يتواتر الحديث في الآونة الأخيرة عن فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48، وفي هذا السياق جاء مقال الكاتب ياسر الزعاترة "الحياة" 16/11 بعنوان "الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 48 - خدمات التطبيع والاختراق أم رفض الدمج وإسناد الصراع" ويرد في خلاصتها "ان مسار الدمج والتذويب من خلال ملاحقة الاسلاميين و"أسرلة" المجتمع الفلسطيني سيبقى قائماً على كل الاحوال. فلسطينياً ستعتمد اسئلة المستقبل على وضع التسوية ومسارها المحلي والاقليمي، ولا شك في ان استمرار التركيز على "الهوية" الفلسطينية والعربية والاسلامية ينبغي ان يتواصل، واذا كان الاسرائيليون يستخدمون الاقليات اليهودية في العالم كعناصر اسناد للمشروع الصهيوني، فلماذا لا تكون الأقلية العربية عنصر اسناد للمشروع العربي في صراعه مع المشروع الصهيوني، الذي سيتأكد اكثر خلال المرحلة المقبلة. واذا كان الاسرائيليون يأملون في تحويل أولئك القوم الى عربة متقدمة للتطبيع واختراق المحيط العربي عملياً ونفسياً فإن الأصل ان يحدث العكس، ومن هنا تبرز مخاطر طرح أنصار التسوية القائم على مزيد من دمج الفلسطينيين في المجتمع الاسرائيلي ومؤسساته السياسية، وهو الدمج الذي لن يؤثر في مسار القرار الاسرائيلي، فيما هو يذوب الفلسطينيين ويعمل على فقدانهم لهويتهم بالتدريج". بداية، ليس من الحكمة والواقعية ان نلخص في سطور قليلة مسيرة عمل وطني على مدى نصف قرن، ولا شك في ان قبول مواقف أو قراءات دونما تمحيص وتدقيق من شأنها ان تكرس الأوهام، وتؤدي الى فقدان الحاجة لبلورة استراتيجيا سياسية فلسطينية جامعة للتنوع الفلسطيني بهمومه واهتماماته داخل، خارج، 48. تزاوج بين القوة والصمود والمقاومة، والأدوات الديبلوماسية. وتلقى التأييد والاجماع بحدودها الدنيا من المحيط العربي، فالأمر يستدعي تركيز الانتباه، الى ان بناء هذه السياسات بحاجة الى قاعدة معلوماتية وأطر تحليلية واجتهادات متنوعة، تعكس تعدد المواقف وتنوعها وتجمعها على قاسم اتجاه ما يجري، وبالبحث عن خط جامع وسيط. فالسياسة لم تعد مجرد تأملات أو تخيلات، وانما تفهم عميق للمعطيات القائمة والممكنة من اجل تحقيق الاهداف المنوطة. ثم أليس من العسف، الاستنتاج والتلخيص ان الدمج والتذويب والأسرلة حصراً بملاحقة الاسلاميين بينما مجمل الحقائق والتحليلات وعلى مدى نصف قرن لم ترق الى هذا الاستنتاج. فاسرائيل في كمونها الايديولوجي ترى ان أي محاولة للرد عليها من موقع ديني، هو تأكيد للمشروعية الايديولوجية للحركة الصهيونية، لوجود دولة اسرائيل كدولة يهودية، أو بالأحرى "الدولة اليهودية". الأساس الايديولوجي لقيامها على أساس الدين اليهودي وبمثابة سلالة وأرومة ونسب. ثم "لماذا لا تكون الأقلية العربية عنصر اسناد للمشروع العربي في صراعه مع المشروع الصهيوني"، وبالنظر الى كلمة "أقلية" ومن خلال تفحص اسرائيل من الداخل، ومن وجهة نظر اسرائيل فإن الوصف البليغ والأكثر ملائمة لوضع فلسطينيي 48، ما ذكره أوري شطاندل مستشار سابق لرئيس حكومة اسرائيلية للشؤون العربية في الثمانينات من أنهم يشكلون أقلية فريدة من نوعها وهي أقلية تتسم بصفات الأكثرية ... تجد صعوبة في التكيف مع كونها أقلية، وهي تسعى الى تحديد هويتها، وترتبك بين العاطفة والمنطق..."، وبالنظر الى تصاعد وزنهم النسبي الذي يزداد وباستمرار في مختلف المجالات، ومن خلال التغيرات العميقة التي تطرأ على البنية الاجتماعية - الاقتصادية الاسرائيلية، أخر احصاء اسرائيلي للتعداد 20.88 في المئة، فالاستنتاج الذي يمكن قوله ان النظرة الى الجزء الخاص بفلسطينيي 48، يتعلق مباشرة بالنظر الى اسرائيل من الداخل، واتباعها سياسات تمييزية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تهدف الى التحكم بالفلسطينيين العرب حتى يبقون كتلة هامشية لا ثقل لها والحؤول دون بلورة قومية أو هوية فلسطينية تستقطب ابناءها وتتبنى مصالحهم، اضافة الى العزل عن مناطق الحكم الذاتي 1967، وعدم خلق تفاعل ومنعهم من الانفراد بتشكيل قوى سياسية وبالعمل على تمزيقهم دينياً وطائفياً، وفي سياقها الفتنة التي أثيرت في الناصرة مؤخراً أي تفتيتهم الى طوائف صغيرة، واللعب على التناقضات والمصالح اليومية، والأهم في الهدف النهائي هو محاولات اسرائيل على مدى نصف قرن - من دون جدوى - للعمل على فصم العلاقة بينهم وبين الأرض في محاصرتهم في أملاكهم ومناطق اقامتهم، ضمن تراتيبية اسرائيل في وضعهم في المكانة الدنيا. فكيف يستقيم هذا مع ما ورد بالمقالة آنفة الذكر. من هنا تبرز مخاطر طرح أنصار التسوية القائم على مزيد من دمج الفلسطينيين في المجتمع الاسرائيلي ومؤسساته السياسية، وهو الدمج الذي لن يؤثر في مسار القرار الاسرائيلي فيما هو يذوب الفلسطينيين ويعمل على فقدانهم لهويتهم بالتدريج". وبالنظر الى اسرائيل ونظامها السياسي، بوصفها دولة احتلالية عنصرية، وباعتبارها نظاماً استيطانياً مبنياً على مبدأ اغتصاب الأرض، فإن الديموقراطية القائمة فيها بنيت على أساس استبعاد العرب هؤلاء، الذين لم تتوقف نضالاتهم وعلى امتداد تاريخ انشاء الدولة، وباتوا الآن ذا وزن مهم وجاد، وبما يمثلون من روافد للنضال الوطني العام الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، من أجل انجاز حقوقه المشروعة، الأمر الذي ليس بحاجة الى تأكيد. فمن باب المثال، وباعتبار ان يوم الأرض الفلسطيني عموماً ومناطق الجليل والمثلث والنقب خصوصاً. فهم لم يغيبوا عن ساحة الامتداد العربي، انطلاقاً من شعور الانتماء لهوية وطنية واحدة فشلت اسرائيل تماماً في الحيلولة دون بلورتها وعلى امتداد نصف قرن. كما يمكن التذكير بمحطات تاريخية مفصلية مختلفة ومتعاقبة، من الموقف من منظمة التحرير الفلسطينية، اجتياح لبنان 1982، الانتفاضة الفلسطينية، وحتى مرحلة اتفاقات اوسلو وما تلاها، والأمر أخيراً ليس بمعزل عن مجمل التطورات الاقليمية العربية وعملية التسوية عموماً في الشرق الأوسط. بعد هذا هل طرح المساواة يعني "الأسرلة" أم استعداد متقدم للانخراط في النضال من أجل حماية الحقوق والهوية الوطنية، وضمن ثنائية قومية الدولة، وبالانخراط ضد سياسة التمييز والممارسة والتي تعاقبت الحكومات الاسرائيلية وبتلاوينها على تنفيذها، ضد مصالح العرب وحقوقهم القومية والمساواة في الحقوق المدنية، والدفاع عن الأرض وعن حق اللاجئين في العودة الى وطنهم وقراهم، على هذا فالمطالبة بالحقوق القومية، لا تعني الأسرلة والدمج، الذي يبدو عنواناً مزيفاً. من المهم التذكير بالسياق التاريخي، بما يسمح بتسليط ضوء للمرسوم للمرحلة النهائية، فخلافاً للفهم السائد الأكثر رواجاً وللايديولوجيا، فليست الديموقراطية أو التمييز العرقي والديني مفهومين متناقضين في اسرائيل، ففيها الاعتراف بالحقوق السياسية والمدنية المسماة ديموقراطية لا يتضمن الحكم سلفاً بتعميمها على الآخر. وفي الحال الصهيونية هناك توتر كبير بين الاعلان الديموقراطي والمشروع الاستعماري الفعلي، ولولا الهجرة اليهودية الكثيفة الى فلسطين والهروب الفلسطيني من الارهاب والاضطهاد "اللاجئون، فلسطينيو المنافي" لما كانت المعضلة قائمة، ولما باتت المسألة الآن انهم لا يستطيعون العودة. وفي الحال الصهيونية يكمن التناقض بين المساواتية المعلنة والتمييز الضمني، وهو ملازم لمشروعها منذ تأسيسه، منذ ان استقرت بأرض ليست أرضها، ويقطنها سكانها الأصليون. فمنذ تأسيسها لم تكن خارج هذا التصور، ومع اعلان "استقلال" اسرائيل في 14 ايار مايو 1948 الذي رفعه ديفيد بن غوريون تلميذ هرتزل والمطبق العملي لأفكاره ورد التعريف "ان الدولة الجديدة سوف تضمن المساواة الاجتماعية والسياسية القصوى لكل سكانها دون تمييز في الدين او العرق أو الجنس" بيد ان التناقض في الاعلان ذاته يفضح زيف "المساواة" فعنوان الاعلان هو "الدولة اليهودية" أي الدين، حيث لم يعلن تحت اسم دولة اسرائيل بل "دولة يهودية في أرض اسرائيل سوف تحمل اسم دولة اسرائيل" ... "ستكون مفتوحة أمام الهجرة اليهودية وأمام القادمين من كل بلدان شتاتهم"، وكل هذا مندرج في فكرة "دولة اليهود" كتاب ثيودور هرتزل والذي بات في ترجماته المختلفة "الدولة اليهودية"، وكنتاج للاحكام الأشد صرامة بأنها دولة مضطهدي اوروبا، بالاستناد بالضبط الى الخرافة التي خلقتها النازية بوجود سلالة يهودية، وبروز ضرورة فكرة الخلاص الى الأبد من الفظاعات اللاانسانية، ويخلق نزعة "قومية" شوفينية جديدة. على هذا فإن الموجود هي ديموقراطية وبلا جدال للسكان اليهود. وفي مجمل هذا السياق يندرج الكلام الاسرائيلي الدائم والذي لا يتوقف عن "القنبلة الديموغرافية" لفلسطينيي 48. الآن ومن على بعد نسبي، كم علينا ان نمحص في الأزمة الحقيقية والعميقة بعنصريتها وعنفها ولاانسانيتها، حيث ترضى اسرائيل أن يأتي اليها عنصر غير يهودي، روسي - فلاشا...الخ يواليها على أساس استيطاني وليس كما ادعت الايديولوجيا وعلى أساس من الدين بأنها تخص يهود العالم، الزيف الطبيعي للايديولوجيا. وعلى الجانب الآخر تنعكس ملامح الاتفاقات المعقودة مع الفلسطينيين، وبأنها أمنية من حيث الجوهر، ولا غرابة ان اساسها مشروع ايغال آلون، في السبعينات والمطالبة نسبياً - راهناً فلسطينياً - لأوضاع جنوب افريقيا في السبعينات نفس الفترة الزمنية للمشروع المذكور، حيث جرى تقسيم السكان الأصليين الى بانتوستانات مسورة متناثرة فقيرة أعلن عن "استقلالها" ترانسكاي، سيسكاي، فوفونتسوانا، وفيندا، وذلك ترسيخاً لعنصر آخر أبيض، مترافق مع قمع وحشي، أدى الى اجلاء ما يقرب من خمسة ملايين شخص عن ديارهم، وإرث هائل من عوائق التنمية في الوسط الافريقي. وأخيراً وبالإجمال، في هذا السياق يندرج مقال ادوارد سعيد "الحياة"، 7/11، "ماذا يمكن ان يعني الانفصال؟" ومن موقع المطلع جيداً وبعمق على الواقع والتاريخ والملفات المختلفة. والرأي المقدم دعوة للاستزادة بالبحث والتمحيص لما يحتوي على حقائق لا يمكن انكارها وبالنظر الى مجمل الوضع الفلسطيني المقبل من خلال التسوية التي باتت واضحة خطوطها وخرائطها ووضعها العام. * كاتب فلسطيني.