أقرأ بصورة دائمة، في الصحف العربية المحلية والمهاجرة، بيانات تصدرها منظمات طوعية سودانية، أو تنظيمات سياسية سودانية تنتمي إلى قبائل اليسار الجديد أو القديم، أو صادرة عن بعض الذين احتكروا الحديث باسم التجمع الوطني الديموقراطي، وأجدها كلها تهاجم بضراوة "الجبهة الإسلامية الحاكمة في السودان". أناقش أيضاً بعض المحسوبين على المثقفين السودانيين وأسمع منهم صورة مشابهة في الوصف والنعوت لما أقرأه في الصحف. حالة التمترس هذه، والتدثر بعالم نعيش داخله ونلوثه في كثير من الأحيان بأيدينا، من دون رؤية متعمقة لتطور الأحداث ومجريات الأمور خارج أسوارنا، ومن دون التفاعل الحي مع الظروف الموضوعية، هي حال سودانية خاصة تستحق التأمل والدراسة والوقوف عندها طويلاً، لأن آثارها أقعدت التجارب السياسية السودانية - رغم حيوية المجتمع الإرثي والمدني - لأن النخب السياسية وقادة الرأي العام لا يريدون رؤية الأمور ولا حتى نقاشها أو سبر أغوارها خارج ما حددوه هم لأنفسهم من خلال الاطر الجامدة التي لا يزال للايديولوجية دور فيها، أو المساحات المحدودة للرؤية من الزوايا الخاصة. أعود لأدلل على ما ذكرت، وفي ذلك للمرة الأولى خروج على نهج اتبعته في ما اكتب، هو ان لا اتعرض لشخص الدكتور حسن الترابي أو غيره من رموز السياسة بالاسم، إلا من خلال تنظيمه أو رؤيته، وبمقدار تأثير هذه الرؤية أو الأفكار في مجمل الحياة العامة، لأسباب كثيرة بعضها شخصي. وأسأل هل حقيقة ان حكم السنين العشر الماضية كان حكم الجبهة القومية الإسلامية؟ وهي كما نعلم جميعاً شئنا أم أبينا، كانت تنظيماً حديثاً لديه قواعد واضحة وهياكل بناء نظري وتنظيمي لا تخطئه عين فاحصة، أم اننا باسم باسم الجبهة - كما أردنا ذلك لأنفسنا - حُكمنا؟ وحكمت البلاد بذات الخطاب السياسي ومفرداته المستهلكة داخل هالة ضخمة من الغلواء والممارسة السلطوية التي فرضتها ظروف موضوعية أملتها حالة الإحساس بالغربة والتوجس من الوجوم الاجتماعي تجاه الانقلاب وقادته الجدد؟ هل حقيقة ان الجبهة القومية الإسلامية حُلت عشية الانقلاب مثل غيرها من تنظيمات المجتمع المدني، وآل الأمر إلى نخبة سلطوية تريد ان تفعل بالسلطان ما لا يفعله القرآن، بعدما تخلصت بالانقلاب نفسه من الشورى ورقابة الهياكل ومحاسبتها حتى داخل الأسوار التي تربى أفرادها وشبوا عن الطوق داخلها؟ وبافتراض ان ما ذكرته كان صحيحاً، لماذا لم ننتبه نحن في مجمل الحركة السياسية السودانية للأمر؟ ولم نتعامل معه حسب ديناميكية الحدث يوماً بيوم وساعة بساعة، لنصحو فجأة حين أصبح وقت التصرف العقلاني متأخراً بعض الشيء، فنجد ان جسم الدولة نفسه أصبح مهدداً بالانشطار، ووجودها وارثها التراكمي أصبحا مهددين بالانهيار؟ إذ أن هناك حزباً حاكماً - أو محكوماً باسمه - لا تمثله حكومة اليوم، وهناك حكومة على أرض الواقع لا يقف وراءها الحزب الذي باسمه تحكم، وليس في الواقع أو في الافق بديل وطني موضوعي واحد موحد الرؤية يستطيع العبور بالبلاد إلى بر الامان مما يحيط بها من مؤامرات ودسائس تريد ان تقطع أوصالها، سوى التمنيات التي قادتنا جميعاً إلى هذا المأزق. ومن دون اسهاب ممل أو تبسيط مخل، إذا أمعنا النظر نجد بتجرد ان النظام الحالي مرّ بأربعة مراحل من أشكال الحكم لم تجد أيضاً منا عناية في الرصد والتحليل للظروف الموضوعية لكل مرحلة، سياساتها ومقاصدها، رجالها ومراميهم، والآثار الاجتماعية المصاحبة، لأننا آثرنا ان نظل كلنا في إطار ما نعرف، معتمدين على مفردات الخطاب السياسي السائدة في الحكم والمعارضة، علّنا بالإعلام المكرور نخلق انطباعاً يمكن تجسيده على أرض الواقع. مجلس قيادة الثورة أو مجلسه الشبحي، سواء كان أربعينياً أو دون ذلك، حكم في مرحلة التمكين والإحلال 1989-1993. والكل يعلم اليوم كما عرف البعض في الأسبوع الأول للانقلاب أن تسعة من أعضاء المجلس ال15 علموا انهم أعضاء في مجلس قيادة الثورة بعد الساعة العاشرة صبيحة يوم الانقلاب. هذه الفترة من حكم النخبة المدنية العسكرية اتسمت بالعنف البالغ وبزت ممارسة اليسار في أيام تحالفه الأولى مع جعفر نميري 1969-1971 في ممارسة العنف مع خصوم السياسة، وادخال هذا العنف كثقافة وافدة على الحياة العامة، زادت من وجوم المجتمع وتوجس السلطة حياله. مراقبة دقيقة لأحداث تلك الفترة توضح بجلاء أن مؤسس التنظيم وقائده الدكتور حسن التراتي كان مشغولاً بالمؤتمر العربي الإسلامي على المستوى النظري والتنظيمي، تاركاً إدارة الشؤون اليومية للبلاد لمجموعة صغيرة من تلاميذه بعيداً عن رقابة أجهزة التنظيم التي حلّت حقيقة مثل غيرها، ولم يبق لها من دور سوى التعاطف مع "المشروع" ؟. فترة تأسيس الدولة و"إعادة صياغة المجتمع"! 1993-1996 شهدت عودة تدريجية وظهوراً علنياً لبعض رموز الجبهة القومية الإسلامية القديمة في الجهاز التنفيذي من الجيل الثاني علي عثمان، عوض الجاز، نافع علي نافع، غازي صلاح الدين... الخ وشهدت هذه الفترة أيضاً "بعض حضور" وتنام لنفوذ قائد الجبهة الإسلامية الدكتور الترابي. تزامن هذا كله مع الخروج التدريجي للتسعة المعينين في مجلس قيادة الثورة العسكري، لكن، في اعتقادي واعتقاد الكثيرين من الذين تابعوا عن كثب تطورات هذه التجربة الفريدة، ان الحلف المدني مع الستة الباقين من مجلس قيادة الثورة النواة الصلبة للتنظيم العسكري المنفذة للانقلاب أفرخ دولة جديدة داخل الدولة من الأقارب والمحاسيب وأبناء الاقليم الواحد أو الدفعة الدراسية، قادت بدورها إلى حالة استقطاب جهوي مناطقي بعيداً عما تبقي من لوائح أو مقاصد مشتركة. بتعبير آخر، بدأت أمراض السلطة المطلقة تتسرب إلى دولة وتنظيم كلاهما في طور التكوين. ظهر هذا بوضوح ابان انتخاب الدكتور غازي العتباني أميناً للمؤتمر الوطني الجامع في 1996 قبل أن يتحول إلى حزب مسجل في شباط فبراير 1998 ليقوده الدكتور الترابي كحزب جديد في الشخوض والمرامي والاطر. فترة التحول التدريجي الحذر نحو الدستورية وإنهاء حالة عسكرة الدولة وتقليص دور النخبة السلطوية المتحالفة مع العسكر 1996-1998 اتسمت بتيارات وأنواء كان الصراع فيها صامتاً، وراوح بين المد والجزر بصورة جعلت تحديد المسار صعباً وقراءة بوصلة الاتجاه أصعب. تم التوقيع في تلك الفترة على اتفاقية السلام من الداخل لحل مشكلة الجنوب، ورغم أنها لم تنتج سلاماً حقيقياً على أرض الواقع، إلا أنها أكدت بلا شك ان الصراع في الجنوب صراع قبلي داخل الجنوب نفسه، قبل أن يكون صراعاً مع الشمال. وشهدت ميلاد مبادرة الشريف الهندي التي أدت في ما أدت إليه إلى تكريس السير في اتجاه الدستورية وتعميق الشفافية وتكريس سياسة الحوار ونبذ العنف والعودة نحو الاحتكام لصناديق الاقتراع، وما دار أو يدور بعدها لا يعدو ان يكون إلا تطويراً لمنهاج اختطه الرجل ولأسس وضع لبناتها، على رغم السهام الطائشة والنيران العشوائية التي انهالت عليه وعلى حزبه، وامتص ضرباتها بصبر وجلد. لم يفكر جهاز الدولة السلطوي في خلق انفراج حقيقي مستفيداً مما قدمه الدكتور مشار والشريف الهندي لعبوره نحو العالم، بمقدار ما فكر في حرق كليهما بالتسويف في سفسطة وتنظير ظلا يراوحان مكانهما رغم نبل مقاصد الرجلين، ووطنية الأخير وتجرده. واعتقد ان بعض رجال السلطة في ظل انبهارهم بالادلاء الاقتصادي - المجرد - للدولة لم يتبينوا المخاطر التي يمكن ان يولدها الاحتقان الاجتماعي والثغرات التي يمكن ان يفتحها في جدار النسيج الوطني وما ينفذ من خلالها من رياح خارجية وسموم، في ظل التربص العالمي بأرض غنية واعدة، العالم في حاجة لمواردها وموقعها الجغرافي المميز كدولة مفصلية لا يمكن ان تترك هكذا، ولهذا التخبط وسوء الإدارة والتجريب المستمر إلى ما لا نهاية. الانفتاح والانفراج السياسي النسبي، فتح ثغرة جديدة في جدار الثقة بين أهل السلطة وأهل السياسة، إذ ان الماضي لم يمت تماماً، والحاضر لم تكتمل ولادته بعد. حال غريبة اراد لها السلطويون ان تستمر إلى ما لا نهاية أسوة واقتداء بدول كثيرة في المنطقة ظلت تحكم بحلف بين البيروقراطية العاجزة والعسكرية الناجزة. وأراد أهل السياسة ان يتم التحول الدستوري الطوعي لها بالتدرج نحو إنهاء عسكرة الدولة وتصالحها مع المجتمع قبل ان تطيحها انتفاضة، لأن الحكم الذي ينتج عنها لن يدخل في تفاصيل من كان، وأين؟ أو تدخل للجيش - رغم استبعاد ذلك، إلا إذا تم بتراضي كل الأطراف حكماً ومعارضة - لا يمكن التنبؤ بوجهته أو تحديد مساراته. الذين يعرفون الدكتور الترابي معرفة جيدة، يعلمون تماماً سواء اختلفنا أو اتفقنا معه في الرؤية، انه من الذين لا يقبلون الهزيمة أبداً وان احنى رأسه للعواصف غير مرة، ولديه الشجاعة الكافية والإرادة، والقدرة على الفعل، وما نتج عن المؤتمر الأخير لحزبه كان متوقعاً منذ الأشهر الأولى لهذه السنة وبعد مذكرة العشرة الدي أرادت وضعه واحداً ضمن ثلاثين في مكتب قيادي لحزب الدولة لا دولة الحزب. ومنذ ان هجر العاصمة الخرطوم وطاف أقاليم السودان المختلفة ليعيد صياغة تحالف جديد قوامه ركائز المجتمع الإرثي التقليدي التي ظلت وما فتئت سلطة حاكمة منذ عهد الدولة السنارية في القرن السادس عشر الميلادي وهي قوى اجتماعية حاكمة لم تستطع دولة الانتلجنسيا المتحالفة دوماً مع العسكريتاريا أو الطائفية ان تنال من نفوذها على مر العهود، لهشاشة بناء الدولة وبساطة اقتصادها. حدث هذا كله في غياب من كان البعض يعتقد ان الأرض أرضهم، أو على الأقل هم أقدر على الحرث فيها منه، بحكم البعد التراكمي للتجارب والتاريخ، ولكن تبقى السياسة صراع إرادات، الغلبة فيها لمن يستطيع أن يرى الخصم ارادته قبلل أن يحس فعله. تقدم هو وخانت الآخرين كعهدنا بهم الإرادة وظلوا في الخارج. يقودني الحدس السياسي إلى اعتقاد جازم بأن الرجل ماضٍ في مسيرة الانفتاح إلى نهاياتها على رغم تجديف التيارات السلطوية ضد تيار التاريخ وطبيعة الأشياء. هذا بدوره سيقود أو قاد فعلاً التيار السلطوي إلى المنافسة ولو ظاهرياً نحو الانفتاح وإعادة النظر أو البحث عن تحالفات تملك مفاتيح اجتماعية، وفي هذا خير للبلاد على مشارف الحلول من دون شك وتغليب لدور المجتمع على دور الدولة وسطوتها وتقليصاً لدور النخب المسكونة بداء السلطة. لكننا نخشى أيضاً من ان يقود تسارع وتيرة الصراع، الذي أصبح مكشوفاً، إلى مغامرة غير محسوبة من هذا التيار أو ذاك، ولا يتحملها بناء الدولة الهش ونسيجها الاجتماعي الذي أبلته الصراعات المفتعلة، والأفكار الدخيلة وأنماط الممارسة السياسية الوافدة. وعلى رغم كل ذلك، استطيع القول إن إقدام الفريق البشير على مغامرة عسكرية بحكم السلطات الممنوحة له في الدستور الحالي وكقائد أعلى للجيش لا تبدو واردة. فليس هنالك جيش في العالم يستطيع الوقوف أمام شعب بأكمله. فالمعارضة الحالية والمؤتمر الوطني كلاهما سيكون في مركب المعارضة مهما وسمت الحركة نفسها بأنها "تصحيحية" ممن تولوا السلطة المطلقة لعقد كامل، ولدينا في تاريخ المنطقة العربية تجارب وعبر حية معاصرة، مع اختلاف ظروف الزمان والمكان. الحل الأمثل يكمن في تسارع وتيرة الوفاق، والاتفاق على حكم قومي يكمل نواقص عودة الحياة السياسية من دون وصاية من نخبة، وإكمال رقابة المجتمع على الدولة، بالاتفاق المبدئي على الأهداف الاستراتيجية العليا للدولة واطر الحكم العامة وآلياتها، و"هي للعلم متقاربة بين الحكومة والمعارضة مع اختلاف الصياغة"، وايجاد وسيلة تنهي الحرب الدائرة في الجنوب بعيداً عن فوهات البنادق، وارجاع الأمر إلى أهله الشعب السوداني ليقول كلمته في نهاية الأمر. يتطلب الأمر من المعارضة أيضاً في الداخل والخارج وقفة شجاعة متجردة مع النفس لرؤية الأخطار التي تحدق بالبلاد والتقدم نحو الحلول الموضوعية الممكنة بديلاً للابصار الشاخصة نحو القصر الجمهوري، من دون ارتهان لقوى دولية أو اقليمية لا تريد بنا خيراً، أو كائنات سياسية مجهرية لا ترى لنفسها نمواً وحركة إلا داخل جسم سلطة. بديل هذا، هو ان يفرض علينا حل ليست لنا فيه يد وهنالك أكثر من سيناريو واحد، وهو حل في نظري لن يبني السودان الجديد مثلما حلم به وأراه البعض، ولن ينهي السودان القديم بضربة لازب، كما يعتقد البعض، لأنه أكبر من أن يبتلع بهذه السهولة، ولكن سيقعده لعقود طويلة مقبلة، أو يبقي شظاياه متقاتلة متناحرة لقرن كامل على الأقل. * الأمين العام المساعد ل "حزب الاتحادي الديموقراطي" في السودان