظة على الاستقرار والا فإن تآكل شعبية النظام العسكري والعودة الى حال التوتر والمجابهة السياسية هي البديل. فشعبية المؤسسة العسكرية قابلة للتعرض وسريعة العطب. * كاتب ومحلل سياسي سوري.