لا سبيل الى انكار الحقيقة التالية وهي أن الاحاديث واحكام السنة كان لها اخطر دور في تكييف حياة المسلمين الى يومنا هذا، وانها لكثرتها تكاد تنافس الاحكام القرآنية في مدى عمق تأثيرها. بل إن كثيراً من التنازع بين الجماعات، ومن مظاهر سلوك شباب امتنا الاتقياء، وسخط المتعلقين بأهداب الدين على بعض جوانب حياتنا المعاصرة، يقوم على اساس من الحديث صحيحه وكاذبه. لذلك فإنه من اقدس واجبات أي مصلح ديني يسعى الى ارساء دعائم اسلام صحيح، والرجوع بالدين الى اصله النقي، أن يتصدى لاستئصال ما شاب الحديث النبوي من اكاذيب علقت به، واغراض تستّرت في كنفه. ومع ذلك فإنه ليس من المصلحة ان نطرح جانباً ما نقطع بأنه من مختلق الحديث، فالأحاديث الموضوعة إنما ظهرت نتيجة تطور ديني واجتماعي وتاريخي في دولة الاسلام، ودراستها إنما تخدم دراستنا لهذا التطور، خصوصاً أنها كثيراً ما كانت مرآة لمطامع اتباع المذاهب والفرق السياسية ومطامحهم. غير أنه في الوقت ذاته لا يجوز إطلاقاً الاعتماد عليها في دراسة فكر النبي، ولا دين الاسلام، ولا ينبغي السماح لها بأي حال من الاحوال ان تكيف معتقداتنا واسلوب معيشتنا. ولكن، كيف يمكن لنا انتقاء الصحيح من الحديث؟ وكيف تصدى القدماء لهذه المشكلة بالعلاج؟ اقبل نفر من العلماء الاتقياء في الماضي، كالبخاري ومسلم، على وضع اسس لعلم الحديث والمعايير الصارمة الواجبة لانتقاء الاحاديث الصحيحة. وروى البخاري انه انما اضطلع بمهمة جمع الصحيح من الحديث حين رأى نفسه في المنام يطرد الذباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وفسر له احدهم الذباب بأنه تلك الاكاذيب التي اقحمت على احاديث الرسول. وكان المعيار الرئيسي الذي اخذوا به هو التحقق من الرواة والمحدثين وهويتهم ومن تقوى رجال الإسناد وسلامة طويتهم، فإن ثبت توافر النزاهة والورع فيهم، ولم يعرف عنهم كذب متعمد على النبي ناجم عن قلة دين او هوى حزبي، اعتبروا ثقات، وإن ثبت الاتصال الزمني بين هؤلاء المحدثين وكتبة الحديث الواردة اسماؤهم في الاسناد، اعتبروا الحديث صحيحاً. وكان انتقاء البخاري للاحاديث الصحيحة على اساس صحة السند لا المتن، فالاسناد عنده وعند غيره هو "قوائم الحديث" إن سقط سقط وان صح السند وجب قبول الحديث مهما كان مضمون المتن. وقد اغفل مدونو الحديث دراسة البواعث التي ربما دفعت مختلقي الاحاديث أو نقلتها إلى الاختلاق أو النقل، ولم يهتدوا بضوء الحقائق التاريخية، واهتموا بالاسناد على حساب التدقيق في المتن، واستنكروا تشكك المرء في صحة حديث متين الاسناد ظاهراً متى حوى متنه خرافة، أو تجافى مع المنطق أو التاريخ الثابت. ولم يناقشوا مثلاً مسألة كيف يمكن ان يكون النبي تنبأ بظهور ابي حنيفة في العراق، فإن كان ابن خلدون دعا الى ان يكون اساس تمييز الصحيح من الزائف هو التمييز بين الممكن والمستحيل، وإن كان ابن عبد البر والنووي نفيا صفة الحديث الصحيح عن كل ما يخالف المنطق، كانت الشكليات وحدها عند معظم مدوني الحديث هي الحكم بصدد صحته او ضعفه، كل ما هنالك هو أنهم كانوا إذا ووجهوا بحديثين متناقضين صحيحي الاسناد ظاهراً، ولم يكن من السهل تفضيل اسناد على اسناد، حاولوا التوفيق بينهما، فإن تعذر التوفيق طبقوا نظرية الناسخ والمنسوخ. ومع انتقادنا لهذا الموقف منهم على اساس سهولة اختراع المدلسين لسلاسل ذهبية من الاسناد، فلا مفر من الاقرار بأن موقفهم كان ينطوي على تقوى خالصة، ويقوم على اساس هو منطقي في حد ذاته، إذ يرون أن عقول عامة البشر قد لا ترقى الى درجة فهم كل ما عناه الرسول بأحاديثه، وانه من قبيل الخيلاء والعجب الواهم ان نرفض ما قصر فهمنا عن إدراكه. هذا عن موقف أجلّة علماء السلف، ونمضي نحن فنقول: إنه لمن السهل علينا تبين كذب الاحاديث التي اختلقتها الفرق السياسية وانصارها، كالشيعة والخوارج والأمويين والعباسيين كتلك التي تدعي لعلي حق الخلافة، او تلعن معاوية، او تمجد العباس، او تتنبأ لبني امية بالوصول الى الملك. كذلك فإن من السهل علينا اكتشاف كذب الاحاديث التي تتنبأ باحداث شهدتها الدولة الاسلامية فعلاً، او تلك التي تحوي وصفاً ليوم القيامة تأباه عقولنا، او تلك التي تتحدث عن فضائل الامصار او المدن، او التي ابتدعها القصّاص، وكل ما ناقض المنطق ومجّه التفكير السليم عن يزيد بن هارون عن هشام بن عبدالله عن هفان عن انس بن مالك قال: قال رسول الله: اذا اكل احدكم فليأكل بشماله ويشرب بشماله. وإنما الصعوبة كل الصعوبة في الحكم بصدق أو كذب نسبة نوعين من الاحاديث الى الرسول عليه الصلاة السلام: الاول: تلك الاحاديث التي اسماها احمد بن حنبل باحاديث الفضائل والاعمال، وهي التي تحث على مكارم الاخلاق، او تتحدث عن آفاتها. وفي اعتقادنا - كما كان في اعتقاد ابن حنبل - انه لا ضرر في التساهل في قبولها. والثاني: تلك الاحاديث التي تتعلق ببيان الحلال والحرام وبأحكام الشريعة. وإنما يكمن الخطر في التساهل بصدد هذا النوع، غير ان الحديث في هذا المضمار في حاجة إلى بعض التفصيل. كان الخلاف الجوهري بين الفقهاء هو حول ما إذا كان لأمة الاسلام ان تضع الاحكام التي تناسب احتياجات كل جيل، ام ان واجبها هو الالتزام بسنة الجيل الأول من المسلمين. وتبين للفقهاء حين بدأوا خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين في الاهتمام بإرساء دعائم الشريعة الاسلامية، قلة ما جمعته الاجيال السابقة من احاديث تصلح لإقامة هذا البناء. وكان موقف الامام ابي حنيفة ومن يعرفون بأصحاب الرأي ازاء هذا هو الموقف الاكثر امانة ورجولة واستقلالاً، رأوا ان السبيل الوحيد لتجنب اختلاق الحديث من اجل ملء ثغرات الشريعة، هو ملؤها بما يصل إليه علماء الامة وفقهاؤها من رأي عن طريق القياس والاجتهاد والاسترشاد بالروح العامة لدين الاسلام. وفي تقديرنا ان هذا الموقف اشار للأمة الى الطريق القويم الاوحد. ولم تكن الطامة الكبرى والداهية في اختلاق الشيعة او الامويين أو القصاص للحديث، وإنما كانتا في رد الفعل الذي احدثه رأي ابي حنيفة هذا لدى المعارضين المعروفين باصحاب الحديث، ونكوص اتباعه هو حتى ألصقهم به كأبي يوسف والشيباني عن هذا الاتجاه الذي اشار اليه. فقد شاءت المعارضة التي بات لها الغلبة واليد العليا في الدولة ان ترجع احكام الشرع كافة الى سند من القرآن او السنة، وأبت الاخذ بالرأي والاجتهاد. إذا ذو الرأي خاصم في قياس وجاء ببدعة هنة سخيفة اتيناه بقول الله فيها وآثار مبرزة شريفة! وإذا كانت الاحاديث المتوافرة وقت وضع إحكام الشريعة - كما سبق القول - قليلة لا تكفي، لجأ القوم إلى الاختلاق. وقد عظم هذا الاختلاق للاحاديث كلما زاد إصرار العلماء والعامة على الاستناد الى الحديث في بيان الاحكام أي أن العرض زاد بزيادة الطلب، وزاد تمسكهم بأنه حتى الحديث ضعيف الاسناد خير من الرأي الذي يبدو سديداً، وبأن الثقات وحدهم هم من يقولون: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، ولا يؤخذ بأقوال غيرهم. وقامت بعد ذلك بين ظهراني امة الاسلام مذاهب ترى بدعة ليس فقط في كل ما يعارض السنة، وإنما أيضاً في كل ما لا يمكن إثبات انه من السنة. فكان ان حرمت هذه المذاهب اموراً مثل شرب القهوة، واستخدام الملاعق والسكاكين، بل وحتى الطباعة. كل ما يمكن لنا أن نقوله هو أن مثل هذه المذاهب، لو كان قدر لها ان تطبق، لكان مجرد العيش في ظل ظروف تختلف عن ظروف حياة العرب وقت النبي صلى الله وعليه وسلم والخلفاء الراشدين امراً مستحيلاً، فهل من المقبول ان نسمح بأن تشكل الاحاديث الموضوعة حائلاً دون تقدم الامة الاجتماعي والسياسي، ودون مسايرة احتياجات العصر ومواجهة تحدياته؟ كان الفقهاء دائماً، وفي الحقب الاسلامية كافة، يصلون الى الرأي بالاجتهاد وإن تظاهروا بغير ذلك. صاروا إذا رأوا رأياً يضعون الاحاديث المؤيدة له، او يفسرون الاحاديث الصحيحة بما يوافق هواهم حتى تقبل العامة رأيهم وتنحاز اليه دون رأي المعارضين. وفي زعمنا أن في مثل هذا الموقف إهانة للرأي، وامتهاناً لحرية الفكر البشري، وتكبيلاً لايدي العلماء والمفكرين ممن تأبى عليهم ضمائرهم اختلاق الحديث. كما نرى فيه إفساداً لذمم المعارضين الذين يرون اتباع كل مذهب مغرض، واصحاب كل رأي خاص، يستشهدون بالاحاديث لضمان الغلبة وإحراز النصر، فيحذون حذوهم، ويتخلقون بأخلاقهم. * كاتب مصري.