مثلما يحدث، عادة، لكل الانظمة الشمولية، ولا سيما في لحظات تحسّ فيها هذه الانظمة انها من الضعف والهشاشة بحيث تحتاج الى الاعلان عما يطمئن "الاكثرية الصامتة" لكي تظل على صمتها، كان ستالين، زعيم الاتحاد السوفياتي، في ذلك الحين، بحاجة الى مشروع كبير تتحدث عنه الصحافة، وتلتقط له - هو ستالين - صوراً في الافتتاح، بل ترسم له لوحات خالدة توضع في المتاحف. ففي صيف العام 1933 كان ستالين يشعر بأقصى درجات القلق: الى الغرب من بلاده، في المانيا، وغيرها تنمو قوى فاشية ونازية تسرق من الطبقة العاملة وجمهور الشعب، وتضع الاحزاب الشيوعية الشقيقة في موضع الضعف، وفي الداخل ها هي المحاكمات التي اجراها لخصومه تتواصل وتزيد من عدد الخصوم والمحكومين. اما في الولاياتالمتحدة، العدوة الايديولوجية الجديدة الصاعدة، فان الازمة الاقتصادية قد بدأت بالتلاشي. وهي الازمة التي كان ستالين وشيوعيو العالم راهنوا عليها طويلاً باعتبارها ستقوض أركان الرأسمال العالمي وما الى ذلك. فاذا اضفنا الى هذا ما تركته محاكمة المهندسين البريطانيين العاملين في مشاريع "الأورال" والمتهمين من قبل المحاكم السوفياتية بالتخريب والتجسس، يمكننا ان ندرك حماس ستالين لدى توجهه في مثل هذا اليوم من ذلك العام الى الشمال لافتتاح القناة الكبرى التي توصل بحر البلطيق والبحر الابيض بحر داخلي هو بالطبع غير البحر الابيض المتوسط. كان افتتاح القناة يوم 20 تموز يوليو 1933 حدثاً كبيراً هللت له الصحافة السوفياتية كلها مفردة صفحاتها الاولى لكي تصف الانجاز العلمي والتقني الكبير، وايضاً لكي تقول كم ان الشعب السوفياتي مدين، بالنسبة الى هذا الانجاز، للزعيم الأوحد الذي لولاه لما كانت قناة ولا يحزنون. توجه ستالين الى لينينغراد في ذلك اليوم برفقة كليمانت نوروشيلوف، حيث استقبلهما الامين العام للحزب الشيوعي السوفياتي في لينينغراد سيرغاي كيروف. واعتلى الثلاثة متن سفينة حربية معدّة لتلك الغاية، راحت تمخر بهم عباب القناة على طول المجرى المائي المنزلق بهدوء بين المروج والبساتين، فيما المصورون يلتقطون الصور والصحافيون يتفننون في كتابة المقالات التي سينشرونها غداً. طوال الطريق بدا ستالين مبتسماً راضياً، والحقيقة انه كان ثمة ما من شأنه ان يرضيه، حيث أعلن ان انجاز القناة، حفراً وتحضيراً، تم في الموعد المحدد وان الاعمال تمت بأحدث الطرق التكنولوجية، وبفضل مهندسين من اهل البلد. وهذا كله جعل الزعيم يوزع الأوسمة على كبار العاملين في المشروع، في حضور رجال الصحافة ويثني على الجميع. لكن هذا يخفي وراءه اموراً كثيرة او هذا ما قاله المؤرخون بعد ذلك. فلئن كان المشروع قد بدا يومها منجزاً نظيفاً، فان ما اختفى وراء ذلك كان المآسي الحقيقية التي صاحبت عملية انجازه. فالحال ان المهمة الاولى التي قامت بها السلطات قبل الاحتفال كانت ازالة اكواخ القصدير البائسة التي عاش فيها طوال سنوات، الوف العمال الذين قاموا بالانجاز. وهكذا لم يبق اثر مما سماه المؤرخون "المآسي" التي صاحبت عمليات الحفر وما شابه ذلك. وتحدثت المصادر عن كلفة بشرية للمشروع فاقت المئة الف قتيل سقطوا ضحية لأعمال السخرة وللظروف المعيشية القاسية، وضحية كذلك لرغبة السلطات في انجاز المشروع خلال اقل ما يمكن من الوقت. وهي كلها مآس لم تتحدث عنها الصحافة السوفياتية ابداً، حيث ان القتلى كانوا يدفنون من دون اي اعلان ومن دون ان يعرف أهلهم بذلك. علماًً بأن معظم العمال كان يؤتى بهم من الجمهوريات الجنوبية. غير ان هذا لم يكن كل شيء، فالواقع ان المشروع كله على رغم كل الصفات وضروب المجد التي اسبغت علىه سرعان ما تبدى غير مجد تماماً، فالقناة التي قدمت للشعب السوفياتي وللعالم باعتبارها واحداً من اعظم المشاريع الانمائية، وبأنها ستسمح بوصول الاسطول المرابض في بحر البلطيق الى الداخل بما ينعكس بفضل ذلك على التجارة الداخلية ويفتح الداخل على الخارج. هذه القناة تبدّت في نهاية الامر غير عميقة بما فيه الكفاية لكي تسمح للاسطول بالدخول، ناهيك عن الغواصات التي لم يكن بإمكانها ان تمخر أعماق مياهها الضحلة. فقط سفن السياحة الخفيفة كان بإمكانها ان تفعل ذلك، ومنها السفينة الخفيفة التي أقلّت ستالين في "ذلك اليوم المجيد" ونجدها مرسومة في اللوحة المرفقة، وعلى متنها فرسان القناة الثلاثة يتحدثون وقد أخذ بهم زهو الانتصار