"تبعاً لشروط معاهدة الصلح الموقعة بين القوى الحليفة والشريكة، وبين الامبراطورية الالمانية، تم التوصل الى الاتفاق، كما تمت صياغة النص. وكذلك فان رئيس المؤتمر قد صادق، كتابة، على ان النص الذي سوف يوقع، مطابق للمائتي نسخة التي سلمت للسادة مندوبي المانيا...". بهذه العبارات ذات الطابع التقني، والتي تفوه بها جورج كليمنصو، تلك الصبيحة الواقعة في التاسع والعشرين من حزيران يونيو 1919، تم وضع الحد النهائي، بصورة رسمية للحرب العالمية الاولى.يقينا ان الحرب كانت انتهت، عملياً، قبل ذلك بشهور عديدة، بعد ان لحقت الهزيمة الكبرى بالالمان وحلفائهم، وتبين ان خروج روسيا من تلك الحرب لم يبدل من طبيعة الامور كثيراً. غير ان نهاية الحرب كانت لا تزال بحاجة الى خاتم رسمي يؤكدها. كانت بحاجة الى توقيع الاطراف المعنيين على السلام. وهذا التوقيع كان هو العمل الرئيسي لذلك المؤتمر الذي عقد في فرساي وافتتحه جورج كليمنصو بتلك العبارات. ومنذ تلك اللحظة، لئن كان اسم مدينة فرساي قد ارتبط بالسلام الذي تلا انتهاء الحرب العالمية الثانية، فانه ارتبط كذلك بالهزيمة الالمانية بحيث ان كل النازية التي ابداها الالمان بعد ذلك، وكل الانتصارات المتلاحقة التي حققها هتلر، وقادت الى اتون الحرب العالمية الثانية، تجد جذورها في ذلك اليوم التاريخي الذي شهدته مدينة فرساي القريبة من باريس. خلال تلك الجلسة التاريخية، تبدت كل الاجراءات روتينية، بل تبدى التحرك كله اقرب الى التقنية وكأن الموجودين هناك انما اجتمعوا للمصادقة على أمور كانت قد نوقشت وتم التفاهم عليها من قبل. وعلى هذا النحو كان دخول الموفدين رسمياً بروتوكولياً وكان تعاقب المتكلمين آلياً لا مفاجأة فيه ولا روح. بل كان ثمة من بين الناس من تساءل: ما الذي جاء كل هؤلاء القوم يفعلونه ها هنا بعد ان انتهت الحرب! في الحقيقة، جاء زعماء العالم ليجربوا شعبيتهم ويؤكدوا لشعوب العالم، ولشعوبهم قبل ذلك، انهم انما يعملون من اجل السلام ومن اجل الانسانية. ولكن خلف ذلك كله، كان هناك أمر فات الكثيرون ان يلاحظوه: فاذا كان توقيع معاهدة فرساي قد أحلّ السلام على العالم، وأفرح الكثيرين بمن فيهم المندوبون الألمان الذين حضروا وشاركوا وشربوا الانخاب ووقعوا، فانه في الوقت نفسه كان مؤشراً غامضاً لما سوف يحدث. فالامر الذي لم يفهمه المشاركون في فرساي يومها، هو انه من السهل اذلال الانظمة والافراد والحكومات والجيوش ايضاً، ولكن اذلال الشعوب يحولها الى وحوش ضارية. ومن يعود اليوم بذاكرته الى تفاصيل معاهدة فرساي وما جرى فيها، يدهشه ما سيلوح له من ان المعاهدة تبدو وكأنها ترمي الى اذلال الشعب الالماني بأسره. والشعب الالماني فهم يومها هذا، وسكت عليه، سكت عليه حتى جاءه هتلر وايديولوجيته النازية، التي قامت اصلا على مبدأ الانتقام للعنصر الجرماني من مذليه. تبع الالمان هتلر حتى من دون تفكير. ومن هنا ما يراه بعض المؤرخين اليوم من ان هتلر، قبل ان يكون صنيعة أي شيء آخر، كان صنيعة معاهدة فرساي.