بين الثقافة والتعريف بالهويّة مشكلة دائمة. فالأولى تنحو نحو التوسّع والمزج والخلط والتركيب بين عناصر عدة، فيما الثاني يقوم على الحصر والفرز والنقاء. والمشكلة هذه زادتها الحداثة تعقيداً لأنها، من جهة، ضاعفت مستويات الوجود الانساني وزادت درجة التشابُك بينها، ولأنها، من جهة اخرى، اطلقت الوعي الايديولوجي الذي يُصرّ على التعريف والتحديد. فما أن تفسّخت الايديولوجيات الكبرى، حتى اكتسح الانتماء والهويات مساحاتٍ جديدة، إن لم يكن دائماً في الواقع فبالتأكيد في الحقل المعرفي والفكري. لكن التعقيد، في طوري صعود الحداثة ومأزقها، لا يخفي الطابع المُفارق الناجم عن ثنائية الثقافة والتعريف بالهوية. اذ بينما تتداخل العناصر والمواد في الأدوات المادية البسيطة كالكراسي والطاولات، يُراد للثقافة أن تكون ذات تعريف حاسم ومؤصّل! والحال ان الفرد المعاصر يعيش في مستوياتٍ لم تكن عديدة ومُتراكبة كما هي اليوم. فهو يعيش في مستواه الأهلي المباشر، في عائلة وقرية أو مدينة وحي. وهو يعيش، كذلك، في مستوى الطبقة الاجتماعية، وفي مستوى الوطن والدولة، وفي مستوى البيئة الاقليمية والجغرافية التي ينتسب اليها، كما في مستوى النطاق الثقافي الذي يندرج فيه، فضلاً عن مستوى ثقافته الروحية المتوارثة التي يلعب الدين فيها دوراً أساسياً. وهذه المستويات جميعاً تقع بين حدّين، او مستويين، يبقى الكلام على أية ثقافةٍ من دونهما ضرباً من التيه: مستوى الفرد نفسه بتجاربه الشخصية، الواقعي منها والحلمي والهَوَسي، ومستوى العالم الذي ينتمي اليه كل فرد فينا. والحال ان كلاً من هذه المستويات يترافق مع ثقافة خاصة به، او لنقل: مع ثقافة فرعية تلازم الهوية الجزئية المعنيّة بالأمر. فالتجربة الفردية تمنح صاحبها الوعاء الذي يضع فيه الحالات والمعارف التي تعرض له. وتبعاً للواعي واللاواعي في هذه التجربة، يتلوّن فهمه للعالم المحيط وأشيائه. والمستوى الأهلي المباشر الذي يرتبط بسويّة اولى من سويّات الذاكرة، غالبا ما يكون وثيق الاتصال بتشكيل لغوي ما، كما بمنظومة من الحكايات والأغاني والألحان والترجيعات، وربما القصائد والقناعات أيضاً. والشيء نفسه يمكن قوله عن المستوى الوطني الذي يتعادل مع وجود الدولة، علماً بأن المستوى هذا يفوق باقي المستويات تأثيراً في تشكّل الفرد الحديث. فالثقافة، عبر وسيط الدولة، تصير واقعاً مادياً يتجسّد في المدرسة والجامعة، وفي نظام للتربية والتعليم، وفي سوق عمل تتصل بحاجات ومهارات وكفاءات معينة. وقد تعاظمت اهمية هذا المستوى في العقود الاخيرة مع اتجاه الدول الى التوطّد، ومن ثم الى تعزيز معطيات ورموز مشتركة بين ابنائها، كما مع اتجاهها الملازم الى الخضوع لانتاج ثقافي تنتجه نخبة بعينها، ويستهلكه مستهلكون تحدّهم سوق معينة. ولهذا، وبفعل مركزية الدولة في التنظيم الاجتماعي، فان المستوى الوطني هذا هو وحده الذي يجد مقابله السياسي المباشر. وغني عن القول إن المستوى المذكور انما يستقي الكثير من معطيات المستوى الأهلي ورموزه في المنطقة او الجماعة او الاثنية، لكنه يعيد تصنيعها، فيجلوها سلعاً قابلة للتعميم عن طريق الراديو والتلفزيون والكتاب المدرسي والفولكلور الوطني وغير ذلك. وهذا اذا بدا بعض وسائله جديداً، فان طريقه قديم اذ هو طريق نشأة الأمة - الدولة منذ بواكيرها. وقد سبق أن أقنعنا بنديكت أندرسون في كتابه "مجموعات مُتَخَيّلة" بأن عاملين حكما تطور الوعي الوطني في دولة تلو اخرى ابان عهد الاصلاح الأوروبي: التجارة والوحدة اللغوية بعد كسر الوحدة اللاتينية الاكبر التي لم تكن محكيّةً شعبياً. فحين حاول الناشرون ان يوسّعوا اسواقهم بما يتعدى الاعداد الصغرى للنُخب الناطقة باللاتينية، زادوا نشرهم باللغات المحكيّة، وفي حالة المانيا لعب صدور اطروحات لوثر بالالمانية المحكية، دوراً في اطلاق وتنشيط الوجهة هذه. وبهذا اوجد الناشرون جماعات ذات لغة واحدة تتحدث وتكتب باللغة نفسها. هذه المجموعات التي باتت الجماعات الاخرى الواقعة خارجها لا تفهم عليها، تقاربت لتشكل الامم - الدول الحديثة التي نعرف في اوروبا اليوم. ومن ناحية أخرى، وعلى رغم التداخُلات التي ألمّت بمعاني "الطبقة الاجتماعية" مؤخراً، يبقى من المستحيل التغافُل عنها كمحدد، ولو في الحد الادنى السِلكي والمهني. فهذه بدورها، وبعيداً عن المبالغات الماركسية، تؤسس في اصحابها عدداً من المشاعر والتصوّرات، ووعياً سِلكياً قد يغدو نقابياً، وربما دفعت الاحزاب الراديكالية الى تسييس هذا الوعي الذي يتغذّى، بدوره، بكمٍّ من الفنون والانتاجات الأدبية والابداعية. اما المستويات الاخرى التي تمتد بين الوطن والعالم، فهي حاضرةٌ على نحو يصعب التشكيك فيه: فالكويتي، مثلاً، خليجي وعربي ومسلم في آن، يجمعه بكل من الخليجي والعربي والمسلم عدد من المشتركات الثقافية، إما في الدين او اللغة او الأدب او الفولكلور. وكل واحد من هذه التعريفات يُكسبه، ويُكسب هويته، بُعداً اضافياً يساهم في تفتّحه الفردي والوطني. والشيء نفسه يصحّ في الفرنسي الذي هو مسيحي وكاثوليكي وأوروبي، يضمر هذا البُعد في هويته او يقوى ذاك، في هذه الحقبة او تلك، الا ان هويته تتسع للأبعاد المذكورة جميعاً. اما العالمية التي غدت اكثر حضوراً في ثقافة ايٍ من الشعوب، لغاتٍ وأدباً وتقنياتٍ وموسيقى وأخلاقاً مدنيةً، فميزتها انها المستوى الاكثر معيارية بين المستويات الاخرى المحددة للثقافة، ومن ثم لرقي الهويّة. فما دام ان هذه العالمية انسانية المحتوى، انسانية الانتاج، ولو حصلت عمليات انتاجها في مواضع وطنية كثيرة، فإن كل زيادة في جرعتها العالمية هو توكيد على مدى ثقافيتها. والمستويات هذه تتقاطع في احيان عدة، وفي احيان اخرى تتعايش فتتكامل، بدل ان تتضارب. إذ يُفترض، مبدئياً على الأقل، ان لا تظهر مشكلة في كون الكويتي ابن عائلة ومحلّة ومدينة وطبقة اجتماعية ووطن ومنطقة اقليمية ونطاق ثقافي وعالم، في وقت واحد. فاذا ما تضاربت تلك المستويات كنا أمام واحد من خللين، او امامهما معاً: الخلل الأول، هو اساءة موْضَعَة المستويات بحيث يُطالَب أحدها بتلبية ما لا يلبّيه الا مستوى آخر، كأن يُطالَب المستوى العربي، او الاسلامي، بانتاج ثقافة مدرسية للكويتيين، او ان يُطالَب المستوى الكويتي باشباع التطلّب الكويتي لمعرفة الثقافة الاسلامية او العربية. وفي مثل هذه الحال ينشأ سجال ايديولوجي ضارٍ سبق ان عهده تاريخنا السياسي والعقائدي، ذو طابع استبدالي: هل نحن عرب ام مسلمون، مثلاً؟ لكن القيمة المعرفية لهذا السجال لا يُعتدّ بها كثيراً، لأنه يقوم على المقارنة بين مستويين مختلفين، تماماً كالخيار الزائف في الغالب، والراديكالي في دعواه التنويرية، بين الدين والعلم. أما الخلل الثاني فيجسّده ميلٌ استبدادي، او توتاليتاري، الى دمج المستويات جميعاً في مستوى واحد. وهنا تندرج المطالبة ب"التعريف" الصارم والشامل للهوية. فحين يُعتبر المرء ابن عائلة فحسب، او ابن بلدة، او مدينة، او وطن، او دين، في معزل عن اي بُعد آخر، فذلك ما يسيء الى المرء هذا ويقلّصه ويقلّص هويّته، على الضد من عمل الثقافة التي تُغني الفرد والهوية معاً. وغالباً ما يحدث مثل هذا التقليص تحت وطأة تعصّب أهلي او ايديولوجي أملاه ظرف سياسي محتقن وعابر. ففي فترة الصراع مع الكولونيالية مثلاً، طغت الدعوة الى اختزال جميع الأبعاد في البعد العربي. وفي فترة عمّ فيها اليأس من أن يردّ القوميون على الهزائم والتحديات النازلة بالعرب، بعد طول تعرّض للكبت السياسي والتعبيري، طغت دعوة مماثلة الى اختزال الأبعاد في البُعد الاسلامي. بيد ان هذا الدمج كثيراً ما يؤول الى التجمّد عند بقعة في المكان او لحظة في التاريخ. فالانتماء الاوحد الى رقعة جغرافية دون سواها، يضع في الهامش كلَ شيء آخر لا يتصل بهذه الرقعة وتاريخها، او يستعديه. والشيء نفسه يصحّ في الوطنية المعزولة عن الأبعاد الأخرى، والتي لن تلبث ان تصير ضيقاً وعزلة وانكماشاً شوفينياً، او في العروبة من دون أبعادٍ بحيث تلغي ما قبلها في التاريخ، وما يتعداها في الجغرافيا، او في الاسلامية البديل عما عداها، والتي ينطبق عليها ما ينطبق على العروبة كانتماء وحيد. وحتى المستويان الأقل قابلية للشك والمساءلة، أي كون الفرد فرداً وكونه ينتمي الى انسانية جامعة، يتحولان في حال المبالغة فيهما الى نزعة غير اجتماعية. ذاك ان الفردية المطلقة، وهو ما قد تلائم مبدعاً بعينه، لا بل قد تكون مطلوبة فيه، لا يمكن ان تكون الاساس الذي تنهض عليه ثقافة اجتماعية او ذات دلالات اجتماعية. أما الاقتصار على مستوى انساني جامع يتجاوز محطاته الوطنية الوسيطة، فهو ايضاً، وبالتأكيد، مصدر إغناء بالكثير من الابداعات، لكنه ليس مصدر تأسيس لوعي متوازن بالعالم. وقد لا نبالغ اذ نقول إن العرب والمسلمين هم، مبدئياً، بين اكثر شعوب الأرض تأهيلاً للعمل بهذا التراكُب في التعاطي مع الهوية والتعريف. فالثقافة الاسلامية التي دارت حول كتاب، ولم تشُبْها شبهة العنصرية التي شابت زميلتها الأوروبية المسيحية، هي ثقافة تعددية لناحية الاسهام الأقوامي والقاري فيها. وكون العرب هم الذين قدّموا اللغة لهذا المركّب الثقافي الاسلامي الضخم، يعني شيئين اساسيين: اولهما قابلية العرب لأن يكونوا جزءاً من كلّ اكبر متناغم، وثانيهما شعورهم بأنهم، عن طريق هذه اللغة، قادرون على لعب دور مركزي في نطاق ثقافي يتعدّاهم جغرافياً. واسمحوا لي ان اضرب مثلاً بكتاب "ألف ليلة وليلة"، علّه يقنعنا باستحالة التعريف الصارم والآحادي في حقول الهويات والثقافة، بقدر ما يُقنعنا بتعايُش المستويات جميعاً. فبحسب استقصاء الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس أنه "في القرن الخامس عشر، تم في مدينة الاسكندرية، مدينة الاسكندر ذي القرنين، جمع سلسلة من الحكايات. وكان الظن ان تلك الحكايات ليست اسكندرية المصدر. فقد رويت اولا في الهند، ثم في بلاد فارس، وبعدها في آسيا الصغرى. واخيرا تم تدوينها بالعربية وجمعها في القاهرة. ذلك هو كتاب "الف ليلة وليلة"". ومع تقارب الثقافات وتزايُد عمليات التثاقُف قام المستشرق الفرنسي انطوان غالان، في 1704، بوضع الترجمة الاوروبية الاولى لجزئه الاول، فجاءت في ستة مجلدات. وفيما كان "الشرق"، عن طريق الرومنسية الطاغية في "الغرب" يومها، يتسلل الى اعمال شعراء اوروبيين كبار، كاللورد بايرون الانكليزي وفيكتور هوغو الفرنسي، تولى لاين وبورتون وضع الترجمتين الاشهر للكتاب الى الانكليزية، بحيث بات "ألف ليلة وليلة" يلاقي "من الاحتفاء في الغرب اكثر مما يلقى في الشرق"، بعدما راح بعض الغربيين يتبيّنون فيه "اصداء من الغرب" ك "مغامرات عوليس". ويستخلص بورخيس ان "ان اصل هذا الكتاب غير معروف. وربما كان اشبه بتلك الكاتدرائيات المسماة خطأً بالقوطية، وهي من صنع اجيال كثيرة. غير ان بين هذه المباني وذاك الكتاب اختلافا اساسياً، هو ان مُنشئي الكاتدرائيات كانوا على معرفة تامة بما يفعلونه. وعلى العكس جاء ظهور "ألف ليلة وليلة" ظهوراً مُلغزاً. فهو من وضع آلاف المؤلّفين، لكن لم يخطر ببال احد منهم انه كان يساهم في انشاء كتاب سيتحقق له كل هذا القدر من الشهرة، حتى اصبح من اشهر الكتب في كل الآداب". ومن دون ان ابدو هنا متسرّعاً في الدعوة الى العالمية هويةً وثقافةً، يمكن ان نؤشّر فقط على اتجاهات تعزز هذا المجرى تعزيزها الرهان عليه. فاذا كان الاشتراك عن طريق اللغات والأسفار والموسيقى ووسائط الاتصال، يجعل كل فرد فينا اقدر على الاطلال على المجتمعات والثقافات الاخرى، وعلى اسهاماتها، فان بناء مجتمعات تعددية الثقافة يوفّر، للمرة الاولى، لكثيرين من "غير الاصلاء" ان يشاركوا في الهوية "الاصيلة" للبلد المقصود. وعلى العموم، لوحظ ان الجماعات الأفريقية والآسيوية والاميركية الوسطى، غدت تُدخل الكثير من عاداتها وموسيقاها ومطبخها وردود فعلها وبعض كلمات لغاتها الاصلية في ثقافة المتروبولات الغربية، فيما تتعلم اجيالُها الشابّة لغة هذه المتروبولات وطرائقها في الحياة والتعليم وصلتها بالقانون. وأكثر فأكثر يتبيّن اليوم كم أن رموزاً ثقافية كبرى، كشكسبير مثلاً، غدت ملكاً للانسانية وتعريفها لذاتها، بقدر ما هي ملك للانكليز وشعورهم بذاتهم. والى ذلك، أفضى تزاوج الآداب الكلاسيكية والآداب الشعبية، والتزاوج الآخر، القديم نسبياً بدوره، بين الكتابات المحلية والمدارس والأساليب الأدبية الغربية، الى توسيع مساحات التقاطع بين اجناس الكتابة وجنسياتها. وهذا كله فيما تعمل ثورات الاعلام والاتصالات، المرفقة بضعف قبضة الرقابات، على توفير لحمةٍ لهذه الاندماجات المهولة بين عناصر عدة ومتباينة. كذلك اتاح تطور العلوم الاجتماعية نفسها درجةً ابعد من التسامح مع الثقافات والحضارات المختلفة. ففي موازاة اعادة الاعتبار ل"البدائي" التي تلت الحرب العالمية الثانية وانكشاف الكارثة التي ترتّبت على المركزية القصوى للحضارة الاوروبية، عاد فنانون معاصرون، ليس بيكاسو وجياكوميتّي غير اثنين منهم، الى فنون "البدائيين" نحتاً ورسماً. ويكفي، مثلاً لا حصراً، ان نعود الى كتاب ""البدائية" في فن القرن العشرين"، وهو كاتالوغ من جزءين في 700 صفحة، يضم اكثر من الف رسمة و19 مقالة وضعها بعض كبار اكاديميي الفن، لنلمس حجم ذاك اللقاح والثمار التي نجمت عنه. فقد تراجع التقليد العريض في الفلسفة الغربية، الذي سماه ريتشارد رورتي "محور أفلاطون - كانط"، وهو التقليد الذي ساجل دفاعاً عن معايير كونية لا تتغير، صالحة لكل الأزمنة والأمكنة. وأصيبت، تالياً، التصنيفات المتزمّتة للحداثة بضربات أدّت الى توسيع الحيّزات المتاحة لحضور الثقافات والحضارات "الأخرى"، اي تلك التي لا تقع في نطاق المركزية الأوروبية الحصرية. وعلى هذا النحو تعاظمت، في زمننا، القدرة على تأريخ الأفكار خارج الامتثال الى خط آحادي ينطلق من اليونان القديمة ويجد تتويجه في اوروبا. فمن الاعتراف باسهامات الصينيين والهنود والمسلمين والافارقة، الى الطعن ب"أوروبية" اليونان القديمة، بات في الوسع تعزيز فكرة التشارُك المتعدد الأقوام في بناء الحضارة الحديثة. فحتى حين تنحصر هذه الحضارة، في طور معين، في رقعة جغرافية ما، فهذا لا يلغي أن رُقعاًً أخرى ساهمت، في حقب سابقة، في جعلها تصل الى اللحظة التي هي فيها الآن. إن الفرصة التي يتيحها زمننا الراهن الذي يصفه البعض بتعايش العولمة مع الولاءات الصغرى، تتمثّل، مبدئياً، في ارساء التعددية بين الهويات الكثيرة على اسس أصلب، ومن ثم الخروج منها بتركيب أشد تجانساً. والحال أن شرط هذه الفرصة هو ان يكون المستوى الوطني قوياً بمؤسساته، لا سيما منه مؤسسة الدولة. وهنا، ومنعاً لسوء الفهم، فان الدولة المقصودة ليست السلطة القمعية، بل جماع الوظائف الخَدَمية والايديولوجية التي يمثّل التعليم، في المجال الذي نحن بصدده، طليعتها. فالدولة، بعد كل حساب، هي التي تستطيع، في حال تماسُكها، ان تدير هذه اللعبة التعددية. وهي وحدها المؤهّلة ان تديرها ادارةَ الوسيط الذي يصل بين الهويات الاصغر منها، التي تتزايد يقظتها على نفسها، كالمحلة والمدينة والجماعة والاثنية، وبين الهويات الاكبر منها كالفضاءات الجغرافية والدينية واللغوية، فضلاً عن التواصل مع العالم والاندراج فيه. وربما، بهذا المعنى، كان التناقض الابرز والتحدي الابرز اللذان يواجهاننا راهناً، كيفيةَ تنظيم هذه التعددية في ظل ما يعتور جهاز الدولة حالياً من ضعف تُنزله بها احدى مترتّبات العولمة. ولأن "خط التاريخ" ليس مرسوماً سلفاً، ولا معروفاً، يُخشى ان يؤدي التعدد هذا حين لا يترافق مع جهاز دولة متماسكة، ومع ثقافة متسامحة، الى نتائج خطيرة تضع الهويات جميعاً في مهبّ النزاعات والحروب الأهلية، او في عهدة استبداد يحاول قسر الهويات الكثيرة في هوية قمعية واحدة. فالهجوم الذي يهبّ الآن برأسين، رأس "يميني" في الاقتصاد يتخذ شكل الدفوق المالية والاستثمارية الكبرى من دون اية قدرة على الرقابة، ورأس "يساري" يقوم على النسبيات المطلقة في الثقافة والدراسات الثقافية، انما يتقدم بخطى سريعة من "المركز" الأوروبي - الأميركي الى "الأطراف". والأخيرة لا بد أن تجد نفسها، عاجلاً أم آجلاً، منخرطة في هذا الصراع الذي يترك عليها من الآثار ما يفوق الآثار التي يمكن ان تظهر في "المركز". وهذا التفاوت في التأثير، وهنا المفارقة، وليد الحقيقة القائلة إن البلدان المتقدمة انتجت مؤسسات راسخة في رأسها مؤسسة الدولة، الشيء الذي لم ننجح في امتحانه، حتى الآن، الا على نحو محدود. * كاتب ومعلّق لبناني. النص اعلاه كلمة تليت في ندوة مهرجان القرين بالكويت.