"القانون هو التعبير عن ارادة العموم". هذه العبارة تشكل مبدأ نظريا وأساسياً، من الواضح ان محتواه يناقض روحه، عملياً. فالتقاليد الحقوقية تعتبر، عادة، ان احترام القانون هو الذي يضمن التوازن والتناسق داخل الحياة الاجتماعية. ما يعني، بالطبع، ان خرق القانون يشكل خرقاً لارادة العموم، او الارادة العامة. والحال انه ما ان يصار الى ابرام قانون، في مجتمعات الديموقراطية التمثيلية، حتى تصبح له سلطة تشريعية. ومن هنا، يكون في خرق هذا القانون، استفزاز للمجتمع ووقوف ضد الشعب - او الأمة - الذي يتحدر منه القانون متحولاً الى مبدأ. وبالتالي يكون كل خرق فعلاً لا شرعياً. في مسرحية سوفوكليس الشهيرة "انطيغون" يفرض ملك طيبة على المدينة حظر دفن المحارب العدو الذي سقط عند أبواب تلك المدينة، غير أن انطيغون، التي تعرف انها أخت ذلك المحارب، لا تذعن لذلك الخطر. وعلى ذلك النحو نراها تعصى قرار الملك، الذي هو - في تلك الحال - مصدر كل شرعية. في هذا المعنى تطرح المسرحية مسألة العصيان المدني، دافعة الى المجابهة موقفين يعبران عن حالتين ذهنيتين متناحرتين. فالأمر يقوم هنا في معرفة ماهية افضل موقف يتعين اتخاذه، في مواجهة قانون يُرى انه ظالم: هل ينبغي احترام القانون باسم التمسك بالنظام الاجتماعي، ام يمكن خرقه باسم سلطة اكثر سمواً؟ ونشهد في زمننا الراهن هذا، سلسلة متعددة من حالات العصيان المدني. ويمكن في هذاالاطار، وبين امثلة اخرى، ذكر رد فعل المناضلين والفنانين الفرنسيين على "قانون دوبريه" الذي صدر في العام 1997، على اسم وزير الداخلية الفرنسية يومها، والذي كان يهدف الى منافحة ما سماه "الهجرة السرية" الى فرنسا. يومها، كان موقف هؤلاء المناضلين والفنانين يقوم في الزعم بأنه، طالما ان هذا القانون ظالم ولا يمكن القبول به اخلاقياً، يصبح من حقهم ان يحوزوا على امكانية تجاوزه ورفض الانصياع له. وعلى هذا النحو، يكون هؤلاء المعارضون قد اعطوا انفسهم امكانية خرق قانون اطلقوا عليه صفة "قانون فيشي" نسبة الى مدينة فيشي الفرنسية حيث قام مركز حكم فاشي مناصر للألمان خلال الحرب العالمية الثانية بالنظر الى ان القانون اخذ يدعو المواطنين الى الوشاية بأي مهاجر سري. غير ان الأكثر اثارة للدهشة في ذلك كله، انما كان رد فعل الرأي العام الفرنسي ازاء ذلك السلوك العاصي. وهو د فعل برهن على ان المجتمع بات اكثر وأكثر تقبلاً لذهنية العصيان المدني. ومعنى هذا ان واقع رفض قانون - او قاعدة - ابرمه ممثلو الشعب، الذين ينطقون ويتحركون باسم ناخبيهم، اعتبر - ثقافياً وايديولوجياً - أصبح سلوكاً عادلاً ونبيلاً، من قبل الشعب نفسه. وضمن هذه الروحية نفسها يمكن، ايضاً، ذكر التطور الذي يعرفه الآن - على سبيل المثال - قيام الجمعيات والمنظمات، التي باتت تجد لها صدى ما في اوساط المجتمع، على الرغم من دعوتها الواضحة الى اقامة شبكات من تحرك العصيان المدني لمواجهة... النظام الاقتصادي الذي يولد البؤس الاجتماعي ويعممه. وعلى هذا النحو نرى كيف ان المروحة تتسع أكثر وأكثر، وان اي شيء، حتى ولو كان قانوناً مبرماً بات في الامكان اعتباره غير مقبول. اذن، فإن المجتمع بدأ يعتاد على هذه الفكرة. ومعنى هذا ان العصيان بات حائزاً على شروعية جديدة، ما يجعل - بالتحديد - تحوله الى امر عادي ومقبول، يتم بفضل هذه الشروعية. وفي فرنسا بالتحديد يجد هذا العصيان جذوره الحديثة في المقاومة التي وقفت في وجه التعاون مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. والواضح ان هؤلاء الذين يدعون الى العصيان المدني، لا تفوتهم الاشارة الى "التعاون مع الفيشيين"، في سبيل اضفاء سلطة على تحركهم، لا يمكن المماراة فيها. ومن هنا تعتبر "المقاومة" مستنداً ينهل منه العصيان المدني المعاصر شروعيته. كذلك، فإن واقع ان ظاهرة "المقاومة" تلقى اجماعاً لا شك فيه، هو الذي يفسر لنا رد فعل المواطنين المعاصرين، ازاء ذلك النوع من السلوك اللاشرعي. وهكذا نرى كيف انه، منذ الحرب العالمية الثانية، يكتسب عصيان القانون، ورفضه باسم سلطة سامية، مشروعية جديدة. انطلاقاً من هنا يمكن القول بأن اللاشرعية باتت امراً يمكن التسامح معه، اذ يكفي فريقا ان يقول ان هذه القاعدة جائرة، حتى تخرق هذه القاعدة. وللايغال في هذا الامر، يمكن حتى ملاحظة كيف ان ذهنية رفض الشرعية تولد نوعا من الفخر لدى الرافض، بشكل يجعل العاصي يعتبر مصلحاً وعادلاً بما انه يستند، طواعية، الى المبادئ الاخلاقية في سبيل التصدي لقرار تعسفي يفترض به، مبدئياً، ان يكون شرعياً وحائزاً على التوافق بالتالي. وهنا، بالتحديد، يكمن السجال بين الحرية والنظام، هذين المفهومين اللذين، بدلا من ان يكونا متكاملين، يتجابهان متعارضين بشكل مباغت. وعلى هذا النحو، مثلاً، نرى كيف ان جان كوكتو يعتبر انطيغون "صورة الحرية الحقيقية". والحقيقة ان السلوك العام الذي يتسم به العصيان المدني المعاصر، والطريقة التي بها يتم تقبله من لدن المواطنين، يبدو مثيراً للدهشة أكثر بالنظر إلى أنه يحدث داخل ثقافة ذات تقاليد روسوية نسبة إلى جان جاك روسو. فالحال ان الشروعية، في أوروبا ولا سيما في فرنسا، تتناقض مع مثيلتها في الولاياتالمتحدة. فالقانون هنا، هو مبدأ التعبير عن الارادة العامة. مجموع المواطنين الشعب هو الذي يساهم في تشكيله، وهو الذي يمارس تجاهه انتماء ضمنياً انما فعالاً، انتماء هو الذي يحوله إلى سلطة وإلى مبدأ لا مماراة فيهما. غير ان المعضلة تكمن في أن هذه الاوالية ليست سوى وهم، ففي ديموقراطية تمثيلية رفيعة المستوى، لا يمكن لأي قانون أو لأية قاعدة ان يكونا تعبيراً عن الارادة العامة. غير ان هذا الوهم، يبدو مع هذا، ضرورياً بالنظر إلى انه يسمح بتأمين النظام والمساواة: انه وهم يرتبط بماهية الدولة، ويمكنها من تفادي سريان الفوضى العامة. إضافة إلى هذا، إذا ما قيض لعدم احترام الشرعية ان يصبح مقبولاً من الناحية الثقافية - وهو أمر تبرهن على امكانيته الوقائع - سيسفر هذا عن بروز خطر، ها نحن نشاهده اليوم، متواكباً مع حدوث انعطافة في تاريخ نظرية الدولة. فالحال ان من شأن الخطر أن يبرز، وبقوة، إذا ما تأكد هذا النزوع أكثر وأكثر. والخطر يأتي من لدن فلسفة الفعل نفسها، لأن الاشكال الذي تثيره هذه الحالة الذهنية، يرتبط بواقع ان المرء، إذا ما شاء اليوم ان ينتقد قانوناً أو يعارضه، يمكنه ان يذكر أنه اما يتعارض مع الدستور، أو مع النظام المؤسس للدولة هنا تبدو المسألة حقوقية بحتة يمكن حلها بواسطة السلطات ذات الاختصاص، وبالتالي تكون مسألة مختلفة، وإما أنه قانون يتعارض مع الاخلاق... وهنا يكمن الخطر الأساسي. حين يطرح كريون ملك طيبة على انطيغون سؤاله القائل: "اتجرؤين على خرق القانون؟" تجيبه هذه قائلة: "نعم... لأن زيوس لم يكن هو من اصدره. ولأنه ليس العدل، اذ يجلس الى جانب الرموز الأدنى. لا، ليست هذه هي الشرائع التي حددت الناس، وانا لا اخال ان محظوراتك من القوة بحيث تسمح للكائن الفاني بأن يخرق قوانين اخرى، غير مدوّنة، هي تلك القوانين الأبدية التي صاغتها الرموز". ان الاشارة من الرموز - وبالتالي الاخلاقية - هنا واضحة. كل ما في الأمر ان عصرنة هذا المشهد، تبدو لنا اليوم مجازفة، وذلك بالتحديد لأن الاحالة الاخلاقية من شأنها ان تضيعنا. فالمعضلة الأساس اليوم تكمن في ان الاخلاق تتبدل تبعاً لوجهة الشروط التاريخية والاجتماعية. باتت ترتبط بالمحتوى المحلي والايديولوجي والتقليدي والتاريخي: لم يعد ثمة ما يمكن اعتباره نمطاً شمولياً وكونياً وأحادي البعد. ان اخلاقية اليوم، السائدة مثلاً في مجتمع علماني، شديد التطور تكنولوجياً واقتصادياً، لا يمكنها ان تشابه تلك التي كانت سائدة في الماضي، او تلك التي ستسود في المستقبل. والمسألة الام في ذلك كله تكمن في ان الاشارة الى مرجعيات اخلاقية في سبيل التصدي لقاعدة قائمة، او قانون مبرم، أمر ينتهي اكثر الى ملكوت المتغير والذاتي، اكثر مما ينتمي الى عالم المنطق او العدالة. الأخلاق اليوم باتت، بشكل خاص، مفروضة من المصالح والمواقف. اخلاقية هذا، ليست بالضرورة اخلاقية ذاك. ومن هنا لم تعد هناك اخلاقية واحدة، بل "اخلاقيات متعددة" تعدد القوى المتصارعة احياناً. وبالتالي فان الاستناد الى اخلاقية غير مضمونة وذات مصلحة، بل الى اخلاقية تفرضها ديماغوجية موقف ضد القواعد والقوانين - حتى ولو كانت هذه القوانين مفتقرة الى الكمال وغير ديموقراطية لكنها في الوقت نفسها واضحة ومضمونة - أمر يؤدي في نهاية الأمر الى فقدان البوصلة والى الفوضى. وبهذا نعني ان الاخلاق، لم تعد في زمننا هذا نقطة استناد تكفي صلابتها لاقامة عدالة حرة، لطالما حوربت من قبل الدولة كمفهوم، باسم المساواة. من البديهي، ازاء هذا كله، ان اللجوء الى المقاومة والى المعارضة، فعل نبيل وضروري ولكن فقط في حالات تلقائية واضحة، من دون ان يعني ذلك تعميمها ايديولوجياً. ذلك لأن نزع الشرعية عن مجتمع لا مرجعيات له، ويعيش حالاته التبدلية، لن يكون بالضرورة، الحل الأفضل من اجل مجابهة مستقبل غير مضمون... حتى ولو تم ذلك باسم اخلاقية معينة. ان ارث سقراط، إرث لا يتعين اسقاطه ورفضه، حتى لو حدث لقانون الضمير ان ساد احياناً على حساب شريعة الجماعة. * جامعية لبنانية مقيمة في فرنسا.