أثار كتاب محمد حسنين هيكل "سنوات الغليان" الاهتمام وقت نشره في أوساط العاملين والمهتمين بالحياة السياسية في العالم العربي، وذلك أولاً لأهمية موضوعه وعلاقته بتطور الوعي والعمل السياسي في بلادنا، وثانياً للأهمية التي اكتسبتها كتابات هيكل بصورة عامة والراجعة في اعتقادي الى قربه من مصادر المعلومات ومراكز السلطة، وكذلك الى توثيقه الجيد لما يكتبه ولجدية المصادر التي يرجع اليها عادة ولأسلوبه المتميز في الكتابة. ولعل موقف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ونظامه من حكومة ثورة 14 تموز 1958 ومن اليسار العراقي الشيوعيين والأحزاب والجماعات اليسارية والديموقراطية غير الشيوعية، وبالتالي من اليسار العربي والوطنيين العرب المعادين للسيطرة الاستعمارية من دون أن يؤمنوا بزعامة عبدالناصر وبكونها بالضرورة السبيل الوحيد لتحرر العالم العربي وتقدمه... هو من الأهمية بحيث يجب عدم التغاضي عن بحثه وأخذ العبرة من نتائجه السلبية على حركة التحرر العربي وعلى تضامن البلاد العربية في ما بينها وضد أعدائها. وبدلاً من التهرب من المواجهة ومن بحث هذا الأمر بحثاً موضوعياً علمياً تفادياً للإحراج، أو كما جاء في تعليق عبدالعظيم أنيس في حينه حول الكتاب نفسه "منعاً لنكء الجروح"، اعتقد بأن دراسة ذلك الموقف وتحليل أسبابه وملابساته ونتائجه بصراحة وأمانة، بعد مرور سنوات كثيرة عليه، ستكون مشاركة قيمة من أجل التفاهم والتعاون والتواصل بين القوى الوطنية في البلاد العربية، من قوميين ويساريين ووطنيين آخرين. وذلك يتطلب في الوقت نفسه من المعنيين بهذا الأمر الابتعاد عن كيل الاتهامات بالخيانة أو الشعوبية وما اليها أو التنصل من المسؤولية في وقت نحن في أشد الحاجة فيه الى التقارب والتعاون من أجل الوفاء باستحقاقات نهوض الأمة العربية اليوم وغداً، وما أعظمها. ولا بد أن يلاحظ المتتبع لما ينشر أو يذاع في وسائل الإعلام العربية، وفي مصر خصوصاً، عن ثورة 14 تموز يوليو 1958 ونظام الحكم الجمهوري الذي نجم عنها في العراق والذي استمر حتى انقلاب 8 شباط فبراير 1963، ان تلك الثورة ونظامها يوصفان بالاجرام و"الشعوبية" وكأن حكماً لا رجعة فيه قد صدر بذلك من قبل أنظمة الحكم العربية ووسائل إعلامها على اختلاف اتجاهاتها وسياساتها. فقد اتفق في ذلك على ما يبدو نظام الرئيس عبدالناصر المعادي للاستعمار وأنظمة عربية أخرى لم يعرف عنها العداء له. كذلك كان النظام الشاهنشاهي السابق في ايران من دعاة القضاء على ذلك النظام على رغم اتهامه بالشعوبية! كما أن الرئيس الأميركي ايزنهاور "كان مهتماً بالقضاء على نظام ثورة يوليو العراقي وبمساندة جهود عبدالناصر في اسقاطه" كما جاء في كتاب هيكل "سنوات الغليان". وبهذا الخصوص نجد ان أكثر ما جاء في الباب الرابع من الكتاب تحت عنوان "مدافع حروب باردة: قاسم وانقسام"، وفي بعض الصفحات التي سبقته أو في الباب السادس "على سفوح البركان: شلال يتدفق على الصخور"، يمكن وصفه بمبالغات ورؤية من جانب واحد من باب الاكتفاء ب"لا تقربوا الصلاة" وحذف "وأنتم سكارى"! وذلك للأسف عرض يفتقر الى الجدية والأمانة اللتين ينتظرهما القراء من كاتب مرموق... إذ يبدو الأمر لمن عايشوا واطلعوا على تفاصيل ذلك النزاع مجموعة من الاختلاقات وأنصاف الحقائق اختارها وجمعها هيكل وقدمها كعرض لتأريخ مفترض لذلك النزاع ثم قام، كما يقول عادة، ب"قراءة" ذلك "التأريخ" الذي اختار وقائعه بنفسه وعلى طريقته الخاصة. ومن الغريب أيضاً ان عرض هيكل لتطور العلاقات بين الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العراقية ولموازين القوى السياسية في العراق آنئذ يتسم بالسطحية وبنقص المعلومات وذلك خلافاً لما عودنا عليه، مما يدعو الى الشك في إخفائه للمعلومات التي لا تخدم غرضه السياسي. إذ أن ما عرضه من معلومات تُشم منها رائحة دوائر الاستخبارات المصرية النشطة في هذا الميدان آنذاك، مع اضافة آراء وادعاءات الحركات العراقية المعادية للحكم والمتعاونة لاسقاطه، وهي حركات ضمت القوميين من أنصار الجمهورية العربية المتحدة والبعثيين وأنصار أميركا وبريطانيا وهي قطعاً لا تمثل أكثرية الشعب العراقي الذي تعمد هيكل اهمال توثيق آراء ورغبات أكثريته، عرباً وأكراداً، وأحزاباً وحركات سياسية. ولا شك في أن المعلومات التي تبثها دوائر المخابرات ووسائل الإعلام الحكومية انما ترمي الى تبرير التدخل المباشر في شؤون البلاد العربية الشقيقة، والمتحررة منها خصوصاً! وهو ما يصفه هيكل نفسه في كتابه، ولكن بعد خراب البصرة للأسف، بأنه من الأخطاء الرئيسية التي عانى منها النظام الناصري. ليس القصد من هذا التعليق مراجعة ومناقشة تفاصيل نصوص الكتاب حول ثورة تموز يوليو والنظام الذي نجم عنها في العراق، وان كانت تلك النصوص تحتوي على أمثلة كثيرة لاخفاء الوقائع وأنصاف الحقائق، بل القصد هو الدعوة الى توثيق الأحداث وتحديد مسؤولية كل طرف عن اخماد روح الثقة والتعاون بين بلاد عربية شقيقة كانت قد تخلصت من السيطرة الأجنبية وبدأت في بناء مشروعها الوطني وتحقيق أحلامها في الحرية والتقدم. لقد مر أكثر من ثلاثين سنة على ثورة تموز 1958 في العراق ونحن اليوم على أبواب قرن جديد، فهل يمكن أن يقوم المؤرخون والباحثون العرب والمهتمون بمتابعة وتسجيل تطور الأحداث السياسية والاجتماعية في البلاد العربية بدراسة تاريخية موضوعية ومحايدة لمجريات الأحداث وتطورها في بلادنا في النصف الثاني من هذا القرن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى إبرام السلام بين مصر واسرائيل في كامب ديفيد العام 1979 مثلاً أم يستمر سيل المعلومات المشوشة واخفاء حقائق تاريخنا الحديث عن الأمة أو تشويهها ثم عرضها في سوق النشر على أنها الحقيقة بعينها من قِبَل أصحاب المصلحة السياسية أو الايديولوجية أو المادية في التمويه على الشعوب؟ ان اختيارنا لكتاب "سنوات الغليان" والتذكير بما احتواه من معلومات خاطئة وناقصة ومشوشة انما هو بسبب أهمية كاتبه علىالمستويين العربي والدولي ولما يتمتع به من احترام في الأوساط العربية بالمقارنة مع الكثيرين ممن فقدوا المصداقية لافتقارهم الى الأمانة والموضوعية. والحقيقة ان سوق الإعلام والنشر في البلاد العربية، باستثناء بعض البحوث العلمية والموضوعية، مليئة بما يبعث على الحزن والاحباط من كتابات ومعلومات مؤسسة على التلفيق والتضليل، بعضها للأسف الشديد من وضع كتّاب كانوا يعدّون يوماً، ولا زالوا كما يدّعون، من سياسيي ومفكري وفلاسفة هذه الأمة الذين يرشدونها الى بناء مستقبل أفضل لأجيالها القادمة! ان هذا الركام من المعلومات المضللة يستدعي جهداً كبيراً طويل الأمد من المؤسسات العربية والمفكرين والكتاب العرب لتحقيقه وتوثيق المعالم والأحداث الرئيسية في تاريخنا الحديث، على أقل تقدير، حسب قواعد البحث العلمي المتبعة في مؤسسات العالم المعروفة باستقلالها وحريتها في البحث والدراسة. وليس هناك بعد في البلاد العربية ما يكفي من الصحف والمجلات والمطبوعات الأخرى المعترف لها بالموضوعية والأمانة لتقوم بالتصدي لمراجعة وتحقيق ما ينشر ويذاع في بلادنا وإيضاح ما فيه من نقص أو تلفيق، وذلك لرفع الغشاوة عن عيون القراء والمشاهدين الذين يستغل النقص في اطلاعهم وتتبعهم للأحداث والتطورات في بلادهم وفي العالم في محاولات لئيمة لحشو أفكارهم بالمعلومات المغلوطة والمبالغات والأكاذيب المتعمدة. ليت في الامكان مثلاً أن تقوم الجامعات العربية بمثل هذه الدراسات والبحوث المهمة. ولكن جامعاتنا، مع احترامنا الكبير لدورها الحيوي الجليل في تعليم مئات الألوف من الجامعيين العرب، تحجم عادة عن الخوض في القضايا الحساسة التي تهم المواطنين خشية مس الخطوط الحمراء التي ترسمها السلطة وأصحاب النفوذ ولهامش الحرية الضيق لبحث مواضيع معينة. وذلك أمر يدعو للأسى، إذ في البلاد التي تعتبر البحوث الموضوعية الجادة مصدراً رئيسياً للمعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات، تلعب الجامعات ومعاهد الدراسات دوراً مهماً في ذلك لما تتمتع به من حرية واستقلالية في اختيار البحوث التي تجريها والمصادر التي ترجع اليها وطريقة اجرائها من دون خطوط حمراء تضعها السلطة أو محاولتها تدجين الجامعات ودفعها الى القيام بتزييف الحقائق لمصلحتها تحت عناوين "بحوث" و"دراسات" لا مصداقية لها كما يجري في الكثير من البلاد العربية للأسف الشديد. ولا شك في أن غالبية المثقفين العرب يعيشون هذه الأجواء القاتمة مرغمين، ولكن المطلوب هو تغييرها للأفضل صيانة لكرامة الفكر العربي. ان التحدي الذي يواجه الجامعات العربية اليوم هو انتزاع استقلالها وحريتها في البحث والتفكير من بين ركام الممنوعات والأباطيل لتلعب دوراً مؤثراً في الكشف عن الحقائق التي تُخفَى عن شعوبنا في مختلف مجالات الحياة. وحسب ما نعلم فإن السرية ترفع عن الوثائق الرسمية في الدول المتقدمة بعد مرور عشرين عاماً على أحداثها، فهل نأمل أن ترفع بالمثل عما هو موجود من وثائق في الدول العربية بحيث يسمح للباحثين العرب وغيرهم بدراستها وتحليلها ونشرها؟ أم ننتظر أن يتفضل علينا الباحثون الأجانب مشكورين بالكشف عن تفاصيل وقائع تاريخنا؟ وقد يظن البعض أن ليس لدى الدول العربية من وثائق ومصادر ما يستحق عناء البحث والدراسة لما قد تتعرض له من تزييف أو إتلاف أو إخفاء. وإذا صح ذلك أو بعضه فهو أمر مؤلم ومخجل في الوقت نفسه، مما يستدعي مراجعة الآليات والوسائل والضوابط المتبعة في تجميع وتنظيم وحفظ الوثائق الوطنية الرسمية منها وغير الرسمية، وأن يعهد بذلك الى مؤسسة وطنية تتمتع بالشخصية المستقلة قانوناً لحمايتها من تدخل السلطة في أعمالها، كما تتوافر لها الوسائل التقنية والكوادر الفنية اللازمة للقيام بواجباتها. إن الهدف مما تقدم هو توثيق الحقائق ووضعها في متناول المواطنين واستخلاص العبرة منها والرجوع اليها في العمل من أجل مستقبل أفضل لشعوبنا العربية. * طبيب عراقي وموظف دولي سابق، جنيف.