في ذاكرة الديموقراطيين والليبراليين الايرانيين، سوف يبقى يوم الثامن عشر من تشرين الاول اكتوبر من العام 1949، اليوم الذي تأسست فيه الجبهة الوطنية، تلك الحركة التي كانت ثمرة نضال طويل وتحالفات عريضة من الناحية السياسية، لكنها كانت في الوقت نفسة ثمرة مباشرة لاحداث اخرى، شهدتها طهران في اليوم السابق تماماً، وتحديداً في القصر الملكي. اذ، في يوم 17 من ذلك الشهر، وصل الى ذروته ذلك الاضراب الشهير عن الطعام الذي قام به محمد مصدق على رأس وفد من عشرين شخصاً، وهو اضراب ضجّت له ايران كلها في تلك الايام العصيبة، ودام اياماً، قبل ان ينتهي مساء ذلك اليوم، ليفتح الطريق في اليوم التالي امام تأسيس الجبهة المذكورة في الصورة مصدق ومناصروه. كان الاضراب بدأ يوم الرابع عشر من الشهر نفسه حيث توجه محمد مصدق، وهو احد كبار اقطاب المعارضة الوطنية، في ذلك الحين، الى القصر الامبراطوري على رأس الوفد الذي ذكرناه، حاملاً رسالة موجهة الى الشاه تطالب، بين امور اخرى، بأن تجري انتخابات حرة نزيهة في البلد. كان ذلك فحوى النضال السياسي الاساسي في ذلك الحين، حيث ان المعارضين وكانوا كثرة، كانوا يرون ان الانتخابات التي جرت غير نزيهة ومليئة بالغش والثغرات، ما يجعل "المجلس" غير قادر على ان يمثل لمشيئة الشعب حقاً. ولم يكن في ذلك الاحتجاج الذي قاده سياسيون ونقابيون وصحافيون ومثقفون ما يطال الشاه شخصياً، بل يوفّر الشاه، مطالباً فقط بأن تلغى الانتخابات الاخيرة، وان تجري انتخابات جديدة لا غشّ فيها ولا تدخّل. والغريب في الامر ان ذلك الوفد الذي توجه الى قصر الشاه على رأس جمهرة عريضة ضاجّة صاخبة، اذ وجد اعتراضاً لإكماله مسيرته امام القصر، سرعان ما وجد نفسه يدخل القصر، وقد تبين للمتظاهرين بسرعة ان الشاه محمد رضا هو الذي اصدر اوامره الشخصية بترك الوفد يدخل الى حدائق القصر ثم الى القصر. وهكذا دخل الوفد. سلّم العريضة للشاه ثم… بقي مواصلا احتجاجه واضرابه، معلناً انه لن يتراجع عن ذلك الاضراب عن الطعام حتى تتحقق مطالبه. واستمر الاضراب حتى مساء السابع عشر من ذلك الشهر، دون ان يزعج حراس القصر المضربين، حتى حين راح بعض هؤلاء يعلن امام الصحافة واجهزة الاعلام المتجمعة والناقلة أخبارهم اولاً بأول، انهم سيواصلون معركتهم التي لن تكون فقط موجهة ضد الانتخابات المغشوشة بل ايضاً، ومن الآن فصاعداً، ضد هيمنة سلطة الشاه، فهم، كما قالوا، باتوا يخشون من ان تعود الامور الى ما كانت عليه قبل العام 1941، حين كان الحكم ديكتاتورياً واكثر. واضاف المضربون انهم يرون ان الشعب وممثليه البرلمانيين، هم من يجب ان يحكم، اما الشاه، فهو السلطة العليا، انه يملك ولا يحكم. كان لا بد للاضراب ان ينتهي اذن. وانتهى مساء ذلك اليوم. والمضربون اعلنوا انتهاءه بانفسهم موضحين ان غايتهم كانت ان يصغي الشاه اليهم وان يعرف الرأي العام ان هناك من يناضل وينطق باسمه موصلاً خطابه الى اعلى المستويات. وفي اليوم التالي تم تأسيس "الجبهة الوطنية" وهي جبهة كان البحث في تأسيسها بات ضرورة، ثم خلال ايام الاضراب الاربعة، حيث انه كان من بين المتحلقين من حول مصدق هناك، ممثلو العديد من التيارات المعارضة، وهكذا، حين تأسست "الجبهة الوطنية" وتم انتخاب محمد مصدق لقيادتها، تألفت من ثلاثة تيارات مختلفة: التيار الاول يمثل السياسين المعادين للانكليز والذين كانوا يعتبرون قضيتهم قضية تحرر وطني في المقام الاول، والتيار الثاني يمثل تجّار البازار المدعومين من رجال الدين، اما التيار الثالث فيمثل المثقفين على اختلاف توجهاتهم الليبرالية والعلمانية والديموقراطية. كان من الواضح ان الجبهة لا تشكل حزباً منتظماً، بل انها اتحاد لقوى مختلفة، صحيح ان هذا أهّلها لأن تعتبر نفسها، وتُعتبر حقاً، ناطقة باسم الامة كلها. ومع هذا حين شكّل علي منصور حكومته بعد اشهر، من الخضّات والازمات، لم يشرك الجبهة الوطنية في تلك الحكومة الائتلافية. والحقيقة ان هذا الامر بدلاً من ان يُضعف الجبهة عزز من قوتها ومكّنها لاحقاً من تحقيق انتصار قوي وحاسم في الانتخابات النيابية، مع ما تلا ذلك من احداث وتأميم للنفط، ووصول مصدق الى السلطة، لكن هذا كله حكاية اخرى بالطبع.