مثل الحيز المكاني الذي يحيا ويعمل فيه جامعو القمامة جزءاً معزولاً يحيط بمدينة القاهرة في خمسة احياء شعبية: المقطم، طرة، عزبة النخل، المعتمدية، البراجيل. وفي هذه المناطق، يتواصل جامعو القمامة مع اصولهم الريفية بتمسكهم بحرفة تربية الحيوانات. وهم يحافظون على تنظيمهم الاجتماعي والروابط العائلية بجوانبها التضامنية والصراعية. وعقد المهاجرون الاوائل مع الواحية الذين قدموا من الواحات اتفاقاً ليتولوا مسؤولية جمع ونقل قمامة المنازل. وكان الواحيون يقومون بجمع نفايات الورق من منازل سكان القاهرة، حيث كان هناك منفذ تسويقي لهذه النفايات الورقية لاستخدامها في الحمامات العامة وفي صناعة تدميس الفول التقليدية. وكان الاتفاق على ان يستمر جامعو القمامة الزبالون في توريد النفايات الورقية الى الواحية، مع الاحتفاظ ببقايا الطعام والمخلفات الاخرى لفائدتهم الشخصية. وادرك هؤلاء الفائدة المحققة من استخدام بقايا الطعام في تربية الحيوانات وفي تسويق النفايات المعدنية والبلاستيكية التي بدأت في الظهور في قمامة المنازل في الخمسينات، حتى انهم لم يطلقوا عليها كلمة "زبالة" بل كلمة "منافع". وحتى عام 1990 استخدم جامعو القمامة العربة "الكارو" التي تجرها الحمير لجمع القمامة من المناطق السكنية لمدينة القاهرة. ومنذ نحو عام 1990 بدأ التحول نحو استخدام عربات النقل الصغيرة. وهكذا، فلقد تولوا مسؤولية تطوير الخبرة الفنية الخاصة بنظام ادارة المخلفات الصلبة في المدينة. 1 - ماذا تعني "المعرفة الابجدية"/ محو الامية؟ نقوم بتعريف المعرفة الابجدية بأنها مهارة التعامل مع وتطويع الكلمة المكتوبة. وهكذا فلقد ركزت الخطط القومية للتنمية جهودها الرئيسية على "محو الامية" كما لو كانت هذه الامية مرضاً خطيراً. وبينما لا يستطيع احد ان يناقض ان تقدم الامم يعتمد بدرجة كبيرة على فئاتها المتعلمة ذات المعرفة الابجدية، فإنه حان الوقت لفحص ماذا يعنيه هذا التعريف بشكل نقدي. تعرفت على حي جامعي القمامة ومجتمع الزبالىن في شهر تشرين الاول اكتوبر من عام 1982 وذلك اثر نداء لتعليم اطفال صغار محو الامية في كنيسة القديس سمعان الخراز في جبل المقطم. وفي ذلك الوقت كان تعداد الحي يقرب من 15000 نسمة، ولم تكن هناك مدارس. كانت فرصة تعليم القراءة والكتابة في فصلين لمحو الامية: واحد يتبع الراهبات الهنديات التابعات للام تيريزا والآخر في الكنيسة الارثوذكسية المشار اليها. كانت هذه بداية رحلتي الى عالم التعليم في بيئة مهمشة حكم عليها العالم على انها بيئة فقيرة لا تمتلك اي شيء، بل بالعكس ينقصها كل شيء وتحتاج الى خبرة المتعلمين والمثقفين من خارج الحي. وسلكت مثلما يسلك الجميع في مثل تلك المواقف: فرجعت الى خبرتي السابقة في التعليم الثانوي والجامعي في كاليفورنيا وحاولت تطبيق المفاهيم واساليب التعليم التي كنت قد اكتسبتها وطبّقتها ونجحت فيها. ولكن سرعان ما اتضح لي ان كل النظريات التي نعمل بها لا تنطبق على الوضع الذي وجدت نفسي فيه في حي الزبالين في المقطم. فبداية، لم يكن المنهج الدراسي في الكتاب الرسمي الذي حاولت ان استخدمه اي شيء لأطفال في سن السادسة الى العاشرة، اعتادوا ان يخرجوا مع آبائهم منذ سن الرابعة في مهمة جمع القمامة من منازل سكان القاهرة، وذلك في ساعات الفجر من كل يوم، والرجوع الى منازلهم في الساعة العاشرة للعب في شوارع مكتظة بالقمامة والقاذورات والذباب والحيوانات والعربات "الكارو" والمخلفات الآدمية في غياب مراحيض او شبكة صرف صحي. فكان لا بد ان أعكس نظرتي الى ما هو "مهم" للتعلم لأنتقي المواضيع والكلمات والنشاطات التي قد يهتم بها الطفل في بيئة كهذه. وبعد تجارب فاشلة توصلنا، نحن فريق المتطوعين في تلك التجربة، الى اختيار بدا منطقياً الى اقصى درجة، وهو البداية باللعب والحكي والرحلات الترفيهية خارج الحي. من هنا صمم البرنامج التعليمي على الفن القصصي الديني لكن باستخدام اللوحة الوبرية وبرنامج لعب منظم في مكان مرتفع من الجبل خالٍ من القاذورات والروائح الكريهة ورحلات منتظمة الى حديقة الحيوانات والحدائق العامة والاهرامات والشواطئ المختلفة في مصر قناة السويس، البحر الابيض…. ثم بدأت مرحلة التعليم في مجال الصحة حيث اننا ادركنا اهمية تعليم الاطفال مبادئ حماية انفسهم من اهوال المعيشة اليومية في تلك الظروف. وكان اكبر معين في ذلك برنامج "من طفل الى طفل" لانه قام في المقام الاول على التعلّم من خلال اللعب والتمثيليات والاغاني ومسرح العرائس، اي كل ما هو مبهج للطفل وبعيد عن الكلمة المكتوبة المقروءة. وكانت النتيجة انه عندما بدأنا بتعليم القراءة والكتابة بعد الاتجاه في النشاطات التربوية الاخرى لاحظنا ان تحصيل واستيعاب الاطفال اكثر بكثير مما كان عندما بدأنا بالكتاب وبالقلم والكراسة. وبسبب ذلك انفتح لنا باب، بل كنز لم نكن ندركه في بداية هذه التجربة، وهو الثراء والغنى الكامنان في هؤلاء الاطفال "المهمشين"، من قدرات وتعبير وتحريك من خلال التمثيل، اللعب، الاغاني والقصص. وتأكدنا من ذلك بالنسبة الى الحي بأكمله حيث ان برنامجنا كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالمنزل. وكنا نتابع غياب كل طفلة بزيارة الى منزلها لنتعرف على الاسباب التي ادت الى ذلك الغياب. فانفتح علينا باب جهنم ثانية وباب الكنز في نفس الوقت. فمع اننا كنا نمشي في شوارع الحي ونختبر يومياً بشاعة البيئة التي يعيش فيها الناس، الا ان دخولنا الى بيوت الناس جعلنا ندرك المشاكل اليومية التي تعيش فيها اسرة جامع القمامة من مرض وحوادث دخول الى السجن ووفاة مبكرة وزواج مكروه وثأر بين الأسر والافراد وضيق مالي، وغيرها من الأهوال اليومية التي يعيشها هؤلاء الناس. وكان السؤال الاول الذي يراوغنا دائماً هو: كيف لم ينعكس ذلك على الاطفال في المدرسة؟ كيف يستطيع الطفل ان يعيش في جو عائلي ومجتمعي مهددٍ يومياً بالكوارث وفي جو مهنة تحكم عليه بالاستيقاظ في الفجر لاصطحاب الاب في شوارع القاهرة وهي مكتظة بالسيارات والرجوع والتعرض للسبّ من اصحاب السيارات يوجهونه الى الزبالين اصحاب العربات "الكارو"، ومع كل ذلك لم نرَ طفلاً محطماً، بائساً، منهاراً، منطوياً، معقّداً …الخ. بل بالعكس كنا نحظى كل سنة بمجموعة من الاطفال عندما ترفع صوتها للغناء نشعر ان سقف المدرسة سوف ينهار، مجموعة عندها حب للحياة والتعلّم، ومحبة للناس والآخرين وابتسامة وفرحة تجعلنا نتساءل: وكيف لنا نحن ان نتذمر من اي شيء في الحياة؟ نحن الذين نعيش في بيوت نظيفة وشوارع واحياء مرتبة نجد المياه الباردة والساخنة بوفرة في حنفياتنا، اكرمنا الله بالتعلّم والمعرفة… كيف نجرؤ ان نشكو من اي ظروف واية صعوبات؟ هل كنا في زمن مضى مثل هؤلاء وفقدنا تلك الكنوز التي وجدناها في نفوس هؤلاء الناس، بسبب اننا تعلّمنا واكتسبنا مهارات ساعدتنا على شغل وظائف وكسب عمل؟ هل كنا مثل هؤلاء عندما كنا "مصريين" مثلهم ولكن تحولنا الى ناس ليست لهم هذه القوة عندما فقدنا هويتنا المصرية الاصيلة؟ كيف يستطيع هؤلاء المهمشون ان يكونوا بهذا الدفء. وهذه المحبة وهذه القناعة وهذا الكرم وهم يعيشون دراما آدمية كل يوم من حياتهم؟ ما الذي يعطيهم هذا الامل وهذه القوة؟ وكنا نناقش ونبحث كثيراً عن مصدر هذا الكنز الآدمي في الناس فوجدنا ان الكرم الذي يدعوهم لأن يفتحوا لنا قلوبهم وبيوتهم كرم مصري وشرقي اصيل. ألم نره في مجتمعات فقيرة ريفية في صعيد مصر؟ في قرى فلسطين؟ في جبال لبنان؟ في كل العالم العربي؟ كذلك الايمان العميق الذي يدعوهم لأن يشكروا الله ويحمدوه على كل حال ومن اجل كل حال وفي كل حال. وفي وسط المصائب والاهوال التي كانوا يعيشونها لم تفارق افواههم كلمة "الحمد لله"! فكيف تحول ذلك الكنز الممثل في الايمان بالله والتدين في مصر الى تطرّف وتعصّب وعنف؟ 2 - التعلم المجتمعي من خلال الصحة الاولية شكلت الفترة الاولى من تجربة تعليم محو الامية القاعدة الاساسية التي نتج عنها كل المفاهيم التي بنيت عليها تجربة مشروع التعلم من خلال الرعاية الصحية الاولية، ومشروع التعلم من خلال اعادة تدوير القماش. فكان مشروع الصحة استجابة لحاجات ملحة للسكان في الحي من حيث تعلّم وقاية انفسهم واسرهم من مخاطر العيش والعمل في وسط اكوام القمامة، وتواصل معهم من حيث تقديم المعارف والمعلومات وتنفيذ النشاطات في مجال الصحة داخل البيوت وليس في المستوصف او العيادة. وهذا كان متمشياً مع توصيات مؤتمر Alma Ata الذي عقدته منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف وغيرهما في عام 1978 فاعترف الجميع بعدم فاعلية العلاج من خلال المؤسسات العلاجية الرسمية في تغيير صورة المرض في العالم، حيث ان خصوصية المرض وظروف المريض جعلتنا نضع استراتيجية صحية تتمركز حول البيت وليس حول العيادة او المستشفى او المستوصف. وكان هذا بعينه ما زعمنا اننا نفعله في مشروع التعليم غير الرسمي في مجال اعادة تدوير القماش باستخدام النول المصري الفرعوني الاصيل، فكما ان الصحة لا تعلّم في المستشفيات فكذلك كل العلوم الاخرى لا تعلم في المدارس. ليس فقط لأن المدرسة لا تؤدي مهمتها بكفاءة ولكن لان المدرسة لا يمكن ان تصل الى مئات الملايين من الاطفال الذين يعيشون في بيئة فقر وفي بيئة مهمشة لا يمكن ان توفر للطفل ظروف الالتحاق بالمدرسة، وايضاً لان الطفل لا يتعلم في المدرسة فقط كما اظهرت لنا التجربة في المقطم، وكذلك لان ما يتعلمه الطفل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يحدث في المنزل وما تتعلمه الاسرة كلها. واخيراً لأن التعليم المدرسي الرسمي وكأنه هو الذي يفقدنا هويتنا المصرية والشرقية، فلماذا نريد ان نستمر في تجربة رسمية اكدت فعلها في حين ان الذين لم يلتحقوا بالمدارس الرسمية استطاعوا ان يحافظوا على عوامل تراث اصيل افتقدناه في الانسان المصري "شبه المتعلّم". 3 - التعليم الاساسي المجتمعي واعادة تدوير القماش في عام 1988 بدأت جمعية اهلية في تنفيذ مشروع ريادي في مجال التعليم المجتمعي خارج نطاق المدرسة فأقامت مركز اعادة تصنيع فضلات القماش الكهنة في المقطم، واتخذ قرار واع منذ بداية التجربة بربط عملية التعليم الاساسي بالبيئة الطبيعية والاجتماعية والثقافية المحيطة. كانت البيئة المحيطة هي اكوام القمامة، بيئة غير نظيفة من صنع مخلفات الانسان. حيث ساد الصراع من اجل البقاء بالانتفاع من فرز المخلفات اقصى ما يمكن الحصول عليه لتشغيله واعادة تصنيعه ثم تسويقه. وفي اطار هذا الصراع تعرض الاهالي لظروف اجتماعية تعج بمخاطر جسيمة لا مثيل لها. ومهانة انسانية تفوق كل خيال. وقد حولتهم هذه البيئة الاجتماعية المشوهة الى واحدة من الجماعات الاكثر تهميشاً في المجتمع، لما حرمتهم من حقوقهم الانسانية الاساسية في التعليم والرعاية الصحية والمشاركة في العمل العام. ولكنها ايضاً صنعت منهم اشخاصاً اكثر جلداً، يمتلكون العديد من الخبرات واكثر تصميماً على البقاء، وفي نفس الوقت ملأتهم باحساس عميق بالظلم والقهر اكثر من اي فئة اجتماعية هامشية في مصر. اما البيئة الثقافية فتعتمد بالاساس على التقاليد الموروثة في مجالات الانتاج والحفاظ على البيئة واسترجاع العناصر الاولية في البيئة وذلك تمشياً مع المثل الشعبي المصري الريفي: "اللي يطلع من الارض لازم يرجع للارض" واستخدام المواد المحلية. ولقد استخدمت كل هذه الحقائق لتساعد على تصميم برنامج للتعليم الاساسي يتمركز حول جمع ونقل واستعادة واعادة تدوير وتسويق مخلّفات من صنع الانسان. واعتمد تصميم هذه التجربة على المبادئ التالية: اولاً: ان المقرر الدراسي ينبني على جوهر نشاط وحياة هؤلاء الاهالي: الا وهو فرز القمامة. وهكذا فان البيئة الطبيعية المكونة من فضلات القماش النظيفة سوف ترتقي حتماً بالبيئة التعليمية الى مستويات الابداع الثقافي والجمالي: الا وهي صناعات يدوية باستخدام شرائط من القطن المصري ذي السمعة العالمية تقوم بها فئة اجتماعية فريدة - جامعو القمامة في القاهرة - بنفس الايدي التي عانت طويلاً من مهانة فرز اكوام القاذورات العفنة يومياً على مدار العام. ثانياً: مكون الثقافة الصحية هو أحد المكونات البالغة الاهمية داخل مركز اعادة تصنيع مخلفات الاقمشة . ثالثاً: تم استخدام النشاطات الفنية والمسرحية داخل هذا الفصل التعليمي غير الرسمي لنشر الثقافة الصحية. ولقد تم تصنيع العرائس من فضلات القماش، وتم تأليف واخراج المسرحيات الدرامية والاجتماعية، بالاضافة الى تأليف الاغاني والاشعار التي تتناول القضايا الصحية. رابعاً: اتجهت سياسة الالتحاق ب"المدرسة" في مركز اعادة تدوير القماش نحو الفئات غير المتعلمة - اي التي لم تتلق اي شكل من اشكال التعليم الرسمي والتي تعاني من الفقر - ولهذا فقد اعطيت الاولوية للاطفال الذين يعملون في خطوط جمع القمامة. وتم انتشالهم من حال القهر الى بيئة جديدة تتيح لهم التعلم وكسب العيش في كرامة. وأطلق بعض الضيوف - من الغرب - من الذين لهم نظرة نابعة من مؤسسات التعليم الرسمي - على هذه الحال التعبير "عمالة الاطفال"! خامساً: تم تصميم التجربة على نقل عملية التعليم الى داخل المنزل، ضماناً لتأثير المدرسة على الدارسين من خلال ازالة جدران المدرسة/ المركز وتوسيع مفهوم مكان التعليم ليشمل المنزل والمجتمع المحلي بأكمله. وهكذا استمر المتدربون في العمل في المنزل، والرجوع الى المدرسة لأخذ "الواجبات المدرسية" او أمر التشغيل، لصنع السجاد والشنط والمراييل والمفارش وغيرها، ثم يعودون مرة اخرى "لتصحيح الواجبات" او بمعنى أدق، لمراقبة جودة الانتاج. سادساً: ادمجت قضايا العدالة والمساواة داخل هذا التصميم من خلال اتاحة فرص تعليمية متساوية للجميع، وبينما لا يحصل المتدربون المتفوقون - اي المنتجون الاكثر تميزاً - على مزيد من العمل، يتم توزيع الاجور - اي الدرجات الدراسية - حسب الاستحقاق. وهكذا يتم تأكيد مبدأ التفوق وليس مبدأ المنافسة. سابعاً: استخدمت التجربة التعليمية النول كوسيلة تكنولوجية مصرية قديمة ولم يتم استبدالها بتكنولوجيا حديثة مستوردة. وكانت القاعدة لدينا هي تطبيق النماذج الثقافية للانتاج القائم على التعاون والعمل الجماعي بدلاً من المنافسة، وهكذا فان المنتجين الذين لم يكن لديهم مكان داخل المنزل لوضع النول، اتيح لهم استخدام النول الموجود لدى الاقارب او الاصدقاء بشرط موافقة الاهل على ذلك. ثامناً: راعينا الانماط الثقافية السائدة الخاصة بالقيود على حركة النساء وهكذا، فان المدرسة - اي الجمعية الاهلية المشرفة على البرنامج - قامت بتوفير سيارة نقل لجمع فضلات الاقمشة من مصانع النسيج الكبيرة الى المركز التدريبي الذي يقع في حي جامعي القمامة، ولا يسمح عادة للرجال بالدخول الى المركز التدريبي المدرسة وذلك لبث الاطمئنان في نفوس الازواج والآباء على وجود زوجاتهم وبناتهم في بيئة اجتماعية "آمنة". تاسعاً: قامت التجربة على اتاحة الفرصة وتشجيع الزائرين للقدوم الى المركز التدريبي. ونتج عن ذلك زيادة التقدير للمنتجين ومنتجاتهم. وبالتالي تطور وعي جديد بالذات واحساس مفعم بالكرامة، وادراك جديد للذات، بالاضافة الى زيادة الدخل. 4 - هي قضية ثقافية وتعليمية وسياسية قومية تُظهر هذه المبادرة لجامعي القمامة في مدينة القاهرة كيف ان جماعة صغيرة تعاني من الحرمان تمسكت بتقليد ثقافي قومي يهتم بالحفاظ على البيئة، بينما لم يتم تقديرهم او فهمهم بواسطة صانعي السياسي القومية، بل اعتبروا انهم يمتلكون معارف متخلفة اجتماعياً وتكنولوجياً وغير ملائمة. مع ان هذه المعرفة المحلية لها جذورها في الثقافة الشعبية، وقد تم تناقلها من خلال الممارسة عبر الاجيال وكونت اطاراً لعمليات تعلّم غير رسمية تتسم بالديناميكية العالية. وهذا التعلّم شمل مجالات البيئة - ادارة المخلفات الصلبة، التكنولوجيا - صناعات اعادة تدوير المخلفات، محو الامية، ادارة الاعمال، الصحة - الرعاية الصحية الاولية داخل المجتمع المحلي، تنظيم المجتمع المحلي - الجمعيات الاهلية، نقل التكنولوجيا - من خلال شبكات من الجمعيات الاهلية. وانه لمن المثير للقلق ان نرى السياسة الرسمية في مجال ادارة المخلفات الصلبة تغامر في اتجاهات لا تعي العمق التاريخي والثقافي لممارسات جامعي القمامة المصريين، بالاضافة الى القيمة العملية والتكنولوجية لهذه الممارسات من وجهة نظر بيئية، ناهيك عن اسهامها الهائل في تعليم مجتمعات بأكملها على المستوى المحلي. وفيما يبدو فان النسق المعرفي المسيطر على اساليب التعامل مع القضايا البيئية المتعلقة بالمخلفات الصلبة يميل الى تحييد المعرفة الشعبية والتجريبية للمجتمعات المحلية، لمصلحة التكنولوجيات المستوردة القائمة على حرق المخلفات من اجل توليد الطاقة، طرق التخلص بالدفن، وغير ذلك. سواء في البيئات الحضرية كالقاهرة، او الريفية كالصعيد، فان "الدارسين" هم الفقراء المهمشون، وهم يحاولون - بقدر محدود من الموارد وببعض المساعدة من شركاء من خارج مجتمعهم المحلي - ان يحدثوا قدراً من التغيير في وضعهم وواقعهم من حال الاهمال والعوز الى حال الديناميكية والانتاجية ويستلهمون مداخل تقليدية في التعامل مع بيئتهم الثقافية، بينما عديد من القضايا التي تواجههم تتعلق بالبيئة الطبيعية المحيطة. لكن الملح والبارز في الخطط القومية الحالية لتنمية هذه المجتمعات انه لا توجد انظمة او حلول مقترحة تتصل بالتقاليد المحلية المتوارثة في كيفية صنع الحياة او فهم تلك الاصول والتقاليد. وانما على النقيض تهبط المبادرات الجاهزة "من اعلى" لتتعامل مع قضايا التنمية المحلية من دون ان تحاول اشراك السكان المحليين. واحياناً يبدو ان هذه الصياغات الرسمية منبثقة من تعاملات من الخارج مع ثقافاتهم سواء من حكومات او مصالح تجارية للقطاع الخاص او بمحاكاة كل ما هو عصري او غربي. وهذا الاتجاه السائد يعجز عن فهم وتقدير الخبرة الشعبية القائمة على الممارسة المحلية، ويحرم السكان المحليين فرصتهم لتعلّم اساليب جديدة ولخلق وابداع واقع جديد ينبني على انماط الحياة الاصيلة ويبنى عليها. الى اين؟ التغيير في المجتمع: من خلال المدرسة؟ من خلال القاعدة الشعبية؟ هل يتلاقى الاثنان؟ في اي نقطة وكيف؟ والسؤال الذي يطرح نفسه على العاملين في مجال التنمية والتعليم في مصر هو: كيف نستطيع ان نصل الى 60 في المئة من الاناث و54 في المئة من الذكور الاميين في تجربة تعلّم، خارج نطاق التعليم الرسمي، فهم قد تسربوا منه. هل هذا يعني انه ليس هناك مجال على الاطلاق للتعليم؟ اين هو؟ ما مضمونه؟ من هم القائمون عليه؟ كيف يتم تصميمه وتنفيذه، هل له ادوات قياس؟ ما هي مقوماته وهل يؤدي الى تحول اجتماعي؟ وقد تعمدنا ان يشمل بحثنا تطبيق هذه المفاهيم في اطار مجتمعات ريفية مع فلاحين وفلاحات في صعيد مصر، واسفر عن ذلك اختلاف المداخل التي بدأنا بها في بعض الاحيان طبقاً لاختلاف طبيعة المجتمع المحلي، ولكن، هناك بعض الخطوط العريضة التي لم تتغير الا وهي: 1 - احترام المعارف الاصيلة للفرد المصري وان كان أمّياً، حيث انها انعكاس لممارسات توارثها الشعب ولم يتعلمها في كتب، بل هي مستمدة من سياق حضاري وتاريخ مرتبط ارتباطاً جذرياً بأرض مصر ونيلها. 2 - تصميم الخبرات التعليمية في اطار المجتمع، داخل المنزل، في الشارع، في المقهى، في الجامع، في الكنيسة، في اي مكان يحضر فيه بشكل طبيعي. 3 - ابتكار اساليب تعليم مجتمعية تستخدم قدرات الناس الطبيعية مثل الفن الشعبي القصصي، الموسيقى، المسرح، الاراجوز. 4 - ايجاد نقطة التلاقي بين المعارف الشعبية الاصيلة والمعارف "الرسمية" والعلوم المكتسبة من التعليم الرسمي لتحقيق التنمية والتعليم الحقيقيين. * اكاديمية مصرية - من "مؤسسة تنمية المجتمع والتطوير المؤسسي".