مثَّل التصوُّف في العصر العثماني حقيقةَ الإسلام الكُبرَى، بصفته تعبيراً أسْمى عن مقام «الإحْسَان» في الإسلام، كما ورد في الحديث النَّبوي الشَّريف: «الْإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». وقد اشتُهر بالصُّوفية كثيرٌ من أئمة الإسلام وأعيان العلماء والسَّلاطين والملوك والوزراء والأمراء. فعُرِف من الصُّوفية من أهل العلم والفضل شيوخُ الإسلام: العزُّ بن عبدالسَّلام (ت 600ه)، وابن دقيق العيد (ت 702ه) وبدر الدِّين بن جَماعة (ت 733ه)، وزكريا الأنصاري (ت 926ه)، وابن حجر الهيتمي (ت 973ه)، وغيرهم. ومن الأئمة: بهاء الدِّين بن شدَّاد (ت 632ه)، شيخُ صلاح الدِّين الأيوبي الذي جعل داره خانقاه للصُّوفية من بعده، وابن الصَّلاح (ت 643ه)، وابن الحاجب (ت 646ه)، والحافظ المنذري (ت 656ه)، والفيروز آبادي (ت 817ه)، صاحب القاموس المحيط، وغيرهم. ومن مشايخ الأزهر الشريف: الشَّيخ الحِفْني الخلْوتي (ت 1181ه)، والشيخ عبدالله الشَّرقاوي (ت 1227ه)، والشيخ الباجوري (ت 1276ه)، والشيخ مصطفى العروسي (ت 1293ه)، والشيخ المهدي العباسي (ت 1315ه)، وغيرهم. ومن الملوك والسلاطين: النَّاصر صلاح الدِّين (ت 589ه)، والظَّاهر بيبرس (ت 676ه)، والظَّاهر برقوق (ت 801ه)، والأشرف قايتباي (ت 901ه)، وغيرهم. ومن المعلوم تاريخياً، أنَّ مصر انضوت تحت لواء الحكم العثماني لمدة تقارب ثلاثة قرون (1517- 1805م). فقد كان قدرُ مصر- منذ عهد الطُّولونيين (254- 292ه) وحتَّى عام 1952م- أن يتعاقب على حُكمها دائما أناسٌ- فيما عدا الفاطميين- من أصولٍ تُركية، أو تربَّوا على تقاليد الدَّولة التُّركية. وخلال تلك الحقبة الطَّويلة كان للعهد الذي دخلت فيه مصر تحت الحكم العثمانيِّ مكانة متميزة، إذ كان للثقافة التُّركية آثارُها التي تركتها في مصر، ولا تزال بعضُ مظاهرها ماثلة حتَّى اليوم. ضمن هذا السِّياق، يعدُّ التصوّف واحداً من أبرز السِّمات والقواسم المشتركة في تاريخ البلدين، فقد كانت مصر على الدَّوام محجّاً للعديد من المتصوّفة الأتراك الذين شدُّوا الرِّحال إليها، وتتلمذوا على يد شيوخها، وتأثَّروا بالتَّيارات الفكرية والرُّوحية السَّائدة فيها. ويكفي أن نذكر منهم، على سبيل المثال: أوحد الدِّين كَرْماني (ت 635ه) الذي استقر مدَّة من الزَّمان في مصر، وكان هو والشيخ الأكبر محيي الدِّين بن العربي (ت 638ه) يلتقيان ويزور أحدهما الآخر باستمرار. وكذلك الأمر بالنسبة لصدر الدين القُونَوي (607-673ه)، أَجَلُّ تلامذة الشيخ الأكبر، والذي كان بمثابة حلقة وصل في ما بينه وبين صاحب المثنوي، مولانا جلال الدِّين الرُّومي (ت 672ه). وأيضاً شيخ الإسلام شمس الدِّين محمَّد بن حمزة الفنَاري (751-834ه)، الذي تتلمذ على يد كلٍّ من: علاء الدِّين الأسود، شارح المُغْنِي في الأصول وشارح الوقاية، وجمال الدِّين أقصرائي (ت 776ه)، ثم رحل إلى الدِّيار المصرية وتوفِّي فيها عام 834ه. ومع أنَّ التصوّف في الأصل هو عبارة عن ظاهرة وجدانية فردية، إلا أنَّ تصوف العصر العثماني كان ظاهرة اجتماعية تتطوَّر مع الزَّمان وتتغيَّر باختلاف المكان، كغيرها من ظواهر الحياة الاجتماعية الأخرى. فقد اتَّسم العصر العثماني بانتشار الطرق الصوفية، وسيطرتها على مناحي الحياة الدِّينية والرُّوحية، السِّياسية والاجتماعية. وذلك بفضل أن العثمانيين لم يكتفوا فقط بتشجيع التصوُّف، وإنَّما انخرطوا فيه فعلياً، فشاركوا في بناء الأضرحة والمزارات والقباب، كما شاركوا في الموالِد والاحتفالات الصوفية. وليس أدل على ذلك من سيرة المؤسَّس الأول، السُّلطان عثمان الغازي (656-726ه)، الذي أحاط نفسه برجال «الطريقة الآخية»، وداوم على زيارة الشَّيخ المولى إده بالي (ت 726ه) الذي ارتحل إلى البلاد الشَّامية، وتفقَّه فيها على مشايخ الشَّام، وقرأ التَّفسير والحديث والأصول، ثم ارتحل إلى بلاده واتَّصل بخدمة السُّلطان، ونال عنده القبول التَّام، وبَنى في الدَّولة العثمانية زاوية كان ينْزل فيها السُّلطان عثمان الغازي، الذي بشَّره الشَّيخ بالسلطنة، وزوّجه من ابنته. أيضاً أولى العثمانيون عناية خاصة بتصوف الشَّيخ الأكبر محيي الدِّين بن العربي، فالسُّلطان محمَّد الفاتح كان من أتباع مدرسته، حيث اتَّخذ شيخَه آق شمس الدِّين (ت 863ه)، الفاتح الرُّوحي للقسطنطينية، مُستشاراً له. كما كلَّف ثلاثة علماء، على الأقل، بشرح كتُب صدر الدين القُونَوي؛ وهم: قطب الدِّين الإزنيقي والقرْمي والإلهي. ويتضمن شرح الأخير على «مفتاح الغيب» إشارات شتَّى تتعلَّق بالسُّلطان محمَّد الفاتح الذي احتفظ بنسخة من شرح الفصوص للجندي، تلميذ القُونَوي المباشر، في مكتبته الخاصة. وكان السُّلطان برهان الدِّين (ت 800ه-1398م) من قبلُ قد كتب شرحاً لمصنّفات صدر الدِّين القُونَوي بعنوان: «إكسير السَّعادات في أسرار العبادات»، وخاض نقاشاً في شأن بعض المسائل التي وردت في كتاب «مفتاح الغيب» للقُونَوي مع الشَّيخ علاء الدِّين يار علي شيرازي. وقد نتج عن ذلك التجاوب ما بين ممثلي التَّصوف من جهة، وممثلي السُّلطة العثمانية من جهة أخرى حركة فكرية ضخمة اتَّسمت بغلبة الرُّوح الصُّوفي، والمنزع الأخلاقي الدَّاعي إلى المجاهدة وتصفية النَّفس والتحلِّي بقيم التَّزكية الرُّوحية. ولا يجانبنا الصواب إذا قلنا: إنه قلَّما نُصادف نتاجاً فكرياً يعود إلى تلك الحقبة - على اتِّساع طولها الزَّمني وامتدادها الجعرافي - قد نجا من حُمَّى التَّصوف، إذ كان الشُّيوخ المتصدِّرون للتدريس والإفتاء يجمعون في العادة ما بين الشَّريعة والحقيقة، وكانت الزَّوايا الصُّوفية مدارس علمية مُشْبَعة بروح الحِكَم والآداب الصُّوفية. فقد ورث العثمانيون السلاجقة المسلمين في الأناضول، وقامت دولتهم على مبدأ الجهاد ورفع راية الإسلام والدفاع عنها في كل مكان. واعتماداً على ذلك المفهوم أو المبدأ، قام العثمانيون بالتوسُّع في نشر الإسلام في أوروبا، وإقامة وحدة إسلامية شملت أغلب الممالك الإسلامية، باستثناء الدولة الصفوية في إيران، ودولة المغول في الهند. وكان السلاجقة قد أوجدوا في شرق إيران حركة صوفية منظمة ومدارس للشريعة، وفرضت دولتهم نظامها الخاص على النشاطات الدِّينية بعد غزو بغداد، فأنشأوا «الربط» في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، التي أصبحت فيما بعد قواعد للحركة الصوفية، حيث عيَّن الخليفةُ الناصر الشيخَ عمر السهروردي شيخاً على الرِّباط للمرة الأولى عام 1234م، وبذلك تأسست الطريقة السهروردية في بغداد، وأصبح الرباط مركزاً لها، وأصبحت له فروع أخرى تضمُّ أتباع هذه الطريقة، وقد كان ذلك أول تنظيم مؤسساتي للطرق الصوفية. وبحسب خليل اينالجيك؛ فإنه يمكن فرز الطرق الدِّينية في الامبراطورية العثمانية إلى قسمين رئيسين: القسم الأول يتضمن الطرق المعروفة التي لها تكايا تدعمها مداخيل الأوقاف المؤسَّسة من قِبَل السلطان وكبار رجال الدولة، والتي لها تنظيم واضح وشعائر محدَّدة، كالنقشبندية والمولوية والخلوتية وفروعها المختلفة. القسم الثاني يضم الطرق الباطنية التي تُعرف عادة بإسم الملامية أو الملامتية، والتي كانت تتخندق بشكل ما في موقع المعارضة للدولة، وضمن هذا القسم يتموقع الدراويش المتجولون الذين عُرفوا بالقلندرية والحيدرية والأبدال والبابائية، وأتباع الطريقة الحمزوية. وبامتداد دور الصوفيين إلى وسط آسيا، استطاعوا نشر دعوتهم الروحية بين الأتراك، حيث تم تأسيس أول التكايا في أنطاليا. وبحلول القرن السادس عشر كانت الصوفية قد تحولت إلى عمود مهم من أعمدة المجتمع العثماني بحيث أصبحت تمثل التراث والامتداد المباشر للإسلام، الى درجة بات التصوف يشكل جزءاً أساسياً في التقاليد العثمانية، بما فيها اعتلاء العرش، والانخراط ضمن التشكيلات العسكرية. والواقع أن التيار الصوفي أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياة المسلمين الأتراك؛ خاصة بعد الغزو المغولي للبلاد الإسلامية في وسط آسيا وإيران عام 1220م. فبحلول القرن الثاني عشر عكست الثقافة الإسلامية في أنطاليا، التي نزح إليها الكثير من التجَّار والجنود والعلماء والفنانين والحرفيين والدراويش، فضلاً عن اليهود والمسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام، صورةً مثالية لأسلمة المجتمع وتنظيمه الديني والاجتماعي. وقد أسهم هذا التحول في إعطاء الدراويش دوراً جديداً معقَّداً، ومتناقضاً أحياناً، دام حتى نهاية الامبراطورية العثمانية، إذ كان سلاطين العثمانيين يعتمدون على دعم الدراويش عسكرياً في أثناء محاولاتهم بسط هيمنتهم وتوسيع سيطرتهم على أنطاليا. وهكذا تأسست فكرة رعاية التكايا وحمايتها تحت لواء السلطان شخصياً، وتبعاً لذلك ازدهرت الصوفية وتعدَّدت طرقُها تحت حكم العثمانيين حتى وصل عدد الطرق الصوفية إلى سبع وثلاثين طريقة، يتمركز حوالي عشرون منها في اسطنبول، وقد كان عدد سكانها في ذلك الوقت (1453م) حوالى ثلاثة أرباع المليون نسمة، وغالبية هؤلاء لهم علاقة بالتكايا، فهم: إما دراويش أو محبِّين لهم. كما ارتبط التصوف في تركيا ارتباطاً كبيراً بالشيخ أحمد اليسوي المتوفَّي سنة 562ه، مؤسِّس الطَّريقة اليسوية، وثالث خلفاء الشيخ خواجه قدِّس سرُّه. واليسوي لم يكن صوفياً عادياً مثل مئات الصوفيين في التاريخ التركي، بل عندما يُذكر أحمد اليسوي يُذكر اعتناق الشعب التركي للإسلام! فقد اكتسب اليسوي شهرة عظيمة وانتشاراً واسعاً، لأنه أسهم في نشر الإسلام وتوطيد أركانه وأحكامه بين جموع الأتراك، كما يعدُّ أول من أسَّس قواعد التصوف ورسَّخ أصوله بين ظهرانيهم، وظلت روح التصوف مبثوثة في حيواتهم الدينية والسلوكية على مدى أجيال متعاقبة. ولم يكن أحد قبل اليسوي تمكن من تأسيس قواعد للتصوف وآدابه التربوية والأخلاقية، ولكنه استطاع أن يؤسس أول طريقة صوفية تركية ذات طابع شعبي بين الأتراك، وتمكن من نشرها بين الناس وتقريبها إلى نفوسهم. يتحصل مما سبق أن المنحى العملي غلب على أتباع التصوف المصري والتركي منذ نشأته بهما. وليس أدل على ذلك مما يذكره الرحالة العثماني أوْليا جلبي في القسم الخاص بالرحلة إلى مصر والسودان وبلاد الحبش من قوله: «وفي القاهرة فقراء، أي دراويش، ألف وسبع عشرة طريقة، ولهم مئة وأربعون شيخاً كبيراً، وأما دراويش الثلاث مئة والستين تكية التابعة لمئة وأربعين شيخاً، فمنهم أتباع السيد أحمد البدوي الذين لا عدد لهم ولا حساب، ويكثر في مصر دراويش الطريقة الأحمدية البدوية، فدراويش الطريقة البرهانية وعددهم الحالي لا يعلمه إلا الله».