هي المرحلة التي راحت فيها حكومة تركيا الجمهورية الجديدة، تصعد من معركتها ضد كل ما هو تراثي مرتبط بالماضي، لمصلحة حداثة كان مصطفى كمال، رئيس تلك الدولة، يعتقد انها سوف تجعل من بلده، دولة اوروبية معاصرة. وهكذا، خلال اسبوع واحد فقط في نهاية العام 1925 تسارعت القرارات آخذة الناس على حين غرة. وراحت الحكومة تمهد بخطوات رمزية وصغيرة، لخطوات اكبر واكثر جذرية. ففي ذلك الاسبوع الذي امتد بين 25 تشرين الثاني نوفمبر 1925 واليوم الاخير من الشهر نفسه، صدرت ثلاثة قرارات "رمزية" ملفتة، اثار كل منها ضجة ما بعدها ضجة. كان القرار الاول يتعلق بمنع اعتمار الطربوش وبإبداله بالقبعة "الافرنجية" والثاني يتعلق برصد اعتماد مالي كبير لمدرسة حديثة للحقوق. اما الثالث، وكان الاخطر، فكان قرار اغلاق الاخوانيات الصوفية. فاذا عرفنا ان تركيا منذ مئات السنين الارض الخصبة التي تنمو فيها وتترعرع تلك الاخوانيات التي تضم ملايين الاعضاء وان الاخوانيات كانت - بشكل او بآخر - تتحكم في سياسة الدولة عن طريق نفوذها على المشايخ، ونفوذ هؤلاء على السلاطين وكبار السياسيين، يمكننا ان نفهم المخاطرة التي جازف بها الحكم الجديد. لكنها كانت ضربة لا بد منها، من اجل ارساء معالم العلمانية والنهوض بدولة قوية "لا مكان فيها لغير القانون" حسب تعبير المسؤولين الاتراك في ذلك الحين. قانون حل الاخوانيات واغلاقها صدر في الثلاثين من تشرين الثاني وبدأ تطبيقه فوراً. واذا كان ذلك القانون يتبدى منطقياً ضمن توجهات الحكم التركي الجديد في ذلك الحين، فان المؤرخين سيقولون ان ما حتم وسهّل اتخاذه كان على اية حال ثورة الطريقة النقشبندية بقيادة الشيخ سعيد. بمعنى ان ذلك الشيخ الذي اعلن تمرده خلال النصف الاول من ذلك العام 1925، وفر للحكم التركي الجديد الذريعة التي كان يتمنى الحصول عليها لكي يوجه ضربته، اي لكي يتخلص "نهائياً" من تلك المؤسسات التي كان يرى انها تتناقض في ممارساتها وتطلعاتها مع ما لديه وبالتالي كان يراها شديدة الخطورة عليه، نظراً لتجذرها عميقاً في وجدان الشعب التركي في ذلك الحين. فمن المعروف ان الطرق الصوفية في تركيا كانت مؤسسة متعددة الاوجه والتيارات يجمع بينها نفوذها الكبير في اوساط الشعب، وكونها احتكرت لنفسها الحسّ الديني الذي كان من الصعب له، في ذلك الحين، ان يمر ان لم يكن عبر مرشحها الخاص. من هنا كانت التكايا والزوايا، التي كان السلاطين ينفقون عليها بسخاء، منابر شعبية حقيقية، تمارس فيها شعائر تنسب الى الدين - وتتناقض مع تعاليمه البسيطة الواضحة في اغلب الاحيان - لكنها في نهاية الامر، ذات ابعاد سياسية. وكانت الاخوانيات تعد بالعشرات، وزواياها ومراكزها بالالوف. وكان لكل زاوية شيخ، يقود الشعائر والممارسات. لكنه - في الوقت نفسه - يصنع الاحجبة والطلاسم، ويزعم شفاء المرضى وفعل العجائب. وكان ملايين الناس يصدقون ذلك فيدفعون الاموال مقابل البركة والشفاء والوعود الطويلة الاجل بالخير العميم. وهكذا بأموال الناس وبأموال السلطة، صارت الاخوانيات اشبه باحزاب سياسية ومؤسسات مالية، ومنابر نفوذ في الوقت نفسه، ما اتاح لزعمائها - في نهاية الامر - ان يتدخلوا في شؤون الدولة ويتلاعبوا في السياسة، ويفوق نفوذ بعضهم نفوذ الوزراء - وفي هذا السياق يمكن ايراد مثل الشيخ ابو الهدى الصيادي الحلبي الذي كان ذا نفوذ هائل على السلطان عبدالحميد، شبّه بنفوذ راسبوتين على القيصر الروسي. وكان مصطفى كمال قد بدأ هجومه على الاخوانيات والطرق والفرق منذ شهر آب اغسطس السابق، حين كان في زيارة الى منطقة "كاستامانو" حيث خطب قائلاً، وثورة الشيخ سعيد النقشبندي لا تزال في ذهنه: "ان هدف اصلاحاتنا الحالية المستقبلية، هو الغاء ضروب الايمان الخاوية التي تصدئ العقول … الا اعلموا ان ليس ثمة مكان في هذه الجمهورية التركية لهذا النوع من المشايخ والدواوين ومن شابههم. فنحن لا يمكننا ان ننهل قوتنا وقدراتنا الا من العلم والتكنولوجيا. اما هدف هذه الطرق والفرق يكمن في تبليه الناس. ان الاخوانية الطريقة الوحيدة التي تستحق الاحترام في رأينا، هي اخوانية الحضارة". والحقيقة ان ضربة الحكم التركي الاخوانيات كانت موجعة، وافقدتها الكثير من قوتها، غير انه لم يتمكن ابداً من القضاء عليها، ولكن هذه حكاية اخرى. الصورة: دراويش يرقصون داخل احدى الزوايا.