خلال شهر آذار (مارس) عام 1953، تسارعت المتغيرات التي أدت إلى سقوط حكومة محمد مصدق، زعيم الجبهة الوطنية الإيرانية، وإلى عودة الشاه محمد رضا بهلوي إلى الحكم. تركت هذه الأحداث مضاعفات بعيدة المدى في إيران، ولكن آثارها لم تنحصر فيها إذ إن معركة تأميم شركة النفط الأنغلو - إيرانية التي خاضها مصدق حولته إلى معقد للآمال الإيرانية والعربية معاً. ولمس المعنيون بالشأن الأوسطي التجاوب العربي الكبير مع الوطنيين الإيرانيين يوم زار مصدق القاهرة لأول مرة بعد تأميم الشركة حيث جرت له استقبالات شعبية ورسمية حافلة. وكان من أسباب التجاوب العربي مع الوطنية الإيرانية ممثلة بمصدق، القناعات المشتركة حول القيم الديموقراطية والتحررية التي كانت منتشرة على نطاق واسع بين الإيرانيين والعرب. هكذا، بدا ذلك الفصل من تاريخ إيران الحديث وكأنه مجال اختبار لهذه النظريات والمقاربات ولصدقية معتنقيها. لذلك، فإن إخراج مصدق من قصر الرئاسة إلى السجن والاعتقال الجبري لم يكن كافياً في نظر الذين خططوا ونفذوا هذا العمل، بل كان من الضروري إلحاقه بانتصار حاسم في معركة السيطرة على العقول أيضاً، وتغيير المفاهيم والنظرات السياسية التي انتشرت في مرحلة صعود مصدق. في معركة السيطرة على العقول، كان من المهم إخراج الديموقراطية من الحياة العامة مثلما أخرج مصدق من الحكومة. كانت التجارب المشرقية تدل على أن الحكومات التي تأتي عبر الديموقراطية هي الأجدر بالدفاع عن المصالح الوطنية. هكذا، كانت تجارب مصر وسورية ولبنان التي سبقت تجربة مصدق. من هنا، كان من الطبيعي أن يترافق حرص مصدق على المصالح الوطنية الإيرانية مع تمسكه بالمبادئ الديموقراطية. خاض مصدق معركة تأميم النفط بعزم وإصرار. هذا الإصرار رافقه أيضاً عندما اشتدت الحملة المناهضة له في الإعلام وفي الشارع. اتهم مصدق بالخيانة وبالعمل لمصلحة بريطانيا، وبأنه حليف مستتر لحزب «توده» الشيوعي الإيراني، وبأنه يهودي. على رغم شدة هذه الحملة وغلوّها، فقد رفض مصدق الحد من حرية الإعلام ومن حرية المعارضين. لقد استهدفت حملات الانقلابيين على مصدق إنهاك حكومته، وخلق حال من الفوضى الكاملة في البلاد لكي يدفعوا المواطنين إلى المطالبة بالحكم القوي الذي يضع حداً لهذه الحال. وتمكن رعاة هذه الحملات من تحقيق شيء من هذا الهدف. بقيت شعبية مصدق وحكومة الجبهة الوطنية على حالها، ولكن انتشر القلق في صفوف الرأي العام من التدهور الذي أصاب البلاد. عندما أسقط حكم مصدق خرج بعض الوطنيين في المشرق يقولون إن الديموقراطية لا تخدم المصلحة الوطنية، وإن النظام الديموقراطي لا يقوى على حماية الديار من التدخل الأجنبي ومن مشاريع السيطرة والاستغلال. ولقد جاءت هذه التجربة المظلمة لكي تعمق الجرح الديموقراطي في المنطقة بعد الهزيمة العربية في حرب فلسطين عام 1948. تقاطعت هذه الاستنتاجات مع نظريات راجت في أوساط دولية حول الدور الحاسم الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الأمنية في العالم الثالث في حماية الاستقرار والكيانات الترابية للدول من التفتت وتحقيق التنمية السريعة. هكذا، خرجت ذكرى مصدق من الذاكرة الشعبية، لكي تحل محلها النظرة التشاؤمية تجاه الديموقراطية والعجز الديموقراطي المتراكم في المنطقة. كانت «نظرية المؤامرة» من بين النظريات التي حظيت بالاهتمام خلال السنوات التي تبعت إسقاط حكومة مصدق. يقول التعريف القانوني للمؤامرة إنها اتفاق يتم بين جهتين أو أكثر، وغالباً في الخفاء، لتحقيق أهداف ترفضها القوانين والشرائع. أما نظرية المؤامرة فإنها تقرر، أحياناً وفي بعض التعريفات، أن المؤامرات تسيّر التاريخ، وأن كل حدث تاريخي وراءه مؤامرة يرسمها الأقوياء والأشرار. ولقد استخدم هذا التعريف التبسيطي للسخرية من المحاولات الجادة للكشف عن أهداف وخفايا ومحفزات السياسات التي ترسم ضد مصالح الشعوب، وللخلط بين هذه المحاولات، وبين الشطط في تفسير المشاريع المشبوهة التي كانت ترسم ضد الشعوب التائقة إلى الحرية والتقدم والعدالة. سواء دعي الانقلاب ضد مصدق مؤامرة أم لا فإن معالمه رسمت في الظلام ومن وراء ظهر الشعب الإيراني في سيناريو مفصل دعي ب «مشروع آجاكس». وحدد المشروع بدقة وبالتواريخ والأرقام كافة المبادرات والتحركات الهادفة إلى العودة بإيران إلى الوضع الراهن الذي سبق تأميم شركة النفط الأنغلو - إيرانية، أي إلى وضع بات مرفوضاً حتى من قبل بعض الحريصين على المصالح الغربية النفطية. فالشركة كانت تحقق آنذاك أرباحاً طائلة بلغت عام 1950 ما يقارب 200 مليون جنيه استرليني مقابل 16 مليون جنيه استرليني فقط حصلت عليها إيران. لما كان إسقاط مصدق كفيلاً بتسليط الأنظار على دوافع المخططين لمشروع «آجاكس» المتناقض مع تطلعات الإيرانيين، فقد تضمن سيناريو «آجاكس» إجراءات محددة لنفي صفة المؤامرة عن التحركات الرامية إلى إسقاط مصدق. وكان من بين هذه الترتيبات زرع أخبار وتحليلات في الإعلام العالمي وفي الإعلام الإيراني، لإعطاء الانطباع بأن أعمال العنف والفوضى التي تنفذ بموجب المشروع هي مجرد تحركات شعبية وعفوية لا رابط بينها ولا ضابط ينظمها ولا باعث لها إلا غضبة الجماهير الإيرانية على مصدق «حليف الشيوعيين»، ورفضها حكومة الجبهة الوطنية «الإرهابية»، كما وصفت مجلة «تايم» الأميركية الجبهة التي كانت تضم لفيفاً واسعاً من السياسيين الإيرانيين الوطنيين والديموقراطيين والليبراليين. وكما قدم الانقلاب على مصدق مادة غنية لمناقشة نظرية المؤامرة، فقد وفر مادة مماثلة لمناقشة مسألة العلاقة بين المؤثرات الخارجية والداخلية في صنع السياسات في دول العالم. سلط الانقلاب الأنظار على أمرين لعبا دوراً حاسماً في إسقاط حكومة مصدق: الأمر الأول، هو الأوضاع الدولية المستجدة خلال تلك الفترة. وبدهي أن تلك الأوضاع لم تكن جزءاً من الخطة الرامية إلى إسقاط مصدق وإنما هي نتيجة مصادفات تاريخية. ولكن هذه المصادفات شكلت خلفية مناسبة للحدث المأسوي الإيراني وساعدت على تحقيقه كما قال ستيفن كينزر في كتابه «كل رجال الشاه». طرأت على الواقع الدولي الجديد خلال الأسابيع الأخيرة من حكم مصدق ثلاثة متغيرات مهمة: الأول، كان خروج حزب العمال في بريطانيا، وحلول حزب المحافظين محله برئاسة تشرشل. الثاني، كان في حلول الحزب الجمهوري بزعامة آيزنهاور محل الحزب الديموقراطي في البيت الأبيض في واشنطن. والثالث، كان في وفاة ستالين وانتقال الزعامة السوفياتية إلى مجلس حكم ترأسه مالينكوف. المتغيران الأول والثاني أديا إلى تسلم صقور الحرب الباردة (مثل ونستون تشرشل، أنتوني إيدن وجون فوستر دالاس) إدارة السياسة الخارجية في الولاياتالمتحدة وبريطانيا بدلاً من المعتدلين. أما المتغير الثالث، فقد أصاب الاتحاد السوفياتي خلال الأسابيع الحاسمة في حياة حكومة مصدق بما يشبه الشلل ومن ثم أدى إلى إطلاق يد واشنطن ولندن في إسقاط تلك الحكومة. أما الأمر الثاني الذي لعب دوراً في سقوط مصدق فهو التدخل المباشر والمخطط له ضد حكومته بعد أن اتفقت الحكومتان الأميركية والبريطانية على بنود خطة «آجاكس» كافة فتحولت من مشروع وضعه دونالد ويلبر، الذي كان يعمل في «المكتب الأميركي للخدمات الاستراتيجية» إلى خريطة طريق للوصول إلى الأهداف المرسومة. وفي ضوء هذا القرار أبلغ الجنرال بيديل سميث، وكيل وزارة الخارجية الأميركية سائر الإدارات المعنية في وزارته بأن واشنطن لم تعد تقبل بحكومة الزعيم الإيراني محمد مصدق وأنه بات على الإدارات الأميركية المعنية اتخاذ سائر التدابير الضرورية لإسقاط تلك الحكومة واستبدالها بأخرى تتماشى مع نظرة الإدارة الأميركية إلى الأوضاع الإيرانية. تقدم هذه التفاصيل وغيرها مما تم الكشف عنه أدلة حاسمة على خطورة الدور الذي لعبه «الخارج» الأميركي والبريطاني في تغيير «الداخل» الإيراني، واستطراداً في الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى الكبرى في صنع الأحداث في الدول الصغيرة أو حتى في القوى المتوسطة مثل إيران. وكثيراً ما يعترض البعض على هذه الاستنتاجات وعلى «تعليق المشاكل الداخلية على شماعة التدخل الخارجي». إلا أن أصحاب هذه الاعتراضات يجدون، ولا شك، حرجاً متزايداً في اتجاه بعض المسؤولين الأميركيين أنفسهم إلى الربط بين التدخل الأميركي، من جهة، وبين الانقلاب على مصدق، من جهة أخرى. ولقد اقترب الرئيس الأميركي أوباما في الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة في حزيران (يونيو) 2009 من تحميل بلاده مسؤولية ذلك الحدث المشؤوم عندما قال، إنه «وسط الحرب الباردة، لعبت الولاياتالمتحدة دوراً في إسقاط حكومة إيرانية انتخبت ديموقراطياً». ومن المؤكد أنه لو كان هذا الدور عادياً، لما كان أوباما في حاجة إلى التحدث عنه بلهجة اعتذارية في واحد من أهم خطبه الرئاسية. * كاتب لبناني