في خطوة مغامِرة، وتنطوي على قدر عال من التجريب المستند الى أسس غير واضحة الحدود غالباً - كما سنبين لاحقاً - يُقْدم الشاعر محمد عضيمة على إصدار الكتاب الأول: العراق من مشروع "ديوان الشعر العربي الجديد" الذي يَعدُنا صاحبه بأنه سيشمل "العالم العربي كاملاً" إذ سيكون "لكل منطقة عربية - أو لكل بلد عربي... - جزء خاص، كتاب يحتفي بالأسماء الشعرية، يحتفي بالشعر وبالمغامرة الشعرية بعيداً عن أية اعتبارات أخرى". المغامرة والتجريب الى حدود التخريب الجميل حيناً، وغير الجميل أو المفهوم أحياناً نصطدم بهما منذ المقدمة التي نعتقد، ابتداء، أنها لتقديم "الشعر العراقي الجديد"، ثم نكتشف أنها أشبه ببيان شعري هجومي بنبرة حماسية ساخطة وساحقة وماحقة وغير مهادنة، بل حتى غير "ديموقراطية" ولا عقلانية في طرحها للأسس "الجديدة" التي يعتمدها الشاعر صاحب كتاب المختارات في فهمه لما هو "الشعر"، الأسس التي جعلته يتجرأ على طرح أسلوب جديد في "اختيار" ما يسميه "الأقوال الشعرية" حيناً، و"الأخبار الشعرية" حيناً... أسلوب يبيح اقتطاع "نُتَف" لا تزيد عن خمسة أسطر، كحد أعلى، من أي قصيدة، وجمع عدد كبير من هذه النتف لشعراء مختلفين نحو خمسة وخمسين شاعراً، ثم بعثرة هذه "المقطوعات" دونما أي رابط أو سياق، و... أسلوب يبيح التدخل في اعادة تركيب المقطوعة وترتيب أسطرها في صورة تبتعد من دون أن يدري عضيمة الى أي حد ابتعدت عن وضعها الأصلي. أي أنه، ببساطة، وكما يقول هو، قد ""خُنت" الأصل قليلاً أو كثيراً، لكن لم أُضف كلمة واحدة إلا "في" أو "على" أو ما شابه من هذه الأحرف"، وكأن هذه الإضافة أو ذلك الترتيب الجديد لسطور "النص" التي جرى سلخها من قصيدة ما يعترض عضيمة على هذه التسمية التقليدية، ويدعو الى تركها ترتاح، على رغم أنه لم يبخل في استخدامها في بيانه هذا كأن هذا حق طبيعي لصاحب المختارات الذي سأسميه "المختار" اختصاراً، وليس لأنه ينصّب نفسه مختاراً على الشعراء وشعرهم، يختار ما يشاء - ما يلائم ذائقته وهذا حقه - ويعيد كتابته كما يحب هو، حتى ليجعلنا نسأل: ما الذي يبقى - بعد هذا التدخل - من نص الشاعر" خصوصاً حين نستعرض "الأقوال - الأخبار الشعرية" التي اختارها "المختار"؟ المقدمة أولاً المقدمة - البيان تحتوي آراء وأفكاراً لا يجوز لأحد أن يخالفها، لأن صاحبها قد قسم من سيقرأونها الى قسمين: "الأول هم من يدعوهم هو "المختار" - ويخاطبهم كما يخاطب مريديه - ب "أبناء الحداثة الجديدة - حداثة الفرح والابتهاج" وهذا أحد ابتكارات الشاعر التي سنعرض عدداً منها. وكل واحد من أبناء الحداثة هؤلاء، سوف يستقبل صنيع "المختار" هذا، بآرائه واختياراته، استقبالاً أكثر من حسن، إذ أنه - كما يقدم القول، وكأنه يعلم كيف سيستقبله، سوف يضع هذا العمل "في ركن من أركان عقيدته أو منزله، وسوف يقيم له نهارات من الحب والاحتفاء..."!. أما القسم الثاني فهو يضم أبناء "العقل الشعري التوحيدي السائد"، ولا شك أن كل واحد من هؤلاء سوف "يرفع أحكامه وسلاسله ليحتج بشكل أو بآخر..."!. بهذا التقسيم لن يجرؤ أحد على مخالفة "المختار" ونقد صنيعه، إلا إذا أراد أن يصنف في عصابة الأشرار الأصوليين التقليديين السلفيين المتحجرين المتقوقعين خوفاً على الجذور والأصالة والهوية... إلخ. ومن يريد كل هذه التهم التي تكفي واحدة منها لإقصائه من عالم الابتهاج الى عالم الكآبة؟! هذه التوصيفات يستخدمها عضيمة في تقسيمه العالم ومن ثم الشعر الى عالمين وشعرين / نمطين ولونين من الشعر: العالم الذي ينتمي الى الديانات التوحيدية، وفيه الشعراء الذين ينتجون الشعر السوداوي، حيث مخيلة الشاعر تأخذ "بتصوير الأرض تصويراً بشعاً، وتقديمها على أساس أنها المكان الوحيد للآلام والعذابات... وعلى إساس أن الغيب هو الخلاص وهو النقيص..."، وحيث صورة الأرض في "مجمل الشعر العربي الحديث والقديم - باستثناء الشعر الجاهلي - هي صورة مشوهة بلا جدال". وهناك العالم الذي ينتمي الى الأرض ويحارب الغيب والسماء، وهو الذي ينتج شعر الحياة والابتهاج. في تقسيمه هذا، والذي يتقمص - في الأساس - روح نيتشه ومقولاته، كما يتأثر - الى حد بعيد، وكما يعترف عضيمة - بالروح اليابانية ومعطياتها خصص لها عضيمة كتابه "غابة المرايا اليابانية" لهجاء او تشريح هذه الروح، وخصوصاً المعاصرة، وتجربتها..!، يبتعد صاحب البيان عن أي منطق، وينزع الى سهولة الأحكام، والى استسهال التقسيمات الحدية وضع الحدود، الى لونين لا ثالث لهما. وهو يخلط - مثلاً - بين الأرض "أُمنا الأولى والأخيرة"، وبين "الواقع" و"الحياة" و"الحاضر"، حين يعتبر هجاء الشعراء العرب للواقع، وثورتهم عليه ليس مجرد هجاء للأرض، بل دعوة للإيمان بالغيب. وهو أغرب ما يمكن أن يقال عن حال الشعر العربي الحديث منذ السياب خصوصاً. إلا أن الأغرب هو أن يكون السياب نفسه، وشعراء جيله غارقين في المعتقدات الغيبية. وحين يبحث عضيمة عن انزياح خفيف عن هذه المعتقدات، فهو سيجد انزياحاً خجولاً عند سعدي يوسف. لكن هذا الانزياح يتضح "مع الأجيال التالية لسعدي، ولا سيما عبر النصوص الواردة في هذا الكتاب". كيف يمكن أن تكون قصيدة "أنشودة المطر"، التي هي ثورة على واقع اجتماعي وسياسي، واحتجاج على الجوع والفقر اللذين تسببهما ظروف واقعية... قصيدة غيبية، أو هجاء للأرض - الأم؟ هل قرأ عضيمة الشعر العربي، القديم والحديث، فلم يجد فيه سوى الموت والسواد؟ وأين شعر الحب والخمريات و... الخ؟ ثم، هل صحيح أن شعر الموت ليس شعراً، وليس حداثياً سوى شعر الابتهاج؟! وهل "مختارات" عضيمة جميعها، أو معظمها، ابتهاجية؟ وخصوصاً أننا أمام تجربة الشعر العراقي الذي مهما غربلته وحاولت أن تظهر ابتهاجيته فإنك لن تتخلص من مأسوتيه التي باتت - بحكم الواقع، لا بحكم كراهية الحياة أو الحقد على الأرض وتقديس السماء - سمة طاغية فيه!! في المعايير سنبقى مع المقدمة، بعيداً عن التقسيمات الحادة، ولكن في إطار المعايير والتحديدات غير الواضحة، أو غير المحددة بأسس واضحة، أو المستندة الى مقولات متسرعة وغير مقنعة. من هذه المعايير التي تطرحها المقدمة نظرياً، ويعتمدها "المختار" عملياً في اختيار أخباره وأقواله الشعرية، معيار عدد السطور الشعرية، إذ ينبغي أن لا تزيد عن خمسة، لكنها بلا حد أدنى. أما لماذا خمسة؟ وأيّ رقم سحري هذا، فما من مبرر كاف. وربما اضطر "المختار" الى دمج سطر في سطر آخر حتى لا تزيد سطور أي من المقطوعات المختارة عن خمسة. ولهذا سنجد سطوراً تمتد من أول الصفحة الى آخرها، وسطوراً أخرى من كلمة واحدة. وهنا نسأل: أوليس هذا القسر ضد الشعرية، وضد الجمال، وهو قسر لا يراعي سوى مزاج وذوق ومعيار ضيق جداً، فما المبرر في أن يضيق "المختار" علينا، وعلى نفسه، الى هذا الحد؟! أم أن علينا أن نتبع اليابانيين والغربيين حتى في عدد سطور القصيدة، ولو بلغوا بها حد الصمت الأبيض، أو البياض الصارخ؟! وهل يجوز أن ندعو المطوّلات الشعرية - كالملاحم والمعلقات مثلاً - بأنها "طاغيات مستبدة، لا تترك حرية للقراءة"، ونعطي "الموجزات الشعرية" صفة الديموقراطية التي "تمنح حرية كاملة"؟ وإذا جاز هذا الأمر، فهل ينبغي فرضه معياراً وحيداً؟ أليس ثمة في "الموجزات" ما هو أقل شعرية، أو ما لا يمكن أن يتجاوز قيمة "الساندويتش" الشعري، الذي يلائم قيم الزمن الاستهلاكي الذي هو مرفوض شعرياً؟! وهنا نتوقف لنجادل "المختار" عضيمة في معنى أن يكون الشعر "بضاعة سوقية"، كما يقول، إذ كيف يمكن ل"السوقية" أن تنطوي على معاني مثل "طراوة وحركة وتدفق ودم وحياة..." وكيف يستسيغ شاعر أن يكون الشعر "بضاعة رخيصة... بكل ما في كلمة رخيص من رطوبة ونداوة وخفة وانسانية عارية..."؟ إلا إذا كان القصد هو الإثارة والجاذبية كما يشير "المختار" في واحد من معاييره لاختيار أقواله الشعرية! وهنا سنكون أمام عملية قلب للمفاهيم بقصد هدم القديم من دون النظر الى بناء جديد ومتين. وهنا سنجد مسافة بين التنظير وبين الصنيع العملي في الاختيار، إذ سيجد قارىء المختارات أنها لا تلتزم بمعيار "السوقية" الذي يبشر به "المختار"، فثمة مقطوعات غير سوقية - حسب المعنى الذي أعطاه لهذه الكلمة. إن من طبيعة أية "مختارات" أن تلتقط خصوصية الشاعر ونصه، لا أن تلغيها لمصلحة ابراز خصوصية "المختار" وذائقته. وعلى المختارات أن تبرز الخصوصيتين معاً، وإلا فإن جميع الشعراء أصحاب النصوص المختارة سوف ينصهرون في بوتقة ويرتدون الزي الموحد الذي يفرضه عليهم "المختار" كما لو أنهم جنود في جيشه! لكن هذا الزي "التوحيدي" لن يلغي الفارق في المستوى بين نص وآخر، وهو ما يفترض أن يخف في أي كتاب مختارات، لأن الاختيار يعني - في واحد من جوانبه - التقارب في المستوى الفني. ومن القضايا التي لم يعد الخوض فيها مجدياً، الموقف من الشعر على أساس "الوزن"، لكن عدم ثبات عضيمة على موقف واحد من الوزن يدفع الى مساءلته: كيف يمكن أن تختار أبياتاً موزونة حتى وان كانت قليلة وتعلن أنك لا تقوّم الشعر على أساس وزن / نثر، ثم لا تلبث أن تهاجم "قطار الوزن" وتدعو من يكتبون الموزون الى ألا يستقلّوه في الطريق الى الشعر "لا لشيء إلا لأنه حافل برجالات الدين المقنعين بقناع الشعراء أولاً، ولأنه أولاً وأخيراً قطار قديم، قديم جداً وحان لعرباته أن ترتاح أو تنزاح، حان لعجلاته أن تكفّ عن القرقعة والضجيج وأن تأكل ضربة الكابح الأخيرة". أوليس هذا موقفاً عدائياً، يتناقض مع قولك بضرورة التخلص من "العقل التوحيدي، الذهني، الديني، التجريدي، الموزون فيه والمنثور"؟ ان الانحياز الى نمط أو شكل مسألة حق متاح لكل شاعر، لكن ما ليس "ديموقراطياً" أبداً هو مثل هذه الدعوة السالفة، وربما كان الأكثر بعداً عن الديموقراطية، وكذلك الأقل شعرية أن يدعو الشاعر زملاءه الشعراء الى "تجريب طرق أخرى" بأسلوب قسري، فهو يسأل هذا الشاعر "لماذا لا يقول لنفسه: والله أريد أن أترك التفعيلة قليلاً وأكتب شعراً غير موزون، أريد أن أقول ما يعتمل في داخلي وفي خارجي من دون دق إيقاعات أو طبول...". ويعلم عضيمة أن شكل الكتابة لا يأتي بقرار، بقدر ما تفرضه عوامل لا نريد الخوض فيها الآن. هذه القضايا والمسائل هي الأبرز في المقدمة - البيان، وثمة سواها كثير مما يستحق التوقف، ولكن ما أردنا لمسه بصورة أساسية هو المنهج العام والأسلوب الطاغي في عمل عضيمة هذا. ولنقل إننا أمام سمتين عامتين تحكمان العمل، وهما الغرابة والشذوذ، حتى أن عضيمة يبدو في بعض غرابته غريباً أو مغترباً أو مفتعلاً وباحثاً عن الغريب لذاته لا لجمالية فيه، لأن الغرابة في ذاتها لا تصنع الشعر، وهذا ما نلمسه في عدد من المقطوعات المختارة، فهي تنطوي على غرابة لا شعرية فيها. وقليلة هي النماذج التي تجمع الأمرين معاً: الغرابة أو الشذوذ مع الشعرية! ما أردته هو أن تكون هذه "المراجعة" مناسبة لمراجعة الكثير من المفاهيم والمقولات السائدة، مراجعتها بانفتاح ودون تشنج وأحكام مسبقة.