في الحادي عشر من كانون الأول ديسمبر 1934، اي عشرة أيام بعد اغتيال كيروف في ليننغراد، احصت مصادر محايدة عدد الذين طاولهم القمع خلال تلك الأيام، عقاباً على الاغتيال او على التقصير او لأسباب اخرى غير واضحة، قائلة ان عددهم أربى على المئة. والغريب في الأمر ان القاتل نفسه لم يكن من بينهم. فستالين، الزعيم السوفياتي دون منازع، في ذلك الحين، كان ما ان بلغه خبر اغتيال كيروف زعيم الحزب الشيوعي في ليننغراد، حتى أمر بأن يصار الى اعدام كل المتهمين والمقصرين فوراً، وحتى من دون محاكمة اذا اقتضى الأمر ذلك. فستالين قال للذين حوله، ولا سيما لمولوتوف وفوروشيلوف اللذين رافقاه في القطار الى ليننغراد، انه يعتبر ان اغتيال كيروف عمل موجه ضده، هو، شخصياً. هزّ الاثنان رأسيهما بالموافقة حينها، مع معرفتهما التامة بأن الأمور ليست على مثل تلك البساطة. فهما، مثل غيرهما من المسؤولين السوفيات الكبار في ذلك الحين، كانت قد تناهت الى اسماعهما كل تلك الشكوك التي تثير ألف شبهة وشبهة من حول الاغتيال نفسه. وهي شكوك عادت لتعززها الفرضيات التي راحت تنطلق منذ غداة مصرع كيروف. وما بعث تلك الشكوك، يومها، امران رئيسيان أولهما ان كيروف، السياسي النزيه، لم يكن ليتردد دون معارضته ستالين في العديد من المواقف والمناسبات، وثانيهما ان الرجل كان عين، حديثاً، أميناً عاماً للحزب الشيوعي في موسكو، وهو تعيين لم ينظر اليه سيد الكرملين بعين الارتياح الا حين ادرك ان نقل كيروف من ليننغراد الى موسكو، سيجعله تحت مراقبته بشكل دائم، حتى وإن كان سيزيد من صلاحياته. اذن، لم يكن كيروف من المرضي عنهم. وكانت تلك اشارة أولى تدعو الى التساؤل، لكنها كانت مجرد اشارة سياسية تخضع الى ضروب التأويل والتخمينات. في المقابل كانت هناك مؤشرات اكثر قوة وغرابة، منها مثلاً ان قاتل كيروف ارتكب جريمته دون ان تجابهه اية مقاومة حقيقية، على الرغم من ان كيروف كان محاطاً على الدوام بعدد كبير من الحراس الاشداء. ثم، كان هناك تساؤل اساسي، فحواه ان القاتل، وهو شاب شيوعي، كان سبق لقوات الشرطة السرية ان اعتقلته مرتين بتهمة حيازة سلاح وفي المرتين اطلقت سراحه بسرعة. فكيف تمكن من ان يصل الى الطابق الثالث في معهد سمولين حيث قتل كيروف من دون ان تتنبه الشرطة التي تراقبه اصلاً الى ذلك؟ وهذه الشرطة كان سبق لها ان رصدت تحركات الشاب، ويدعى ليونيد نيقولاييف، وتجوله قرب مركز الحزب في ليننغراد. وكانت أبلغت بأنه طرد حديثاً من الحزب. فكيف غضت الطرف عن ذلك كله؟ وكيف حصل نيقولاييف على الاذن الذي مكّنه من دخول البناية؟ ثم ان كيروف لم يكن قد وضع في حسابه ان يمر على مكتبه في مبنى معهد سمولين، بل بقي في بيته يحضر خطاباً كان عليه ان يلقيه خلال اجتماع الحزب مساء ذلك اليوم. اما نيقولاييف فإنه امضى النهار كله يتجول في اروقة المعهد في انتظار ضحيته. فلماذا كان عدد الحراس في ذلك اليوم قليلاً، ولماذا لم يلحظ احد وجود القاتل طوال ساعات؟ المهم في الأمر ان كيروف وصل في الرابعة بعد الظهر، دون توقع - الا من القاتل كما يبدو - وهو بقي بضع دقائق يتحدث الى معاونيه قبل ان يتوجه الى مكتبه في الطابق الثالث من المبنى. وهناك كان نيقولاييف كامناً حيث اطلق عليه طلقات عدة اصابته في ظهره من على مسافة يسيرة. على الفور قتل كيروف. وعلى الفور، لدى سماعهم صوت اطلاق النار هرع رجال الحراسة الى الطابق حيث تمكنوا من اعتقال القاتل الشاب الذي... فوجئ بهم يعتقلونه. لكن الغريب ان مرافق كيروف وحارسه المقرب يوري بوريسوف لم يكن من بين الذين هرعوا. ومن هنا ثار سؤال ثالث: كيف حدث لهذا الحارس ان تخلف عن لحاق سيده، ليبقى عند باب المبنى هو الذي كان من مهامه الا يفترق عنه لحظة؟ كل هذه التساؤلات والغرائب، لم تشغل بال السياسيين السوفيات كثيراً يومها. ما شغل بالهم هو "الغضب الشديد الذي استبد بستالين" وجعله يأمر بأن تسود حالة قمع وصلت الى ذروتها يوم 11 من ذلك الشهر، حين بلغ عدد المقموعين رقماً لا يتناسب مع الجريمة نفسها، ناهيك عن حالة الغضب التي جعلت ستالين ما ان يصل الى محطة القطار في ليننغراد لحضور جنازة كيروف، يصنع فيليب مدفديف، رئيس اجهزة المخابرات مفوض الشعب لشؤون الداخلية بالتالي صنعة اهتزت لها المحطة، وكانت اشارة الى ان اضطراب ستالين وارتباكه. الصورة: كيروف الذي أثار مقتله حملة قمع رهيبة بأمر مباشر من ستالين.