منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى بالهزيمة الألمانية التي نعرف، لم يكف الحلفاء عن التصرف، من مؤتمر السلام في فرساي، إلى المناسبات الأخرى، بشكل يشعر الشعب الألماني أكثر وأكثر، ليس بالهزيمة فقط، بل بأقسى أنواع الذل أيضاً. ومن الواضح أن الشعب الألماني دأب في ذلك الحين على تخزين كل ذلك في ذاكرته، ما جعل انتصار هتلر والنازيين يوم قيض للشعب الألماني أن يختار من يمثله، انتصاراً "طبيعياً" وضخماً ولا مفر منه. ولئن كان الحلفاء، بدأوا باذلال الشعب الألماني منذ مؤتمر فرساي، فإن ذروة الشعور بالذل كانت يوم الثامن من حزيران يونيو 1929، حين أفاق الألمان ليجدوا أنفسهم في مواجهة الاعلان، كما اطلق عليه يومها اسم "خطة يونغ". من ناحية مبدئية وتقنية كانت الخطة تنص على تحديد تعويضات الحرب التي سيكون على المانيا أن تدفعها باعتبارها المتسببة في قيام الحرب العالمية، والمهزومة فيها. صحيح ان الخطة الجديدة كانت تبدو أكثر ترجيحاً للمصالح الألمانية من خطة سابقة وضعت وأقرت في العام 1924، وعرفت باسم خطة "داوز"، ومع هذا فإن الشعب الألماني، ولأن أكثر من عقد كان قد مر على نهاية الحرب راح يستشعر بأنه لا يمكن اعتباره مسؤولاً عنها، أحس ان العالم يتواطأ ضده ويقسو عليه. جاء اسم "خطة يونغ" من كون المصرفي الأميركي أدِن د. يونغ هو الذي وضعها آخذاً في اعتباره، على حد قول الأميركيين "تهديد الألمان الدائم بوقف المفاوضات، والخلاف في وجهات النظر بين الحلفاء، إذ كان فريق منهم يرى أنه لا يجب المغالاة في معاقبة الألمان لخطورة وضع المانيا الداخلي، وفريق آخر كان يرى أن "العقاب" ضروري لردع الأمم التي تتسبب في الحروب، وأيضاً لأن ثمة، في الحقيقة، خسائر يجب ان يدفعها طرف ما، وهذا الطرف من الطبيعي أن يكون المتسبب في الخسائر. والألمان هم المتسببون. إذن... قضي الأمر وأعلنت خطة يونغ، فما الذي كانت تنص عليه: بشكل إجمالي سيتعين على المانيا أن تدفع للمتضررين ما مجموعه 116 مليار دولار، تقسط على 59 سنة، ما يعني أن الشعب الألماني سيظل يدفع حتى العام 1988. الدفعة الأولى تقرر ألا تكون أكثر من 8،741 مليون دولار، وذلك لكي لا تُحَمَّل المانيا اكثر من طاقتها قد يعيق انطلاقتها الاقتصادية. بعد ذلك، وعاماً أثر عام، يزاد المبلغ السنوي بحيث يصل معدل القسط الى 7،1 بليون. مقابل هذا كان مشروع "داوز" ينص على أن تدفع المانيا 5،2 بليون دولار سنوياً من دون تحديد عدد السنوات التي سيتم الدفع خلالها. من هنا بدا أن الخطة الجديدة أكثر رأفة بالمانيا، خصوصاً أنها نصت ايضاً على إلغاء ضروب الرقابة على الاقتصاد الألماني، وعلى انهاء عمل لجان التعويضات ما يعني أن المانيا أصبحت سيدة نفسها، تتعامل فقط مع مصرف تدفع له سنوياً ما يتوجب دفعه، وهو يتولى توزيع المبالغ على الأطراف التي تستحقها. على الرغم من اعتدال هذه الخطة، كان مجرد الاعلان عنها، وعن ان الدفع يتواصل حتى العام 1988، كافياً لتحريك المنظمات القومية الألمانية ولا سيما النازيين وجماعات الخوذات الفولاذية وحركة قدامى المحاربين، ولا سيما أيضاً المنتمين الى هذه المنظمات من شبان ينتمون الى أجيال جديدة لا تعتبر حالياً بأي حال مسؤولة عما حدث. وهكذا تحركت هذه التنظيمات وراحت تُنظم تظاهرات الاحتجاج رافضة الخطة في أساسها، فيما أعلن مجلس أصحاب المؤسسات الألمان أن المطلوب دفعه يتجاوز، امكانات الاقتصاد الالماني في الصورة تظاهرة احتجاج المانية. غير ان الحلفاء لم يلينوا وواصلوا حملتهم فارضين الخطة على الألمان. وهؤلاء واصلوا حربهم ضد الخطة، فيما وجدت الحكومات الألمانية المتعاقبة في ذلك الحين أنها مجبرة على التنفيذ. غير أن مجيء النازيين الى السلطة في العام 1933 غيّر كل شيء، إذ ما أن حل شهر حزيران من العام التالي حتى أعلن المصرف المركزي الألماني أن المانيا قررت التوقف عن الدفع على المدى المتوسط والطويل، بسبب افتقارها الى العملات الأجنبية، وبالتالي ستتوقف عن دفع أقساط التعويضات. وهذا النبأ أصاب العالم بالذهول، لكنه لم يؤد إلى اتخاذ اية خطوات ملموسة ضد المانيا، فقط هددت الولاياتالمتحدة باتخاذ اجراءات منها مصادرة الحسابات الألمانية في الخارج، بينما أوقفت بريطانيا - جزئياً - تجارتها الخارجية مع المانيا، اما البلدان الأخرى التي تستفيد من التعويضات الألمانية فاكتفت باصدار مذكرات احتجاج، لم تسفر بدورها عن نتيجة ملموسة.