لماذا اكتسبت الكويت سمعة ثقافية طيبة؟ او لماذا اعتبرت مركزاً من مراكز الثقافة العربية؟ لأنها، باختصار، لعبت دوراً مهماً في الثقافة العربية، ولانها تملك خيارات اخرى غير الثقافة وتحقيق ذاتها في المحيط العربي. ساهمت طبيعتها الانفتاحية على ذلك، ككل الموانئ، وتلاقحت ثقافتها بثقافات الشعوب الهندية والفارسية والافريقية وغيرها، مما خلق لدى الانسان الكويتي تركيباً سيكولوجيا سمته الانفتاح والاستعداد لتقبل كل جديد واستيعابه. لذا برزت قبل النفط مظاهر ثقافية في المجتمع الكويتي ميزته عن مثيلاته في الخليج، مثل تأسيس جماعات واحزاب في عشرينات هذا القرن لمساندة حركات التحرر العربية، اضافة الى تأسيس ناد ادبي ومجلات ومدارس نظامية ومظاهر اخرى، تلتها حركة وضع بنية ثقافية اساسية، مثل تأسيس الحركة المسرحية ولاحقاً معهدي المسرح والموسيقى، والمسارح الاهلية، وحركة الصحافة الحرة التي بدأ زخمها الاول في الاربعينات، حتى اصبح لها ثقل عربي وعالمي لجرأة طرحها وهامش الحرية الواسع الذي تتمتع به. وتبلورت هذه الرؤية بتأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب على يد الرائد الراحل عبدالعزيز حسين، الذي وضع مشروع الخطة الشاملة للثقافة العربية، اضافة الى مشاريع المجلس المعروفة، ومطبوعاته ذات الطابع العربي، وغيرها الكثير والمعروف. في عام 2001 ستعتبر مدينة الكويت عاصمة للثقافة العربية، وقبلها كانت القاهرة وتونس والشارقة وبيروت عواصم للثقافة العربية، والرياض ستكون في عام 2000 فماذا يجب على الكويت ان تفعل كي تستحق هذا الشرف؟ صحيح ان الكويت نشطة ثقافياً، من خلال المهرجانات الثقافية مثل القرين ومهرجان المسرح ومهرجان الطفل، واصداراتها ومشروعاتها، لكن ذلك لا يكفي، ولا يكفي وضع البلاد في اجواء احتفالية وعقد ندوات ثقافية كبيرة، لكن الاهم هو الصناعة الثقافية الثقيلة. بدأت الكويت بدايات صحيحة في الخمسينات والستينات، عندما وضعت بنية ثقافية اساسية مثل بناء مسارح متطورة في ذلك الوقت، او تأسيس معاهد فنية، او تبني مشاريع كبيرة مثل معجم "تاج العروس" لكن تلك الامور لم تعد تكفي او تناسب وضع الكويت الثقافي الآن، خصوصاً ان الاحتلال دمّر البنية الاساسية، وما استعيد منها لا يتعلق بالثقافة. يجب استغلال مناسبة 201 لاعادة تأسيس البنية الثقافية، والبدء من جديد في صناعة ثقافية ثقيلة، تعيد الاعتبار الحقيقي لمركز الكويت الثقافي، وتعين على تحقيق الطموحات، وقد يكون قرار مجلس الوزراء الكويتي بالموافقة على بناء مجمع المسرح الوطني دار الاوبرا على ارض مساحتها 15000 كلم مربع، وبناء مقر مكتبة الكويت الوطنية، واعادة بناء متحف الكويت وترميم المباني التاريخية مساهمة مهمة في هذا الامر. كما ان تبني مشروع ضخم للترجمة، وآخر تراثي مثل "تاج العروس"، وسلاسل من المطبوعات الثقافية، وانشاء اكاديمية الفنون، ومتاحف مختلفة، وتنشيط التنقيب على الآثار، ونشر النصب والجداريات في المدينة، والغاء الرقابة على المطبوعات، ووضع حقوق الملكية الفكرية موضع التطبيق، وكل ما يمكن التفكير فيه كصناعة ثقيلة، تكون اساساً لاستراتيجية ثقافية تنهض بالوضع الثقافي. فالكويت لن تصبح عاصمة للثقافة العربية، بإقامة نشاطات ثقافية وفنية فقط، ولا يجب ان تكون التسمية مجاملة او ترضية بين الدول العربية. وكان افتتح يوم 23 تشرين الثاني نوفمبر الماضي معرض الكويت الدولي للكتاب، ومعرض هذا العام تميز بثلاثة امور نوعية، هي: ان المعرض تحول من معرض عربي الى دولي، ثانياً اصبحت له نشاطات ثقافية مصاحبة ضمن ما سمي "مقهى ثقافياً" وثالثاً تضاعف حجم الكتب الممنوعة والمصادرة. وبسبب المنع والمصادرة كرر البعض بيأس واحباط: "ان الثقافة في الكويت في ازمة حادة". والواقع ان الثقافة لا يمكن ان تكون مأزومة، بيد ان الازمة حتماً تواجه الفكر الرجعي الذي يحاول ايقاف التاريخ. الثقافة كقيمة لا تتأزم لانها متطورة، تسير الى امام بمنطق تاريخي، وقد تتعرض الى مصاعب او مشكلات او معوقات كثيرة اثناء مسيرتها، لكنها لا تتوقف ولا تموت، فهي صيرورة متصلة ومشروع مفتوح على المستقبل. هناك ازمة فكرية تتمثل بثنائيات ومتقابلات تقليدية بين الفكر والواقع، والفكر الرجعي ملتبس العلاقة مع الواقع، يصارع من اجل بقائه الذي لن يستمر في واقع التقدم البشري. الصراع بين القديم والجديد يعكس ازمة، لكنها ليست ازمة الجديد، هي ازمة القديم وصدمته بالواقع المتطور، وصراعه من اجل البقاء، لكن هل يعني كل ذلك ازمة الثقافة ام ازمة الثقافة الرجعية وقيمها؟ حتى الحكومة او السلطة التنفيذية، تواجه ازمة وتناقضاً يتمثلان في رغبتها بالتنمية والتقدم والتآلف مع العالم واللحاق بالتغيرات المتسارعة من ناحية، وبين الرغبة في المحافظة والابقاء على الاساليب والادوات القديمة في السياسات والمعالجة من ناحية اخرى. ولا شك ان انحياز السلطة للدعوات الفكرية الرجعية سيطيل من مظاهر الازمة، كما ان انحيازها لمتطلبات الواقع سيسهم في تعجيل التقدم الثقافي وازدياد حدة ازمة الفكر الرجعي، ويساعد في تغير مفهوم الثنائيات المتقابلة او المتضادة الى مفهوم الثنائيات المتجاورة، كالتراث والتحديث مثلاً. وعندما الغت بعض دول الخليج والدول العربية الرقابة على الكتب، كانت تدرك انها تكسب بذلك المستقبل، حيث لا مكان للمعزول والمتقوقع، ولا مكان لصدفة التطور، بل لا بد من فعل هادف وموجه للتغيير، ولا بد من مواجهة الواقع بشجاعة، خصوصاً ان مدينة الكويت ستعتبر عاصمة للثقافة العربية عام 2001 ولا خيار امام الكويت الا خيار الثقافة والانفتاح، فهما الحصان الرابح، وهما التأشيرة لدخول القرن الجديد. صحيح ان معرض الكويت الدولي للكتاب تعرض هذا العام الى هجمة شرسة من قبل المتشددين، وهو امر مؤسف، لكن هذا لا يعكس واقع الكويت الثقافي، بل يعكس مشهداً في هذا الواقع او لقطة استاتيكية في صيرورة الواقع. فالتشدد الرقابي على الكتب هو من مصاعب تواجه الثقافة الصاعدة، وهو تعبير عن ازمة الثقافة الرجعية، ومهما بلغ هذا التشدد من حدة فهو لن ينهي حالة التطور الثقافي في الكويت، وقد يكون المثل القائل: "اشتدي أزمة تنفرجي" مثالاً تبسيطياً لهذا الامر. * كاتب كويتي.