بشكل عام، يعتقد ان محمد مصدق، السياسي الايراني الوطني الذي رسم ونفذ سياسة نفطية أغاظت الانكليز وأدت الى حدوث تبدلات سياسية عميقة في ايران أوائل سنوات الخمسين، لم يبدأ الاهتمام الجدي بقضية النفط الا في ذلك الحين، وكرد فعل على ممارسات اقتصادية وسياسية انكليزية من ناحية، وللاستفادة من تفاقم المنافسة بين واشنطن ولندن من ناحية اخرى. غير ان الحقيقة تقول لنا ان مصدق بدأ الاهتمام بقضية النفط، وتحدث للمرة الأولى علناً عن ضرورة تأميم تلك الثروة الوطنية، أو على الأقل الحفاظ عليها، بشكل أو بآخر، منذ شهر كانون الأول ديسمبر 1944، أي ما أن بدأت تلوح آفاق الصورة التي سيكون عليها العالم خلال الفترة المقبلة. في ذلك الحين، كان محمد مصدق نائباً في المجلس البرلمان. وكان ذلك المجلس المختبر الحقيقي الذي تتفاعل فيه شتى التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، في زمن كان الشاه الجديد محمد رضا بهلوي لا يزال يافعاً وعرضة لشتى التأثيرات. وكان حزب "تودة" الشيوعي الايراني فتح الأعين واسعة على قضية النفط. من هنا حين بدأت أزمة اقتصادية وسياسية عنيفة تعصف بإيران، كان من الطبيعي لمحمد مصدق المعني بالقضايا الاجتماعية في بلده، ان يقترح الحلول بوصفه ممثلاً عن الشعب. وهكذا، من خلال خطاب عنيف وحاد ألقاه مصدق في "المجلس" اليوم الرابع من ذلك الشهر كانون الأول 1944 برز بوصفه زعيم التيار الوطني الايراني، وذلك للمرة الأولى بذلك الشكل السافر، حين طالب بأن يصدر المجلس قانوناً يمنع الدولة "من اعطاء أي امتياز للتنقيب عن النفط لأية شركة، طالما ان ثمة قوات اجنبية ترابط فوق الأراضي الايرانية". وكانت تلك هي المرة الأولى التي يُربط فيها، في ايران، بين القضية النفطية والقضية الوطنية. وجاء خطاب مصدق ذاك، وسط أجواء متأزمة، اجتماعياً وحكومياً، اذ بعد استقالة رئيس الحكومة محمد سعد، لم يتمكن خليفته مرتضى غولي ربيات، من الحصول على ثقة "المجلس" إلا بصعوبة، حيث نال 50 صوتاً مقابل 45 صوتاً وقفت ضده. ولم يفت حزب "تودة" في تلك المناسبة ان يحاول عرقلة التصويت، كما فعلت قوى عديدة أخرى. وكان من الواضح ان ذلك المناخ البرلماني انما يعكس مناخاً شعبياً واجتماعياً حاداً. ففي الشارع كان العاطلون عن العمل ينضمون بالألوف الى تظاهرات العمال، كما ان سعاة البريد والكهربائيين كانوا أعلنوا اضراباً مفتوحاً. وكانت المطالب تتعلق برفع الأجور، حيث ان الأجور كانت شديدة الانخفاض، فيما كان مستوى المعيشة يرتفع الى حدود لا تطاق. وهكذا راحت مواكب المتظاهرين تملأ شوارع طهران والمدن الأخرى، وراح الخطباء يتبارون في اتهام الاجانب بنهب الثروات الايرانية ومنها الثروة النفطية. وكان من الطبيعي ان ينعكس ذلك في مجلس لم يفت القصر ان يرى في الدنو منه حلاً للمعضلة. وهكذا شعر "المجلس" بقوته، لا سيما حين طلب اليه، رسمياً، ان يسمي مرشحاً لرئاسة الحكومة يخلف محمد سعد. يومها رشح المجلس 16 شخصاً، حيث ان كل قوة وتيار، تعمد ان يختار من يمثله. أما رئيس المجلس، السيد طباطبائي، فقد رشح محمد مصدق. وكاد هذا ان يصبح رئيس حكومة بالفعل، لولا انه وضع شرطاً، وهو ان يكون في إمكانه استعادة مقعده البرلماني، في حال استقالته بعد ذلك من رئاسة الحكومة. ولما كان هذا الأمر مخالفاً للدستور، كانت النتيجة ان بقي مصدق نائباً ولم يصبح رئيساً للحكومة. غير ان حديثه عن النفط في تلك الجلسة الشهيرة، وكونه أول من ربط قضية النفط بالقضية الوطنية والاجتماعية، أمران جعلاه أشبه ببطل شعبي حقيقي. ومصدق، في انتظار ان يصبح، لاحقاً، رئيساً للحكومة ويخوض تجربة التأميم، لم يوقف نشاطه، اذ بعد تلك الجلسة التاريخية بعامين، عاد من جديد، حين دُعي "المجلس" للمصادقة على الاتفاقية النفطية المعقودة مع السوفيات مقابل ان يسحب ستالين قوات الجيش الأحمر المرابطة شمالي ايران. يومها رفض المجلس الموافقة بالاجماع. وهنا قام مصدق وقدم اقتراحاً وافق عليه المجلس، ينص على ان كافة الاتفاقات المعقودة سابقاً مع الاتحاد السوفياتي تعتبر ملغية، حتى تترك القوات السوفياتية اراضي ايران. هذا الموقف زاد من شعبية مصدق وكذب ما كان خصومه يقولون عنه من انه لعبة في أيدي حزب "تودة". الصورة: مصدق يصافح الاميركي افريل هاريمان: مصلحة ايران أولاً.