في تلهف أرادت نسيان صورة الريف وحياته المتعبة في الحقول. من قطف المحصول الى اطعام الحيوانات وسقيها. متى تنتهي تلك المعاناة من الصباح حتى المساء، جسد يعرق بعد جهد في سبيل لقمة العيش، ويدان تزدادان الى خشونة، وملابس بالية، هل هذا هو قدري؟ اصابها الضجر والضيق من تلك العيشة. دائماً يحدوها الشوق الى سماع اخبار المدينة، شوارعها، محلاتها وبضائعها. وتحدث نفسها متى يكون اللقاء ويكون الخلاص من هذا الهم. الأفكار تعصف برأسها بين حين وآخر: متى امتع ناظري بجو المدينة الساحر الذي يبعث على حياة مليئة بالصخب؟ والحركة امنية تراودها، فهل تتحقق؟ في احد الأيام اختفت عن الأنظار ولم تعد الى منزلها. لقد اتخذت قرارها بهجرة ذلك الريف الذي يعج بالبعوض والذباب. انه الحلم الذي عشش في عقلها منذ مدة طويلة فسعت الى تحقيقه وضربت بكافة قوانين الريف وقيوده تريد التحرر من واقعة الصارم الذي جعلها مكبلة بقيمه وعاداته. وطأت قدمها لأول مرة المدينة بعد عناء وتعب. ترسل بصرها في كل اتجاه ومن دون تركيز تنعكس على صفحة خدها أنوار المحلات في جانبي الشارع، وهي تخطو بشكل يدعو للريبة بين سرعة وبطء، وهي على هذه الحال تسأل نفسها اين سيحل بها المقام؟ توقفت امام احد المتاجر وراحت تمعن النظر في داخله وعلى الملابس النسائية المعروضة، ولفت انتباه صاحب المحل توقفها الطويل امام المحل ومظهرها الخارجي. خرج اليها وقام بنهرها وطلب منها الابتعاد عن المحل، الا انها تسمرت مكانها وراحت تصف له حالها وتتوسل اليه في طلب المساعدة، فتاة منقطعة لا تعرف أحداً في تلك المدينة الواسعة. حاول مرة تلو المرة، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، وانهمرت دموعها وانخرطت في البكاء، فرق قلب صاحب المحل لها، وقال لها انتظريني حتى اغلق المحل ونذهب معاً الى منزلي، وفي الطريق شرحت له حكايتها فزاد عطفاً ورحمة نحوها، وفي المنزل قابلت والدته التي كانت تقيم معه وعندما عرض حال تلك الفتاة ترك أثراً بالغاً على امه فأصرت على ابنها ان يقدم المساعدة، بل أصرت على استضافتها في المنزل من باب وجه الخير. ودارت الأيام وتغير واقع الفتاة فلم تعد ابنة الريف بل اصبحت ذات مظهر انثوي جذاب متأثر بايقاع المدينة وحركتها التي لا تهدأ، وتمكنت من عملها داخل المحل وصارت جديرة به. وذات يوم وهي قافلة الى مكان اقامتها بعد انتهاء عملها حدث ما لم يكن في الحسبان. تعرضت الى اختطاف بأيدي مجموعة من الشبان. حاولت التخلص بكل ما أوتيت من قوة، ولكن من دون فائدة. ذهب صراخها مع الريح. انطلقت السيارة بسرعة وتخطت العديد من الشوارع. لقد وقعت فريسة في ايد لا تعرف معنى الحياة متجردة من الانسانية همها الوحيد العيش على اجساد البشر، لا يحكمها قانون أو عرف او قيم. ذهب توسلها عبثاً ولم تجد من يصغي لها، حاولت الهرب ولكن من دون جدوى. نظر اليها احد الشبان سائلاً: أيعجبك هذا المكان؟ فردت بشيء من الغيظ: أين انا، لماذا أتيت الى هنا؟ فقال انه مكان جميل سوف يعجبك كثيراً ولكن هدئي من روعك. - أرجو منكم ان تتركوني أعود الى منزلي. فرد عليها قائلاً: هذا هو منزلك ومقامك سوف تشعرين بالراحة التامة لا تخافي. - ان شرفي يساوي حياتي كلها. خير لي ان أموت على ان تدنس ابنة الريف. - ماذا قلت؟ ابنة الريف؟ اذا كنت كذلك فما الذي دعاك الى القدوم الى المدينة؟ - انه اكبر خطأ ارتكبته في حياتي وأنا الآن ادفع الثمن، لم اعرف ان هذا هو واقع المدينة التي طالما رسمت في مخيلتي عنها احلاماً تبددت مع ما شاهدت وسمعت. عندما قدمت شعرت مع الوقت انني افقد انثويتي. صرت جسداً يلمع من الخارج. محط الانطار اينما ذهبت. تنهشه النظرة الشهوانية. ولكن داخله فارغ اين حشمته؟ أين الريف؟ المرأة هنا مبتذلة تعرض جسدها في كل وقت في دور الأزياء على شاشة التلفزيون على أغلفة المجلات اصبحت تجارة رخيصة. من فضلك دعني أعود. شعرت باليأس من محاولتها فأصابتها حالة من الهياج فقدت فيها السيطرة على نفسها. اندفعت الى الطاولة التي بجانبها وفتحت احد ادراجها فوجدت سكيناً غرستها في قلبها، وخرت صريعة، وراح الدم ينزف من جسدها معلناً الرحيل. السعودية - عبدالله سليمان الطليان