في عملية الانتقال "العهدي" والحكومي، ليس في لبنان وحده بل في كل مكان، قلما يحصل توافق على صعيد معيّن بين ما قام وما هو قائم. ولعل الاستمرارية الصحية للتعاون بين "المؤسسة الوطنية للتراث" برئاسة السيدة منى الهراوي ووزارة الثقافة وادارة المتحف الوطني، واحدة من علامات النضج السياسي التي قلّ مثيلها، بل ان ثمار ذلك التعاون شاهدة على وجود إمكانات هائلة لدى افراد قلائل استطاعوا ان يقوموا بعمل مذهل وبتكاليف غير ذات شأن نسبياً. قبل أيام أعيد افتتاح المتحف الوطني اللبناني بعد ست سنوات من العمل على تأهيله واعادة تبويب محتوياته. دعاه وزير الثقافة والتعليم العالي محمد يوسف بيضون بالذاكرة لأجيال المستقبل، وقالت السيدة الهراوي ان ثمرة تضافر الجهود بين القطاعين العام والخاص "أنجح الاساليب بعيداً من العقلية الجامدة والرتابة القاتلة". والواقع ان العين يصيبها ذلك الشبع الجائع الى مزيد من النظرة الأولى في بهو المتحف. الاضاءة الجديدة ذات النضارة الوردية كشحت كآبة النيون الذي سيطر على فضاء المتحف سابقاً. ويحتوي المتحف الوطني اللبناني أكثر من ألف قطعة من أحجام مختلفة أضخمها النواويس والتماثيل وشرائح الفسيفساء. في مقدمتها، ضمن فضاء الطبقة الأولى، ناووس أحيرام، ومنصة أشمون ومجسمات اطفال أشمون، وتمثال إيجيا، ثم فسيفساء اختطاف الفتاة الجميلة أوروبا التي وهبت اسمها للقارة الاوروبية كما تقول الاسطورة، اضافة الى فسيفساء ولادة الاسكندر المرممة اخيراً. كل هذا في البهو الاول مع قطع أثرية بالغة الاهمية تاريخياً وفنياً من صور وصيدا وطرابلس. والمتحف كان جرى تدشينه في العام 1937 بعد سبع سنوات من العمل لإتمام بنائه حسب تصميم المهندسين، اللبناني انطوان نحاس، والفرنسي بيار لوبرنس رينغيه. وكان في البداية واحداً من المشاريع الريادية المواكبة لولادة دولة لبنان الكبير، واجتمعت لملء ردهاته خبرات اركيولوجية أجنبية، على رأسها فريق ألماني يعود اليه الفضل في حفظ أبرز القطع المؤرشفة، وتصنيفها ونقلها من مركزه الثقافي في شارع جورج بيكو الى مبنى المتحف. أما انقاذ تلك الشواهد التاريخية التي لا تقدر بثمن، من غائلة الحرب الاهلية فهي مأثرة الامير موريس شهاب الذي قام بصبّ مكعبات إسمنت حول القطع الكبيرة لصعوبة نقلها، كما استطاع حماية معظم محتويات المتحف من القصف والسرقة. واليوم اذ يعود المتحف الوطني اللبناني بحلته الجذابة الجديدة الى لعب دوره المحوري نسبة الى السياحة والثقافة، لا بدّ من القول ان عودته ما كانت لتكون لولا النشاط الهادىء والرصين ل"جمعية اصدقاء المتحف" التي تمكنت من جمع قدر لا يستهان به من الخمسة ملايين دولار تكاليف التأهيل وعملت جنباً الى جنب مع "المؤسسة الوطنية للتراث" لإنجاح هذه المغامرة الفذة. ومن يزر المتحف في حلّته الجديدة ينسى تماماً الآثار التي تركتها الحرب ولطالما شاهدها حين كان يعبر خط التماس هنا.