حتى ذلك الحين كانت فرنسا تعتبر صديقة للمصريين، يشيد بمعاونتها لهم الخديوي عباس حلمي الثاني والزعيم الوطني مصطفى كامل سواء بسواء، ويتوقع منها المصريون ان تكون خير مساعد لهم في الحصول على استقلالهم من المحتل البريطاني. ولكن في اليوم الثامن من نيسان ابريل 1904 عقد الاتفاق الودي بين فرنساوبريطانيا العظمى فكانت خيبة أمل المصريين كبيرة، لأن ذلك "الاتفاق الودي" لم يكن في حقيقته سوى استسلام فرنسي أمام الأطماع الانكليزية في مصر، كما كان اعترافاً من فرنسا، متأخراً بعض الشيء بالهزيمة الساحقة التي كانت لحقت بقواتها في معركة فاشوده الواقعة على النيل الأبيض في السودان، والتي كان الفرنسيون قد زحفوا عليها بقيادة مارشان أملاً في وقف الزحف البريطاني في افريقيا. لكن الانكليز جابهوه بقيادة كيتشنر بدعوى ان المدينة من ممتلكات مصر. وبريطانيا يومها وخوفاً من اتساع رقعة الصراع بين الدولتين الاستعماريتين تراجع الفرنسيون وأمروا مارشان بسحب قواته. حدث هذا في الأسابيع الأخيرة من العام 1898، يومها اعتقد المصريون ان المهانة التي أصابت فرنسا من جراء تلك الحادثة، ستعزز من مساعدة باريس لهم في صراعهم ضد الانكليز. وبالفعل واصل الفرنسيون مساعدتهم للمصريين، اعلامياً على الأقل وبكثير من الخجل، ولكن ما أن حل العام 1904، حتى اجتمع مسؤولو الدولتين الفرنسية والبريطانية، ليعقدوا الاتفاق الودي الذي نصت مادته الأولى على ان الحكومة البريطانية لا تنوي احداث أي تغير سياسي في مصر، وعلى ان الحكومة الفرنسية لن تعوق بريطانيا العظمى في ذلك القطر. وفي المادة الثانية يعلن الاتفاق ان "الحكومة الفرنسية ليس لديها أية نية لتغيير الوضع السياسي للمغرب. وتعترف حكومة صاحب الجلالة البريطانية من جانبها بأنه على فرنسا، وخاصة بصفتها الدولة العظمى التي تجاور ممتلكاتها ولمسافات طويلة ممتلكات المغرب، ان تقدم العون من اجل الاصلاحات الادارية، والاقتصادية والمالية والعسكرية التي يتطلبها الأمر. وتعلن الحكومتان انهما لن تعارضا العمل الذي تقوم به فرنسا في هذا السبيل، وبشرط الا يمس حقوق بريطانيا العظمى". باختصار كان "الاتفاق الودي" أشبه بتكريس لأمر واقع يقوم على اعتراف فرنسا بسيطرة بريطانيا نهائياً على مصر، مقابل اعتراف بريطانيا بسيطرة فرنسا نهائياً على المغرب. وكان الأمر انقلاباً خطيراً ولافتاً في السياسة الفرنسية. وكان من أبرز المعلقين عليه مصطفى كامل الذي أطلق عليه اسم "ثأر فاشودة" معتبراً ان فرنسا انتقمت عبره من هزيمتها في المدينة السودانية، لكن مصر كانت هي ضحية الانتقام. وقال مصطفى كامل في مقال نشره في "اللواء": "يقول البعض ان فرنسا راعت مصالحها وخدمت نفسها حين رأت من الأفضل عدم التمسك بما لا يجدي، نحن نقول انها أضرت بسمعتها وشرفها ونفوذها في الشرق ضرراً كبيراً. ولو فرضنا انها آثرت مصالحها المادية فقد أساءت الينا. لا ينكر هذا الا ذو غرض … على اننا لسنا وحدنا الساخطين على هذا الاتفاق فهذه جريدة "الفيغارو" الباريسية قالت ان فرنسا خدعت في هذه الاتفاقات، وانها في الحقيقة ستعمل في مراكش لصالح غيرها". أما الخديوي عباس حلمي الثاني فيقول في مذكراته التي تحمل عنوان "عهدي" معلقاً على اتفاقات فرنسا - بريطانيا: "ان فرنسا، التي لم تكن مستعدة لخوض حرب كريهة خاصة والتي كانت قد دخلت في مشروعات استعمارية انتقدها الرأي العام كثيراً، قد رأت نفسها مضطرة لأن تقنع بالتخلي، وحاولت ان تحصل على تعويضات في أماكن اخرى … واني اعترف بأني وجدت صعوبة في فهم هذا الفتور المفاجئ من جانب دولة صديقة … ويبدو ان فرنسا قد نسيت ان مصر كانت قد أوفت بتعهداتها في شكل منتظم لا شك فيه. ولكن فرنسا كانت سعيدة للغاية بأنها قد تحاشت صداماً مع انكلترا … بعد بضع سنوات من ذلك ذهبت لزيارة المسيو بوانكاريه فهنأ نفسه أمامي بالاتفاق الودي. ونسي بلا شك ان مصر انما استُخدمت كرهينة أولى في عملية التقارب وقال: "الآن وكل شيء تم ترتيبه يمكننا ان نتحدث بحرية" نتحدث بحرية! وذلك في الوقت ظلت فيه بلادي وحدها في مواجهة انكلترا؟!".