تحمل حقيبة السفر، كما اسمها ومحتوياتها، معاني الارتحال المختلفة، نفسية كانت أم حسية، دائمة كانت أم مؤقتة أو مؤجلة. فتلك الحقيبة تعني الانتقال بين وجوديين/ عالميين/جغرافيتين، وبالتأكيد فالمكان الذي نتجه إليه يحوّل ذلك الذي ما نزال موجودين داخل إطاره إلى ذكرى، ويستتبع بالضرورة تحضيرا نفسيا، قبل ترتيب الحقائب، من أجل الوصول الآمن إلى المحطة المأمولة. وبالطبع يعتمد التحضير النفسي على الظروف التي دفعتنا للسفر، حباً ورغبة، أو قسراً وقهراً. حقيبة السفر، بمحتوياتها، تتجلّى فصولاً من رواية ذاتنا -وربما ذلك ما دفع الكاتبة غادة السمان إلى تدوين كتاب لها في الرحلة أسمته «الجسد حقيبة سفر»- ما المهم الذي سنحمله فيها، وما الأهم وما الذي سنتركه ربما إلى غير رجعة. وهذه الرواية بالتأكيد تفترق عن الصورة النمطية التي ألفناها في الأفلام والمسلسلات الدرامية، حيث حقيبة السفر ملقاة بإهمال فوق الخزانة، فارغة تماما، جُهزت لتلبي مشهد الزوجة الغاضبة أو الزوج الثائر، حيث تفتح الحقيبة على عجل وتفتح معها الخزانة لتلقى الملابس التي كانت معلقة بترتيب، بغير اكتراث داخل الحقيبة، متجاوزة تلك الأشياء الصغيرة التي تحتل الجانب الأهم في ترتيب الحقيبة: فرشاة الأسنان، الحذاء أو الخف المريح، الدفتر الصغير، الأوراق، القلم.. ونحن إذ نغلق حقائبنا استعداداً للرحيل، فلا بد أن نكون متأكدين أن ما سيراه الآخرون منها، هو غطاؤها وشكل مقبضها أو عجلاتها حسب، لكنهم لن يروا أشياءنا الصغيرة وذكرياتنا، وأغراضنا الحميمة، لن يكتشفوا الأسرار التي وضعناها بحرص في الجيوب الداخلية الصغيرة، ولن يلحظوا أبداً تلك الثقوب التي ظلت مشرعة على الوطن أو إليه، ولن يشاهدوا ضحكاتنا أو عبوسنا أو أفراحنا التي خلدناها عبر صورة ثم زيناها بإطار، لأن كل واحد منهم مشغول بما في حقيبته!! والحقيبة قد تكون مبعث فرح وغبطة لأولئك الذي يحزمونها باتجاه مدن أحلامهم، أو عودة إلى وطن تركوه لسبب أو لآخر. وهم غالباً يحملونها بالهدايا التي تليق بمن سيجتمعون به على أرض الوطن، أو تذكارات من صور وأشياء تؤكد أن علاقتهم بالجغرافية التي سيرتحلون منها ستتحول قريباً إلى ماضٍ. وتتخذ حقيبة السفر معاني كبرى لمن يغادر الوطن إلى المنفى، فأي حقيبة تتسع لكل ما له في الوطن ليحزمه معه، وأي حقيبة لن تغص بمحتوياته، كما يغص هو نفسه في ذاكرتها، وربما نستذكر هنا الشاعر العراقي عبدالكريم كاصد الذي كتب ديواناً عن «الحقائب». وكان الشاعر نُفي إلى باريس وفيها نسي حقائبه في مستودع المطار، ولم يعد لاستلامها إلى بعد اعتلاها الغبار، إذ كان يرى في عودته لها عودة إلى الطفولة وسني الشباب على أرض الوطن؛ البصرة. وبين أشيائه المرتبة داخل الحقيبة، وفي طيات ملابسه وهداياه وأوراقه الثبوتية.. يظل المُهَجّر من أرضه متلبساً بالخوف؛ خوفه من اختصار معنى الوطن في حقيبة سفر. ربما هذا ما نفاه محمود درويش في رباعيات «يوميات جرح فلسطيني»، المهداة للشاعرة الرائدة فدوى طوقان، إذ يقول: «آه يا جرحي المكابر، وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافرا، إنني العاشق، والأرض حبيبة». لكن محطات القطار والمطارات، فتحت عيني درويش على الحقيقة الموجعة، إذ صار الوطن في النهاية مختزلاً في حقيبة، فها هو يقول في قصيدته «مديح الظلّ العالي»: «وطني حقيبة، وحقيبتي وطنُ الغجر». وحقيبة السفر لا تعني دوماً مغادرة الوطن، بل قد يكون الوطن نفسه محطات سفر. ربما نستذكر هنا العمل الفني المذهل الذي أنجزه اللبناني ريان تابت تحت مسمى «متحجرات» حيث غطّى مجموعة من حقائب السفر القديمة بالإسمنت. متأملاً الحروب في وطنه، ومؤشراً على الأضرار النفسية المتراكمة والأنماط السلوكية المفجعة التي أوجدتها هذه الحروب، إذ كان كلما اشتعلت حرب يضيف طبقات جديدة من الإسمنت على الحقائب ليصبح تأثيرها مرعباً، حيث خلقت سماكة الإسمنت مظهراً مادياً للتراكم الكوارثي الذي خلفته الحروب في لبنان. حيث كان الجميع يحزمون حقائبهم قريباً من المدخل ليتمكنوا من إخلاء بيوتهم بسرعة عندما تتعالى صافرات الإنذار. نعم، إنها حقائبنا المغلقة على أسرارنا، جروحنا، آلامنا وبعض من ابتساماتنا وأمنياتنا. إنها حقائبنا المصففة على الطرقات وفي محطات الارتحال، والتي، لفرط توظيبها في أماكنها الخاصة، تفيض في داخلها بالفوضى التي في دواخلنا. [email protected]