عرفت اللغة العربية، مثل الفرنسية وغيرها، خلافات تعاقبية بين الأجيال ذات أسس أسلوبية وفنية وجمالية، متمثلة في الصراع بين الشعراء، ولا سيما في العهد العباسي، وهو الخلاف بين "القدماء" و"المحدثين". وهي خلافات نتحقق من وجودها في عهود مختلفة في العربية، من دون أن تؤدي في أي من هذه العهود إلى نقاشات واجتهادات ذات أسس جمالية أو فلسفية أو خلافها. وإذا كان ابن خلدون قد تحدث عن التعاقب، وعن هرم العصبيات، ونسبها إلى أسباب في القوة أو في الضعف، فإنه قصر حديثه على "الحكم" من دون غيره من أسباب المعاش والعمران وغيرها. لن نجد صعوبة بالغة - خلافاً لما يظنه البعض - في الوقوع على لفظ "الحداثة" و"الحديث" في كتابات عربية، قديمة ومتأخرة، قبل خمسينات القرن المنقضي. ولو تحرينا مشتقات اللفظ نفسه لوجدنا أن فعل "حدث" يعني في العربية وقوع أمر جديد، أي بخلاف القدم، كما ان "أحدث" تعني "ابتدع"، أي أن الحداثة تعني، بالتالي، الامر المبتدع الناشئ. إلا أن هذه المعاني تبقى قاموسية، فيما عرفت العربية، كلغة ذات حمولات ثقافية ونقدية، مفردات أخرى مشتقة من الأصل نفسه للدلالة على ظواهر أدبية مخصوصة، فميزت بين "المُحدَث"، وهو ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع، وبين "المُحدِث"، وهو المجدد في العلم والفن، و"المحدثون"، وهم "المتأخرون" من العلماء والأدباء وهم خلاف "المتقدمين". ولا نتحقق من جلبة جديدة حول الصفة هذه، إلا في مطالع الخمسينات، حين جرى إطلاق غير صفة على شيء شعري جديد، مثل صفات: "الحديث"، و"الحر"، و"المنطلق"، و"الجديد" وغيرها. وهو ما نلقى علاماته الأولى في كتابات يوسف الخال ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأدونيس وإحسان عباس وزكي نجيب محمود وغالي شكري وغيرهم. وهي إعادة ترويج للفظ سابق، معروف، على أنها تسعى، في هذه الاستعمالات، إلى تعيين شيء، مختلف، جديد، هو محل تجاذب وتباين في التسمية. هكذا وجد زكي نجيب محمود ضرورة للتمييز بين "الحديث" و"الجديد" في مقالة "نظرة محايدة إلى قضية الشعر الحديث"، لصالح الأول، وهذا ما فعله غالي شكري في التمييز بين "الحديث" و"المعاصر" في الفصل الأول من كتابه "شعرنا الحديث...إلى أين؟"، 1968، لصالح الأول كذلك. وهذا ما فعله غيرهما، حتى استحوذ اللفظ "الحديث" الكلام عن الشعر الذي تبدى في أعين شعراء ونقاد، منذ الخمسينات، على أنه مختلف، مغاير، مجدد. ولكن ماذا يعني "الحديث"؟ يقول أدونيس في "محاولة في تعريف الشعر الحديث" 1959: "لعل خير ما نعرف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا. والرؤيا، بطبيعتها، قفزة خارج المفهومات السائدة. هي، إذن، تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها .... الشاعر الجديد، والحالة هذه، متفرد متميز في الخلق .... على الشاعر الحق أن يتناول من مظاهر العصر أكثرها ثباتاً وديمومة المظاهر التي لا تفتقد دلالتها في المستقبل .... هناك تناقض بين الشعر و"الواقعية" .... ان جوهر الشعر الجديد قائم على ما يتجاوز هذا النوع من "الواقعية"0 انه يغير إيقاع "نقل" الواقع بإيقاع "إبداعه" ويجد واقعاً أغنى وراء "وقائع" العالم .... ويتخلى الشعر الجديد، أيضاً، عن الجزئية فلا يمكن الشعر أن يكون عظيماً إلا إذا لمحنا وراءه رؤيا للعالم .... ليس الأثر الشعري انعكاساً، بل فتح .... الغرابة هي الجدة". أظهر أحد الدارسين السوريين أن أدونيس استقى هذه الشروح والعروض من كتاب فرنسي بعينه، هو "الاتجاهات الأدبية في القرن العشرين"، غير أن متابعتنا لمقالة هذا الدارس ولكتابات أدونيس النقدية، الأولى واللاحقة، أظهرت لنا تتبع أدونيس الدائم لمجريات النقد في فرنسا تخصيصاً وليس في هذا الكتاب وحده، والأخذ منها، ما حسبه البعض في باب "الانتحال"" كما أظهرت لنا متابعتنا هذه أن بعض عمليات "التملك" التي يجريها أدونيس على بعض ما يأخذه تندرج في باب "التناص"، وهو نوع من أنواع "التثاقف". ان مقارنة مقالتي بودلير الشهيرتين عن "الحداثة" المذكورتين ومقالة أدونيس النقدية الأولى، تظهر لنا مقادير عالية من الأخذ سبق لنا أن أشرنا إليها في عجالة سابقة في "الحياة"، لكنها تظهر لنا كذلك ما نسميه عمليات "التملك" التي تتبدى بها المثاقفة أحياناً: فالتثاقف يقوم على إعادة تملك لما يستقيه، لا عمليات نقل وتشبه واحتذاء وحسب. نسوق مثالاً على ذلك: ربط بودلير بين "العابر" و"التاريخي"، بين الزي والأبدي، فيما تجنب أدونيس أو منع أي صلة للشعر بالواقعي، بالزمني، ذلك أنه كان يتنكب عن فترته الحزبية، عند رفاقه "السابقين"، القوميين السوريين، أو عما كان يدعو له في السجال الإيديولوجي والشعري اللبناني بعض كتاب ونقاد مجلات "الآداب" و"الطريق" وغيرها، مقتدياً بالرأي الغالب في مجلة "شعر"، الرأي الليبرالي المتحرر، والمعلي من شأن جمالية شعرية متخطية لعوالق الزمن والتوظيف والاستثمار. غير أن ما قال به أدونيس، وعن سان - جون بيرس هذه المرة، فهو أن "الشعر لغة أساساً"، وهو ما أوضحه نقدياً في "شعر" عند ترجمته الأولى للشاعر الفرنسي، وهو ما لم ينفصل عنه منذ ذلك العهد: أي نبذ "الاستعمالية" و"التوظيفية" للشعر، على ما كانت عليه، سواء في كتابات التقليديين أو "الإيديولوجيين" الحديثين. هذا ما جعل الحداثة "طاقة استباقية"، كما أسماها، تكتنف الكلمات في اندفاعها غير المحسوب سلفاً، أو الموجه، وهو ما وجد في "الكشف" دلالاته الشعرية. "تحديث" تكنولوجي وعدنا أدونيس في "إشارة" في مقدمة كتابه "الثابت والمتحول: صدمة الحداثة" 1978 بكتاب آخر، رابع حسب ترتيبه، يتناول الفكر والثقافة في "عصر النهضة"، بعد أن خص الجزء الثالث بالشعر وحده. إلا أن هذا الكتاب لم يصدر، وفق معلوماتنا، والامتناع عن إصداره، عن إعداده، يكشف - حتى وإن صدر - عن مشكلة واقعة في تصور أدونيس، وبعده الكثيرون، للحداثة في تحققاتها العربية، عدا أن الامتناع هذا يحصر الحداثة واقعاً بما تعينت به، وهو أنها "حداثة الشعر" في المقام الأول والأخير، وأنها حداثة "ثقافوية" في نهاية المطاف، لا تصدر عن حراكية اجتماعية واقتصادية أساساً. أول ما تتسم به هذه الحداثة هو أنها لم تصدر، أو لم يرافقها تعبير فلسفي. وما جرى بعد وقت من مساع في هذا المجال ظل ذا منزع عرضي أو شرحي، ولم يؤسس لما "يستعصب" الدارس اللبناني موسى وهبه حدوثه، وهو "قول الفلسفي، بالعربية، اليوم". وما نتحقق من وجوده فهو دراسات في "التراث"، وتعين مخاصمة في النفوذ، قوامها انفراط الإيدبولوجيات كتعبير عن "النزال"، وبلوغ الخطاب الإسلامي مبالغ نفوذ وتأثير جعلت الكتاب يتراجعون، ويتحولون إلى "فقهاء"، في الأسلوب على الأقل، إن لم نقل في المضامين والأحكام. يستحسن محمد أركون، وفقاً لما قاله جورج بالندييه وغيره منذ خمسينات هذا القرن، التمييز بين "الحداثة" و"التحديث"، طالباً من ذلك الحديث عن العمليات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها التي تغير أحوال المجتمعات، وتبعدها عن أحوالها التقليدية. وهذا التوجه في النظر قلما وقعنا عليه في الكتابات العربية، قبل العقدين الأخيرين، بعد طول هيمنة لطرق التبشير العلموي أو الإيديولوجي في صيغه المختلفة. ولو شئنا التوقف عند بعض مظاهر التحديث لوجدناها عديدة، تشوبها مشاكل تكوينية ولا تؤدي إلى تبعات حديثة بالضرورة. وما يمكننا قوله عن عمليات "التحديث" العربية، الرأسمالي والصناعي والتكنولوجي وغيره، هو أنها لم تصدر عن حراكية الهيئات الاجتماعية، ولم تستدعها نشاطية قوى الإنتاج أو الرأسمال، بقدر ما قادتها الدول نفسها "رأسمالية الدولة"، ورسمتها نماذج تشبهية الطابع: ولنا من تجربة الجزائر وتجارب التصنيع في بعض بلدان الخليج، ما يدلنا على سوء الاستلهام، من جهة، وعلى الوقوع في التشبه غير النافع، من جهة أخرى. وفي هذا السياق نميز بين حصول "التحديث" وبين كونه "مبنياً" وفق قواعد تجيزه وترتضيه وتصونه، ذلك أن البعض يعتقد كبير الاعتقاد أن مجرد دخول البلاد والنشاط الاقتصادي في تصنيع أو رسملة، أو مجرد دخول التقنيات الجديدة في عاديات الحياة، قابل بل كفيل، هو وحده، بفعل حضوره نفسه، بتحديث البشر وتغيير الأحوال. وهو اعتقاد واهم، إذ أن للحداثة أن تبني ما يؤسسها، ما يضمنها: هي ليست معطى حاصلاً بفعل التحديث، طالما أنها لم تقم وفق عقود، وعلاقات طوعية، حوارية ونقدية، "في" الإنسان وبينه وبين أمثاله. وإذا كانت الحداثة لا تجد لها سنداً في العمليات الاجتماعية - الاقتصادية، فكيف لها أن تنتجها وأن تجعلها سمة العلاقات والمستويات في مجتمع ما! وهو ما نتحقق منه في أحوال أخرى لا تتيح، هي بدورها، تفتح الحداثة أو توافر شروطها المؤسسة والمساعدة لها، سواء في التعليم، أو في العلاقات داخل المجتمع. هذا ما نتحقق منه في صورة ظاهرية لو تجولنا في الشوارع: بدل أن يكون زي الأفراد فردياً فعلاً، نجده نمطي الطلة، بل يبدو أي نزوع فردي لتأكيد سلوك خصوصي في الزي وغيره خروجاً صعباً، مهدداً بمخاطر أكيدة. وهو ما يمكن التأكد منه في أحوال وأوضاع اجتماعية عديدة، تظهر لنا الغلبة التقليدية المفروضة على سلوكات الأفراد، سواء في البيت أو في الأمكنة العمومية. وهذا ما يمكن التحقق منه في غلبة المنظور "الجمعي" والتقليدي على المجال العمومي حيث يتم، على سبيل المثال، توزيع مطاعم أو مسابح وغيرها وفق تقسيمات ترعى الإكراهات التي لا تتيح للفرد أن يبرز أو أن يظهر، إلا في الخلاء، في اللامكان بالأحرى. ولو سألنا عن الحداثة في الثقافة التي يتم تعليمها للناشئة، في مستويات التعليم المختلفة، لما وجدناها منشطة ومحفزة لها. ذلك أنها ثقافة تقنية في أحسن الأحوال، غير موصولة بالزمن الحي، الجاري، ولا بأسئلة الإنسان واحتياجه لها، عدا أنها تعمم صورة عن الذات والغير وهمية وغير واقعية. كما ان العلاقة بين الإنسان و"ذاته"، أو "ذواته" - التي يظهرها الأدب الحديث عادة، سواء في الشعر أو في الرواية أو في السيرة الذاتية -، أي الحوارات الداخلية التي للإنسان أن ينشئها، في توكيد نفسه، وفي "نقدها" كذلك، فانها تختفي في أدبنا لصالح علاقة تعبيرية عن النفس ولكن وفق ما تطلبه دعاوى الجماعة، مثل الحديث عن "الوطن" أو "الحبيبة" أو القضايا المكرسة والمعتبرة، ما يجعل الكاتب "مفرداً" ولكن "بصيغة الجمع". النص والزمن يعني هذا وجود "سوابق" جمعية وتقليدية للفعل، أياً كان، فلا يقوى الإنسان، أياً كان، على الحراك خارجها، ولا تجيز له القوانين أساساً حرية القيام بأفعاله، كما يحلو له فعلها، على أنه سيد نفسه وقوام عليها. إلا أن قولاً كهذا يبدو مبرماً وغير واقعي كذلك، إذ لا يتبين قدرة الحركات "الحديثة" على النفاذ في هذا النطاق أو ذاك من نشاطية المجتمع والجماعات والأفراد. هذا ما تقوى عليه دراسات العلوم الاجتماعية الإنسان في المجتمع، ولا سيما في سلوكه، ودراسات العلوم الإنسانية الإنسان في مفرده وغيرها. ولنا في هذه الدراسات أن نتحقق من مناعة التقليدي والجمعي إزاء الزمن، واقعاً، أي عوامل التغير. وقد يكون السؤال عن علاقة النص بالزمن أبين إجابة ودلالة على ما يصعب علينا الوقوف عليه في ظواهر المجتمع الأخرى. ففي ميدان النص نتحقق من كون الكاتب قادراً أم مانعاً للتعامل الحر والمتجدد مع وقائع الزمن التي تعرض له، وهو الدخول واقعاً إلى الحداثة "من بواباتها"، الفعلية. ويجدر بنا في هذا المجال أن نتحقق من لبوس وقائع البشر لبوساًَ زمنياً، يديرونه أو يسبغونه عليه، أي "التاريخ"، لا الإخبار والرواية وحسب. ذلك أن عيش الوقائع لا يجد لزومه في النص بالضرورة: كيف لا والكتابات القديمة تبدو في أعداد كبيرة منها تصنيفاً وترتيباً للمعاني والأخبار والقواعد، وتأويلاً متشدداً أو متفلتاً لمدونات من دون غيرها من المدونات، فيما لا تحتفظ هذه بآثار دالة على زمنها نفسه، بل تبدو خارج الزمن، معلقة ومرتبطة واقعاً بما أملته تجارب الكاتبين من قواعد وأجناس وأصناف وقواعد، والتي أصبحت بالتالي "سُنَّة الكتابة". ان تغير العلاقة بالزمن، وهو التحقق واقعاً من الدخول في زمن مغاير، سنبلغه في الكتابة العربية في مدى القرن التاسع عشر، في مدونات عديدة، منها كتب الرحلات خصوصاً، التي ترينا قياماً أو نشوءاً للعين، العين الباصرة، المدونة، الفاحصة، المدققة، الناقدة، المستغربة، المنبهرة بما يعرض لها أو تسعى إليه في بلادها أو خارجها خصوصاً. فيما لا يخالط الجبرتي أي شك في أن ما جرى في مصر، عند احتلال جيش بونابرت لها، ينتسب إلى "غرائب" الأمور، وأن مصر لن تلبث أن تستعيد سويتها الأكيدة والطبيعية. وفق هذا المنظور لا يعود الخروج على "عمود الشعر" خروجاً أسلوبياً أو عروضياً، وإنما خروج عرَّض هذا العمود ل"الكسر" مثلما درج التعبير تأكيداً لمناعته غير اللفظية، بل الجمعية الموروثة. ويجوز في هذا المجال إدخال لفظ آخر، لا يقل جاذبية عن لفظ "الحداثة"، ويلازمه في العقدين الأخيرين، وهو لفظ "النص". فما تتخلص منه كتابة الشعر بالعربية في تجديداتها، وما تبنيه خصوصاً في تجاربها، ينطبق عليه لفظ "النص"، ويحمل دلالتين: دلالة الخروج على "القواعد الجمعية"، ودلالة البناء المخصوص وفق عمليات تملكية مفتوحة على الزمن وغير حاجرة له. ففي الكتابة التقليدية نتحقق من وجود قوالب وضوابط سابقة على "امتلاك" المبدع لمادة إبداعه وشكلها ومآلها، فيما يسعى الكاتب في "النص" إلى قيام بناء مخصوص به، يتمايز به عن غيره، بل يذهب بهذه الحرية "الجزئية" أي في قطاع بعينه ولكن "السيدة على أمرها" - وهي إحدى علامات الحداثة القوية - إلى تأكيدها الشديد، وتثبيت استقلالها، وتعويلها "في" النص نفسه "على ما يكفلها" مثلما حدد هابرماس "الحداثة" في مسعاها التعريفي الأساسي منذ هيغل، أي ما يجعلها عملية "تملك"، مثلما نذهب إلى القول. ولا يعين "الامتلاك" في هذه الحالة تفلتاً من أي قيد، بل خروجاً على القواعد الكلاسيكية المقرة والمفروضة، مثل عمود الشعر وغيره، وبناء أو اتباعاً لقواعد مخصوصة ينتجها المبدع في كل ممارسة إبداعية. وهو ما نرمز إليه في "شكل" الإنتاج الإبداعي، حيث أنه لم يعد له "قالب"، فيما كان هذا القالب العلامة الأكيدة والظاهرية لانتساب هذا الخطاب أو ذلك لأنواع الأدب أو الفن. أما مع نص اليوم فما عدنا نتعرف عليه "خارجياً"، إذ فقد علاماته الدالة عليه" مثلما انتهى الشبه بين اللوحة وخارجها الاجتماعي أو الفردي. بتنا لا نستطيع التمييز تماماً بين القصيدة، حتى لو كانت من نوع "التفعيلة"، وغيرها من صنوف الكتابة، كما ان اللوحة التجريدية أسقطت وجه الشبه مع خارجها سبباً للتعرف عليها. وهو ما قالته ناتالي ساروت إذ أقامت تشابهاً بين انصراف الفنان الحديث إلى اللون كطاقة إبلاغية في اللوحة من دون موضوعها وبين إسقاط الرواية الحديثة، ولا سيما في "الرواية الجديدة"، للزوم "الشخصية" في الإبلاغ والسرد. سقطت القواعد، ومنها "القالب" وغيره من "القيود" كما أطلق عليها بعض النقاد والشعراء، واحتفظ المبدع لنفسه بأعمال يجيز لنفسه فيها ما يجيزه، ويبني بها ما يشاء من قواعد، باتت مخصوصة به مثل "ماركة" أسلوبية دالة عليه، أو بهذا النص أو ذاك مثل مبنى أسلوبي مميز. هكذا يمكننا الحديث عن "نص ذي تدبيرات مفردنة"، ويعين كيفيات انبناء النص عند هذا الكاتب أو ذاك، من دون أن نذهب بهذا التمييز إلى حدود محو التوافقات ضمن تجربة المبدع الواحد، أو بين المبدعين أنفسهم: وهو ما ننتبه إليه في اجتماع المبدعين، أي أعداد منهم، على أنماط في الشكل والبناء، تروج أو تبور أو تتجدد ضمن البيئة الواحدة، أو بين بيئات مختلفة خاصة مع تنامي وتسارع الاتصال بين المبدعين. القول الفردي وللنص كذلك دلالة أخرى في تجارب التجديد العربية هي قبوله أو تفتحه على هواء الزمن وعلى القول الفردي، إذ بات النص "امتلاكاً" مخصوصاً لما يتعين في الفردية التعبيرية عند هذا المبدع أو ذاك. وهو ما تلخصه عبارة "لن" لأنسي الحاج، المالكة والآمرة في غضب محرِّر منذ عنوان المجموعة 1960. وهذا ما اختبرته قصائد نثر عديدة، في عصيانها على فصاحة مستجدة، وفي سعيها إلى قول العابر، والتفصيلي، والسري، والتالف، والحميمي، ما تلخصه عبارة مؤيد الراوي: "أن أفحص أشيائي فذلك المتعة الشخصية" 1970. هكذا بتنا نتحقق من مرأى العابرة في الشارع، أو الساهم في المقهى، أو دخان السيجارة الذي يرعى شعيرات صدر القائل، أو طوق الياسمين الذي يهوي في ملهى راقص... وهي "زمنية" ترينا أمكنة وألواناً وهيئات وأفعالاً وتعابير وحركات واعتمالات كانت مغيبة أو مطمورة تحت ركام من القوالب والأغراض والمواضعات القولية والبلاغية. وهو ما يقودنا إلى مراجعة النظر في تصنيف النقد - نقد الشعراء خصوصاً - للشعر "الحديث"، وفي استدلالهم على تحققات حداثته. وهي مراجعة يقودنا فيها القول بأن الحداثة خوض في الزمن، وعدم التمنع عن التأثر بمجرياته وأحواله، بل التنصت إليها والتفاعل بها. وهو استبيان يدعونا إلى الوقوف على تجارب شعرية مطمورة أو مغيبة في متن الشعر العربي، على الرغم من انتباه النقاد لها في أزمانهم وتمييزهم لها عن غيرها. فلقد انتبهنا في مراجعتنا للشعر العربي في القرون الأخيرة إلى بروز كلام، منذ منتصف القرن الماضي، ميز شاعر عن غيره، وتيار شعري عن سابقه: هو كلام بطرس البستاني عن الشاعر خليل الخوري، صاحب مجموعة "العصر الجديد" وغيرها، في "خطبة" في العام 1859، الذي يصفه بهذه العبارات: "وكأني به واقفاً على شاطىء البحر الكبير الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد، يستشرف تارة على الجديد ويلحظ أخرى إلى القديم، ولدى انتشار ديوانه الموسوم بالعصر الجديد الذي أفرغ فيه الشعر القديم في قالب جديد يتضح المعنى المقصود"" ولا يلبث أن يقول البستاني: "ان هلال الآداب الذي ولد في أواسط الجيل التاسع عشر سيصير بدراً". التجديد سابق، إذن، على موعد 1947 الذي ارتضاه عدد من الشعراء والنقاد موعداً للشعر "الحديث"، ذلك أن محاولات مماثلة لتجربتي السياب والملائكة، عند شعراء مثل حبيب اسطفان وبشارة الخوري وخليل الهنداوي وفؤاد الخشن وسليم حيدر ونقولا فياض ومصطفى وهبي التل المعروف ب"عرار" وغيرهم "نوَّعت" هي بدورها وجددت في النظم العروضي. ويكون علينا أن نبحث عن "مواعيد" أخرى اجتمعن فيها أو توافرت عوامل التجديد كلها، وفي القصيدة الواحدة، وربما عن قصائد بعينها هي التي أَمْلت علي الشعر والشعراء نقلاته الحاسمة، مثل الأثر الذي أحدثته قصائد ومجموعات، مثل: "طفولة نهد" لنزار قباني، و"أنشودة المطر" للسياب، ومجموعة "لن" لأنسي الحاج، و"هذا هو اسمي" لأدونيس، و"سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا" لمحمود درويش وغيرها. وهي نقلات ترينا قصائد مطالع القرن، عند الزهاوي أو العقاد أو سليمان البستاني وغيرها، بعيدة أكثر من العقود الخمسة التي تفصل بعضها عن بعضها الآخر. وعلينا أن "نتنصت" بقوة شديدة إلى الاعتمالات الجارية في مبابي قصائد خليل مطران ولا سيما في قصيدة "المساء" وإلياس أبي شبكة وأبي القاسم الشابي وأحمد زكي أبي شادي لكي نتحقق من جريان مختلف للشعر، على الرغم من توافر عوامل قديمة فيه، في ظاهره أو في تراكيبه، ومن تحول الشعر صوب مجار جديدة، يمكن أن نرمز إليها ب"تملك" الشاعر المتزايد لأدواته على أنها تملك العالم المحيط به، بوصفه مادة لتحقيق ذاتيته. ولا يخفف من حجم الانتقالة هذه بقاء أصوات عمودية قوية، مثل بدوي الجبل ومحمد مهدي الجواهري وسعيد عقل، الذين بدت قصائدهم "العصماء" إذ كتب الأخير بينهم "مجموعات" شعرية، فيما كتب الأولان قصائد وحسب، على غرار القدماء، النابضة بإيقاعات زمنية، سياسية خصوصاً، مثل نداءات جليلة وأخيرة في مشهد العمود الشعري الذي أسدلت ستارته تماماً. لسنا في صدد كتابة ولا مراجعة تاريخ الشعر العربي المتأخر" ما يعنينا في هذه العجالة هو التنبه إلى تغيرات حادثة في الكتابة الشعرية، من دون أن يجري التوكيد عليها لاحقاً، لا في حينها، بل جرى تهميشها وردمها. وهو ما أصاب بعد وقت مظاهر التجديد في تجارب الإحيائيين وغيرهم الرومنسيين ممن ربطوا "الأدب بالحياة"، حسب عبارة مأثورة عنهم في حينها. وما غفل عنه النقد هو أننا عايشنا في مدى واسع من التجارب الشعرية تعايشاً نزاعياً، فيه عوامل تجديد وعوامل محافظة، في أشكال مختلفة في مستويات القصيدة: تمثل التجديد، بداية، في عوامل المعنى قبل أن يبلغ لاحقاً عوامل المبنى وخاصة العروض، على ما في التمييز هذا بين نوعي العوامل من تسرع والتباس وتداخل. * مقاطع من بحث طويل حول الحداثة العربية.