حين يسافر القروي من الريف الى المدينة لا ينسى أن يحمل معه زوادة يصرها مع نقوده القليلة وأحلامه كسر من الأسرار. وعندما يهده التعب في هذا العالم الجديد تنفرط زوادته على أول رصيف مفصحة عن أسرارها أمام المارة لتصبح مشهداً يدعو الى الفرجة خصوصاً إذا كان صاحبنا يشكو هماً أو أضاع طريقه في زحمة هذا العالم. هكذا انفرطت تلك الزوادة حينما استضاف البيت العراقي في مدينة يوتوبوري السويدية فرقة مسرح الرافدين التي قدمت عرض مسرحية "نحن الذين هناك" في إعداد وتمثيل مشترك للمخرج كريم رشيد والممثل القدير أسعد راشد عن مسرحية "المهاجران" للمؤلف البولوني سلافير مروجيك من خلال لغة بصرية تعتمد على مفردتين أساسيتين هما: المنفي وحقائبه. فمن هو ذلك المنفي الذي كان يدور في ذاكرة المخرج وما أسرار تلك الحقيبة وأين هو هذا المنفى؟ قبو تحت إحدى العمارات في أوروبا يجمع رجلين أولهما سياسي معارض لا يفكر خارج حدود الكتب الكثيرة التي تتراكم فوق طاولته والثاني عامل غادر وطنه بحثاً عن الرزق آملاً العودة يوماً ما حين يستطيع أن يجمع ما يكفي لبناء بيت يقضي فيه بقية العمر ببحبوحة وسلام. قبو خال من الملامح، بل أنه أقرب الى أية زاوية في محطة للمسافرين لكثرة الحقائب التي استخدمها المخرج ورأى فيها أداته التعبيرية عن المنفى والمسافر. فالحقيبة لم تكن جسداً صامتاً بل أحيلت الى لغة فاعلة متعددة المضامين لأن الدال الحقيبة ليس ثابتاً بل متحول بفعل روح الخلق التي امتلكها المخرج وباستخدامه لهذا الدال الذي وجد فيه المرسل القوي لعدد كبير من الإشارات والشفرات التي تخدم الحدث وترتقي به الى لغة بصرية خاطب المشاهد بها حينما استهل العرض بتشكيل بصري وبلغة الجسد. وقدم تقطيعاً فوتوغرافياً ترجم فيه الصراع بين الشخصيتين. الحقيبة هي زوادة المخرج التي استطاع من خلالها أن يقدم إعادة لإنتاج المعنى: كانت الحقيبة مخبأ للأسرار والطعام والملابس، فإذا بها تصبح كرسياً مرة وأخرى تتشكل كجسد امرأة ملتهب أو تتدلى الحقيبة من الأعلى لتصبح شباكاً يشعرك بقسوة الغربة حين تتطلع من خلاله وتسترق النظر على العالم الآخر، هذا العالم الذي تحتفل به الحياة. وثمة حقائب أخرى فارغة مهملة كأصحابها في هذا المنفى، وهم لا معنى لهم، بل هم مجرد أرقام، مسجلة في الكومبيوتر. أما الحقائب فهي حقائب منفى لا يعرف نهاية. يقول السياسي في سياق العرض: "أنا الذي طالما اعتبرت نفسي أكثر المواد قيمة، أنبل وأسمى خلية عصبية، أعيش هنا كجرثومة في أحشاء مجتمع". ذاك هو الشعور بالمنفى. منفى يقول لك كل يوم أنت غريب أو اغرب عني، ولكنك لا تستطيع الرحيل ولا تملك حجة تدافع فيها عن نفسك، منفى يجعل صاحبنا العامل الأمي يحلم بأنه تمشى في المحطة الرئيسية ثم ذهب الى الرصيف ليتفرج على المسافرين وتحديداً القادمين من السفر وإذا بإمرأة جميلة تخطفه الى مراحيض الدرجة الأولى ليمتطي جسد أوروبا كفارس عربي من الأيام الخوالي. ولكن السياسي المتثاقف يدرك جيداً أن هذه الحكاية من أحلام اليقظة فهو الذي يدفع الإيجار، ويعرف أن صاحبه بخيل يجمع القرش فوق القرش من عمله كحفار للمجاري. فهو لا يتجرأ أن ينفق قرشاً واحداً ويسوقه البخل والجهل لشراء لحم مخصص للكلاب. السياسي. يبكي العامل من الإهانة ويمثل السياسي أنه مل العيشة مع هذا المتخلف المزعج على حد تعبيره فيقرر ترك المكان والرحيل. ولكن العامل يعرف اللعبة أيضاً فلا يبدي أي اعتراض. فليست المرة الأولى التي يقرر صاحبه فيها الرحيل. العامل: ألا تأخذ معك شيئاً. السياسي: لا ولكني سآخذ منك شيئاً للذكرى. فيفتح إحدى الحقائب ويستل منها لعبة كلب صغير فينتفض العامل كمن سرقوا منه أعز ما يملك ليعيد اللعبة الى مكانها في الحقيبة، ويقرر صنع قدح من الشاي ليجعل صاحبه يعدل عن قرار الرحيل وينسى سر هذه اللعبة ولكنه يقفز فجأة كطفل فزع حين يسمع صوت طلقات نارية في الخارج فيختبىء تحت الطاولة وهو يهذي ويردد: "الى الملجأ، هيا الى الملجأ". فيقول السياسي له: "إهدأ. إهدأ. انه الاحتفال بالعام الجديد". لم أسمع ولم أقرأ في التاريخ أو على الأقل في التاريخ المعاصر أن العراقي غادر بلده بحثاً عن الرزق إلا في هذه السنوات العجاف. ولكن التاريخ نفسه قد أرخ لنا وما زال هجرة العراقيين، إما نفياً وتهجيراً قسرياً أو هروباً من سلطة الحاكم الذي لا يجاريه حاكم محب للقتل والإبادة الجماعية كما حدث ويحدث في عراق هذه الأيام. فمن هو هذا المنفي والهارب من سلطة القمع والجوع؟ انه المثقف السياسي والباحث عن لقمة العيش! على وجه الدقة والتحديد. قد يسألنا سائل: ألا يجب أن يكون السياسي مثقفاً أو على العكس؟ نعم فمن المفترض أن يكون السياسي مثقفاً، ولكن الواقع الملموس لا يتوافق مع هذه الفرضية. وهل يتحتم على المثقف أن يكون سياسياً؟ الواقع نفسه أيضاً قد أثبت خطأ هذه النظرية، فلقد هجر المثقفون العمل السياسي وبقيت السياسة فضفاضة خاوية في عالم جديد يتربع على عرشه السياسي القوي السياسي الأوروبي والسياسي الأميركي وأمسى مثقفاً منعزلاً صامتاً يراقب بوجع هول الكارثة وزحمة أوجاع الناس فتاه معهم بين ال هنا وال هناك كأن يقول العامل: "كم من الأعوام مضى، كم من الأعوام يبقى، كم من الأعوام عليّ أن أكدح بعد؟ أسأل نفسي أحياناً ماذا أجني من وراء جمع النقود؟ أعرض صحتي للخراب على حساب سعادتي. أنا هنا لكي أعود". ويجيبه السياسي: "أفهم ذلك، العودة مفهوم حياتك الوحيد، لكنك مع ذلك لن تعود". العامل: "سأعود إذا..."، السياسي: "لن تعود حتى إذا..."، العامل: "أراك دوماً لا تفعل شيئاً، لا تذهب الى العمل، تتمدد في سريرك دوماً ويداك ناعمتان كأي مثقف سياسي، وعندك نقود دائماً". السياسي: "لا تخف مني على الإطلاق، أنا مجرد إنسان عادي جداً، إنسان هرب من معركته، جبان، خنزير بهيئة إنسان". بين مفهوم ال هنا وال هناك يقف كريم رشيد وأسعد راشد ليقدما أسئلة ربما كانت تراود الكثيرين من المنفيين، بين مفهوم المعارضة كممارسة والدولة حينما يختصرها الحاكم المستبد كأداة للقمع والإرهاب وعلى حد تعبير السياسي: "لا فرق بينهما فالمعارضون من جانبهم لا يطمئنون اليك ان لم تجارِ مواقفهم". بين ال هنا وال هناك نتطلع كلنا الى الغد المجهول ولكن العامل يريد العودة، فيسرع السياسي الى الحقيبة ويخرج اللعبة الكلب الصغير ويفتح بطنه بحركة سريعة وإذا بالنقود تسقط على الأرض. العامل: "نقودي أيها اللص"، السياسي: "لن تنفعك النقود، فلا يمكنك العودة"، العامل: "لماذا؟ أنا لست بمعارض"، السياسي: "ماذا لو أن أحداً كتب عنك تقريراً". يكبو العامل على الأرض يمزق نقوده وهو يبكي. يختتم المخرج العرض كما استهله بصور فوتوغرافية من خلال لغة الجسد ولكن بدلالات أخرى لم ينطق بها في بداية العرض. لقد استطاع الفنان أسعد راشد باسترخاء المحترف ذي الخبرة المتقنة أن يقدم شخصية يصعب أداؤها على الكثيرين ان لم يمتلكوا الموهبة والثقافة التي تجنب الوقوع في خطورة الكوميديا، ثقافة الممثل التي تجعله أن يقدم السهل الممتنع وهو على معرفة ودراية عالية بما يفعل. رافقت العرض موسيقى الفنان طارق هاشم وكانت تنم عن ذوق رفيع ولكنها كانت ممهدة للحدث فقط وان كنت أرجح لها أن تلعب دوراً لا على حساب العرض وإنما كمشارك أكثر فاعلية وحضوراً، ويبدو أن المخرج أراد لها أن تبقى بهذا الحجم. كانت زوادة كريم رشيد محواً لأمية الإحساس بالجمال، فالسنوغرافيا ولغة الجسد ذات الدلالات العالية والمبهجة كانتا تشيحان المشاهد عن سوداوية النص. وقد استطاعت جماليات العرض أن تنسيه ولو قليلاً أوجاع المنفى اليومية. وأخيراً لقد صنع المسرح العراقي من كريم رشيد مخرجاً واعداً فجاءنا الى المنفى يحمل في روحه حلماً ويحيله أمامنا أسئلة... علمنا أستاذ وقور سر القراءة والكتابة وحين توهجت أرواحنا بالأسئلة أصبح المنفى ملاذاً!!