الطبقة - بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي - هي شريحة يجمعها ويميّزها عن غيرها: وضع اقتصادي واجتماعي متماثل أو متقارب - في الدخل والثروة والنفوذ. وإذا كانت المساواة المطلقة والتماثل التام بين أبناء أمة من الأمم - في أنقى صورها وأعمق تطبيقاتها - لا تتعدى المساواة في تكافؤ الفرص، وأمام القانون، فإن التمايزات الاجتماعية بين الطبقات هي حقيقة من حقائق الواقع الاقتصادي والاجتماعي في كل الأمم، وجميع الحضارات، وعبر كل التاريخ. والفارق بين "العدل" وبين "الظلم" في هذا الميدان، هو الفارق بين التمايز المعتدل المتوازن، الذي لا يصل فيه الغني الى الاستغناء والانفراد والاستفراد بالثروات، فتكون دولة تتداولها القلة المحتكرة دون جمهور الأمة، التي تطحنها الحاجة ويقتلها الحرمان. الفارق بين الغنى الذي هو ثمرة للعمل والجدل والاجتهاد وبين الغنى الذي يأتي من الاستغلال والاحتيال، الفارق بين الثراء المؤسس على العمل المشروع وبين الثراء الحرام النابع من النشاط غير المشروع. الفارق بين ثراء يوظف المال وفق ضوابط الشريعة الإلهية، وآخر يوظفه في الحرام والطغيان والاستبداد والإفساد. الفارق بين غنى يؤدي صاحبه الحقوق الشرعية والاجتماعية المقررة في المال، وآخر يتوصف صاحبه بالشح والكنز ومنع الحقوق المفروضة في الأموال. الفارق بين ثراء يسهم أصحابه في فريضة التكافل الاجتماعي، المحقق للأمة درجة الكفاية في الضرورات والحاجات، وبين ثراء يجاوره فقر مدقع يطحن جماهير الناس. فالتفاوت الاجتماعي - الناتج عن التفاوت الاقتصادي - بين الطبقات حقيقة من حقائق الواقع الاجتماعي الإنساني، والاختيار إنما هو بين "العادل" و"الظالم"، "المتوازن" و"الصارخ" من ألوان هذا التفاوت الذي ساد ويسود حياة الناس. وإذا كان النموذج الغربي قد سار، موغلاً ومغالياً، على درب الطبقية الى الحد الذي علق فيه "رسالة التقدم" على الطبقة - البورجوازية في النموذج الليبرالي، والبروليتاريا في النموذج الشيوعي - فإن النموذج الإسلامي - مع اعترافه بالتمايز الطبقي - قد علق "رسالة التقدم" على الأمة، وليس على طبقة بعينها، فهو دين الجماعة، وليس فلسفة طبقة من الطبقات. وإذا كان النموذج الغربي قد اعتمد "المنهاج الصراعي" لحل التناقضات بين الطبقات الاجتماعية، بما يعنيه الصراع الطبقي من صرع طبقة للأخرى، الأمر الذي يفضي الى الغاء التعددية الطبقية - أو يسعى الى ذلك على الأقل - فإن النموذج الإسلامي يستهدف ضبط التمايزات الطبقية عن حد "الوسط - العدل - المتوازن" فلا يؤدي التمايز الى فاحش المظالم، ولا تحلم المساواة بالغاء التمايزات، فتعيش التعددية الطبقية في إطار وحدة الأمة، وتتساند الطبقات بدلاً من أن تتصارع، ويكون التدافع - أي الحراك الاجتماعي - هو السبيل لتعديل المواقع والمواقف وترشيد المسارات، تحقيقاً للتكافل، بدلاً من الصراع، الذي يستهدف افناء الآخر والانفراد بالسلطان والثروات. إذا كان هذا هو تميز النموذج الإسلامي، في القضية الاجتماعية والتمايز الطبقي، فإنه يحقق بهذا التمايز ذات الفلسفة الإسلامية المتميزة في التعددية: تمايز الطبقات الاجتماعية في إطار وحدة الأمة، واحتضان الأمة للطبقات الاجتماعية المتعددة، والمتساندة في ذات الوقت. ولعل في وثيقة "العهد الإداري" الذي كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الى واليه على مصر "الاشتر النخعي" 37ه - 657م الصيغة الاجتماعية لهذه الفلسفة الإسلامية المتميزة في العلاقة بين الطبقات - التمايز الطبقي، الذي تتساند فيه ومعه الطبقات بإطار جامع الأمة الواحدة - فهي طبقات متعددة، لكنها لبنات في وحدة الأمة، لا غنى لواحدة منها عن الأخريات، ولكل واحدة وظيفتها في الكيان الجمعي العام، كتب الإمام علي - في هذا العهد - الى الاشتر النخعي يقول: "واعلم ان الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها: جنود الله، ومنها: كتاب العامة والخاصة، ومنها: قضاة العدل ومنها: عُمال الانصاف والرفق، ومنها: أهل الجزية والخراج، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها: الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة. فالجنود حصون الرعية وسبل الأمن، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج لهم من الخراج، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب. ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات". فنحن أمام تعددية في الطبقات الاجتماعية، تجمعها وحدة الأمة، التي توظفها لبنات في هذا الجامع، دونما صراع ينفي الوحدة، ودونما وحدة قاهرة تنفي التمايز بين الطبقات. وتعددية المذاهب... والفِرق: المذهب: مجموعة مبادىء وآراء متصلة ومنسقة، لمفكر واحد أو لمدرسة فكرية، وكما يكون في الفقه، يكون في الفلسفة أو العلم أو الآداب، أما الفِرقة: فإنهم جماعة تربطهم معتقدات معينة، لا بد للفرقة من جماعة تحمل مقالاتها ونظرياتها. والمسلمون، كأمة، لم يختلفوا في أصول الدين، ولا في أمهات الاعتقادات، فلقد كانت عقائد الدين وأركانه، وثوابت الشريعة وحدودها هي الجامع الموحد للأمة في الاعتقاد الديني، وفي إطار هذا الجامع كانت التعددية، وكان التنوع، وكان الاختلاف في فروع الفقه - عبادات ومعاملات - الأمر الذي أثمر المذاهب الفقهية - التي اشتهرت، والتي لم تشتهر، التي عاشت والتي اندثرت - بما مثلت من ثراء في الاجتهادات، وغنى في التنوع، بإطار الأصول الفقهية ومصادر الاستنباط. أما الفرق الإسلامية، التي مثلت تنوعاً وتعددية في إطار علم أصول الدين، فإن خلافها وتعدديتها لم تكن في ثوابت الاعتقاد، وإنما كانت في "المقالات" أي النظريات والتصورات المتعلقة بالفروع، أو ذات الصلة والعلاقة بالأصول، وليست من ذات الأصول. فالإمامة - أي السياسة، والدولة، والخلافة - وهي من الفروع - كانت أول الميادين وأوسعها لمقالات الفرق واختلافات علماء السياسة الشرعية. ومباحث "الذات والصفات" الإلهية هي "هوامش" على مباحث الإلهيات، لا علاقة لها بجوهر الاعتقاد، ولقد عكست الاختلافات فيها مراتب الناظرين على سلم التنزيه أو التشبيه، والتجريد أو الحشو، والعقلانية المؤمنة والتأويل أو الجمود عند ظواهر النصوص. في هذا الإطار، عرف المسلمون تنوّع المذاهب الفقهية، والتعددية في فرق علم الكلام. * * * ففي علم الفروع - الفقه - نشأت وتمايزت العديد من المذاهب الفقهية، في إطار وحدة الشريعة الإسلامية، وذلك من مثل مذاهب الأئمة: 1 - أبو سعيد، الحسن البصري 21 - 110ه 642 - 728م. 2 - أبو حنيفة النعمان بن ثابت 80 - 150ه 699 - 767م. - الأوزاعي أبو عمرو عبدالرحمن بن عمرو بن محمد 88 - 157ه 707 - 774م. 4 - سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري 97 - 161ه 716 - 778م. 5 - الليث بن سعد 94 - 175ه 713 - 791م. 6 - مالك بن أنس الأصبحي 93 - 179ه 712 - 795م. 7 - سفيان بن عينية 107 - 198ه 725 - 814م. 8 - الشافعي محمد بن إدريس 150 - 204ه 767 - 820م. 9 - أحمد بن حنبل 164 - 241ه 780 - 855م. 10 - الظاهري، داود بن علي الأصبهاني البغدادي 201 - 270ه 815 - 883م. 11 - الطبري، محمد بن جرير 224 - 310ه 839 - 923م. 12 - زيدن بن علي بن الحسين 79 - 122ه 698 - 740م. 13 - الصادق، جعفر بن محمد 80 - 148ه 699 - 765م. 14 - عبدالله بن إباض 86ه 705م. ولقد اجتمعت الأمة على أن ظاهرة التعددية في المذاهب الفقهية، هي واحدة من سمات الغنى والثراء الفكري في الفروع الإسلامية، وعلى أنها التطبيق الخلاق والثمرة الطيبة لتعددية الاجتهادات، خاصة وأن فقه الفقهاء في الإسلام لم يقف عند ميدان "فقه الأحكام" بما يقتضيه من تعددية مناهج النظر والاستنباط، وإنما كان هناك مع "فقه الأحكام"، "فقه الواقع"، وكذلك مناهج تنزيل "الأحكام" على "الوقائع" أو عقد القران بينهما، وجميعها ميادين لتعدد الأفهام، واختلاف الأولويات في ترتيب مصادر الاستنباط، وتنوع المواقف من المرويات والمأثورات، ناهيك عن تنوع واختلاف الوقائع والعادات والأعراف، ومن ثم المصالح، التي قارنت وصاحبت اجتهادات الفقهاء. لقد كان هناك - كما يقول ابن القيم - "نوعان من الفقه: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، ثم يطابق الفقيه بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع". وفي فقه "الأحكام" و"الواقع" تعددت الاجتهادات، التي تبلورت مذاهب منفتحة، ولم تتحول - في عصر الاجتهاد - الى عقائد مغلقة ومستعصية على التجدد ومراجعة الاجتهادات، وبعبارة أبي حنيفة "هذا الذي نحن فيه رأي، لا نجبر أحداً عليه، إنه أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بشيء أحسن منه قبلناه"، فهي مذاهب منفتحة على بعضها، لأنها تحتضن تراث الأمة، وتعتصم جميعها بالشريعة الواحدة، هي لم تختلف في مصادرة الشريعة، ولا على مبادئها وأحكامها، وإنما كان خلافها تنوعاً في مناهج النظر في هذه الأصول، واختلافاً في نسبة المدرك من حقيقة المبادىء والأحكام. وعلى سبيل المثال: فمنهج النظر عند أبي حنيفة، الذي ميّز مذهبه، يحدده هو عندما يقول: "آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتابه ولا سنّة رسوله، أخذت بأقضية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، ثم بأقضية بقية الصحابة، ثم آخذ بقول من شئت من الصحابة وأدع من شئت منهم، لا أخرج عن قولهم الى قول غيرهم، ثم أقيس بعد ذلك اذا اختلفوا ولا اقدم القياس على النص، لأن النص لا يحتاج الى قياس، فاذا انتهى الأمر الى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب فقوم اجتهدوا، فاجتهد كما اجتهدوا وليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة! أما قواعد النظر عند الإمام مالك - والتي ميّزت مذهبه الفقهي - فإنها تتلخص في: الأخذ بنص القرآن الكريم، ثم بظاهره، وهو العموم، ثم بدليله، وهو مفهوم المخالفة، ثم بمفهومه، أي مفهوم الموافقة، ثم بتنبيهه، وهو التنبيه على العلّة، ومع هذه الأصول الخمسة للتعامل مع القرآن، يأتي مثلها في التعامل مع السنّة النبوية، وبعد هذه الأصول العشرة، يأتي الإجماع، ثم القياس ثم عمل أهل المدينة، ثم الاستحسان، ثم الحكم بسد الذرائع، ثمن الصالح المرسلة، ثم قول الصحابي، إن صح سنده وكان من الاعلام، ثم مراعاة الخلاف، إذ قوي دليل المخالف، ثم الاستصحاب ثم شرع من قبلنا. وفي مذهب الإمام الشافعي، كان التميز لتميز قواعد النظر وأصول المنهج، فالأصل: القرآن والسنّة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وصح الإسناد به فهو المنتهى، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهرة أولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها اسناداً أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال للأصل: لم؟ وكيف؟ وإنما يقال للفرع: لم؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح، وقامت به الحجة". وقواعد مذهب الإمام أحمد بن حنبل، هي: أولاً: النصوص، من القرآن والسنّة، فإذا وجدها لم يلتفت الى سواها، ولا يقدم على الحديث الصحيح المرفوع شيئاً، من عمل أهل المدينة، أو الرأي، أو القياس، أو قول الصحابي، أو الإجماع القائم على عدم العلم بالمخالف. ثانياً: فإن لم يجد في المسألة نصاً، انتقل الى فتوى الصحابة، فإذا وجد قولاً لصحابي لا يعلم له مخالفاً من الصحابة لم يعده الى غيره، ولم يقدم عليه عملاً ولا رأياً ولا قياساً. ثالثاً: فإذا اختلف الصحابة، تخيّر من أقوالهم أقربها الى الكتاب والسنّة، ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتضح له الأقرب الى الكتاب والسنّة حكى الخلاف ولم يجزم بقول منها. رابعاً: يأخذ بالحديث المرسل والضعيف إذا لم يجد أثراً يدفعه أو قول صحابي أو إجماعاً يخالفه، ويقدمه على القياس. خامساً: القياس عنده دليل ضرورة، يلجأ إليه حين لا يجد واحداً من الأدلة المتقدمة. سادساً: يأخذ بسد الذرائع. أما أبرز أصول المذهب الظاهري، فهي: التمسك بظواهر آيات القرآن الكريم والسنّة، وتقديمها على مراعاة المعاني والحكم والمصالح التي يظن لأجلها أنها شرّعت. ولا يعمل بالقياس عندهم ما لم تكن العلة منصوصة في المحل الأول - المقيس عليه - ومقطوعاً بوجودها في المحل الثاني - المقيس - بحيث ينزل الحكم منزلة تحقيق المناط. كما يحرم العمل بالاستحسان، ويستدل بالإجماع الواقع في عصر الصحابة فقط. ولا يُعمل بالمرسل والمنقطع. خلافاً للمالكية والحنفية والحنابلة. ولا يعمل بشرع من قبلنا. ولا يحل لأحد العمل بالرأي، لقوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" - الأنعام - 38 - وتعدية الحكم المنصوص عليه الى غيره تعدٍ لحدود الله تعالى. ولا يحل لأحد القول بالمفهوم المخالف. والتقليد حرام على العامي كما هو حرام على العالم، وعلى كل مكلف جهده الذي يقدر عليه من الاجتهاد". وهكذا، لم تختلف المذاهب على الأصول، ولا على تقديمها، وإنما كان التمايز والاختلاف بينها في منهاج النظر في هذه الأصول، وفي قواعد الاستنباط للأحكام من هذه الأصول، وفي الموازنة بين ما عدا الكتاب والسنّة من مصادر التشريع. ولهذا كانت تعددية المذاهب الفقهية تنوعاً في إطار وحدة الشريعة الإسلامية، واختلافاً يجسد الفطرة التي تجعل مناهج النظر متعددة بتعدد الاجتهادات، وبعبارة القدماء: "فإن المذاهب فروع الأديان، والأديان أصول المذاهب، فإذا ساغ الاختلاف في الأديان - أي التعددية في الشرائع - وهي الأصول - فلم لا يسوغ في المذاهب وهي الفروع؟! ولما كانت المذاهب نتائج الآراء، والآراء ثمرات العقول، والعقول منائح الله للعباد، وهذه النتائج مختلفة، بالصفاء والكدر، وبالكمال والنقص، وبالقلة والكثرة، وبالخفاء والوضوح، وجب ان يجري الأمر فيها على مناهج الأديان في الاختلاف والافتراق، وان كانت تلك منوطة بالنبوة. وما دام الناس على فطر كثيرة، وعادات حسنة وقبيحة، ومناشىء محمودة ومذمومة. وملاحظات قريبة وبعيدة، فلا بد من الاختلاف في كل ما يختار ويجتنب، ولا يجوز في الحكمة أن يقع الاتفاق فيما جرى مجرى المذاهب والأديان. ولأن هذه هي حقيقة التعددية في المذاهب الفقهية، وأسبابها وأطرها، رآها أصحابها في اطار التنوع والتكامل والرحمة والغنى والثراء، وليس في إطار التضاد والانغلاق والتشديد على الناس، فكان كل منهم إماماً لغيره، ومأموماً لسواه، وكان أدبهم في الاختلاف مضرب الأمثال، حتى سنوا سنّة الافتاء وفق مذهب المستفتي، لا مذهب المفتي، ناهيك عن حديث كل إمام عن مناقب مخالفيه. فالإمام أحمد بن حنبل، من أعلام صناعة الرواية للأحاديث، وعليه يتتلمذ الشافعي، ويقول له: "أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً". الراوي لهذه الأخبار. والشافعي، إمام في فقه الحديث، وعلم الدراية، وابن حنبل يعترف له بذلك، ويتحدث عن فضله عليه في هذا الفقه فيقول: "لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف؟ أو منهما عوض؟!. وعن أبي حنيفة، وفقهه، يقول الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة" كما يقول عن الإمام مالك: "مالك بن أنس مُعلمي، وعنه أخذت العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم!". وكثيرة هي عبارات التقدير والاجلال التي ازدان بها تراثنا، في ثناء مالك على أبي حنيفة، وثناء أبي حنيفة على مالك. ولم يقف هذا المنهاج عند الأئمة المؤسسين للمذاهب، وإنما كان قسمة مطردة ومذهباً متّبعاً لدى كل العلماء المجتهدين في كل المذاهب الفقهية - لم يتخلف إلا عند المقلدين في عصور الجمود! -. فالقرافي 648ه 1285م المالكي، يتتلمذ على علماء الشافعية، كما يتتلمذ على علماء المالكية ولا يقف في كتبه عند آراء المالكية وحدهم، وينبه على هذا المنهاج في تأليفه، فيقول: "وقد آثرت التنبيه على مذاهب المخالفين لنا من الأئمة الثلاثة، ومآخذهم في كثير من المسائل، تكميلاً للفائدة، ومزيداً في الاطلاع، فإن الحق ليس محصوراً في جهة، فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى، وأعلق بالسبب الأقوى". كما يرجع في تأليفه الى مصادر المعتزلة أيضاً". وكذلك الحال عند شهاب الدين المقدسي، أبو العباس المقدسي 649 - 728ه 1251 - 1328م، فهو الذي انتهت اليه رئاسة المذهب الحنبلي في عصره، ومع ذلك يتتلمذ في أصول الفقه على القرافي، المالكي. وتقي الدين ابن دقيق العيد، أو الفتح محمد بن الشيخ مجد الدين 625 - 702ه 1228 - 1302 يتفقه في المذهبين المالكي والشافعي معاً، حتى يصير الإمام فيهما جميعاً! يأخذ فقه مالك عن أبيه - الذي كان من أئمة المالكية - ويأخذ فقه الشافعي عن تلميذ والده - بهاء الدين القفطي - ويتولى قضاء المذهب المالكي، والتدريس للمذهب الشافعي! حتى لقد مُدح بذلك شعراً: صبا للعلم صبا في صباه فأعل بهمة الصب الصبي واتقن، والشباب له لباس أدلة مالك والشافعي! وكان الإمام الذي ينزل السلطان عن سرير الملك ليقبّل يده! وكما تعايشت التعددية الفقهية في إطار الشريعة الواحدة، وتجاورت في فقه المجتهد الواحد، رأيناها تتجسد في "المدارس"، التي ضمّت أجنحتها دروس المذاهب الفقهية المتعددة، لتفتح أبواب الاختيار المذهبي أمام طلاب العلم الديني، ولتصبح هذه التعددية أبواباً للرحمة والغنى والثراء أمام جمهور الأمة، عبر الزمان، وفي مختلف بقاع عالم الإسلام.