كلود بلوتان من أهمّ المترجمين الفرنسيين اليوم، مأخوذ بالنصوص، وبما يسمى "هجرة" النصوص من لسان الى لسان. ترجم نحو مئة عمل من الأدب الإسباني، والأميركي اللاتيني. من الأسماء التي نقلها الى الفرنسية: ارنستو ساباتو، خوان غويتوسولو... إلخ وكلود منظّر أيضاً له كتابات عن التصوير الفوتوغرافي، وعن السينما وعن قراءة النص وتأويله، وترجمته. وهو يرى أن الترجمة أي ترجمة هي قراءة وتأويل وبالتالي هي امكانية واحدة تنفي امكانيات أخرى للنص" وكأنّه يقول مع الشاعر الألماني غوته: "أنت لا تعرف إلا ما تعرفه". وكلود أيضاً هو مدير المعهد العالمي للمترجمين الأدبيين في مدينة آرل الفرنسية، وهو ليس كما يدل عليه اسمه معهد تعليم وإنما هو مركز يستقبل المترجمين من أركان الأرض الأربعة، وهو تابع للجماعة الأوروبية... صدر لكلود أخيراً عملان هما "بنات الضابط" لتورنتو باليستار عن دار آكت سود و"عجيبة هي الحياة العجيبة" لكارمن مارتن غيت عن دار فلاماريون. هنا حوار حول تجربته كمترجم، وكمدير لمؤسسة عالمية، وقد تم في المدينة التي عاش فيها الرسام الهولندي الشهير فان غوغ، وبالضبط في مستشفى الربّ الذي رقد فيه الفنان أياماً بعدما قطع أذنه في تلك الحادثة الشهيرة، فقد تحوّل هذا المستشفى الى بيت ثقافة المدينة، والقسم الذي شغله الى معهد للمترجمين. أنت كمترجم كيف تتبدى لك الترجمة الأدبية بعدما قمت بنقل مئة كتاب من الإسبانية الى الفرنسية؟ ترجمة العلم تقنية تعتمد الدقة والموضوعية" ولكن الأدب، ألا ترى أن جانباً فيه غير قابل للنقل" ونعود هنا الى فيلسوف التاريخ، الألماني أوزفالد اشبنغلر الذي يعتقد باستحالة التواصل بين الثقافات، وأن الترجمة والنقل لا يطالان جوهر الثقافة، أيّ ثقافة، وليس أمام المترجم الحقيقي سوى اعادة صياغة ما يترجمه؟ - أعتقد عبر هذا السؤال الذي يتضمن الإجابة، أنك إذ تترجم، وكأنك تحدد، وتفرز ما لا يمكن نقله. إذاً هناك جانب في الثقافات البشرية مغلق، وغير قابل للترجمة وفي طبيعة الحال لا يمكن نقله. أسوق مثالاً على ذلك كلمة سياست La sieste تعني انك استرحت في القيلولة لأنك متعب، وأنك أجهدت نفسك" في حين هي تعني في البلدان الحارة مجرد نوم القيلولة، لا تتضمن معنى التعب بل هي عادة بيولوجية. إذاً فأنا عندما أضع المقابل الفرنسي للكلمة الإسبانية أتنازل عن كامل المحتوى الثقافي لهذه الكلمة وأستبقي ما لم أختره. إذاً اشكالية المترجم الأدبي مستمرة، لأنه يتحرك داخل حقول ملغومة، حقول تعالج التجربة الإنسانية أي ذاك الجانب اللاعقلاني من الحياة، والذي يتجلى في الأعمال الأدبية من نثر أو شعر؟ - المترجم الأدبي له خصوصيته، فهو يختلف عن المترجم العلمي الذي لا يهمّه اختلاف، او تمايز الثقافات. النقل لديه موضوعي، فهو يجعل النظريات العلمية قابلة للفهم في أي لغة ينقل اليها، وذلك لأنه يعالج مادة قابلة للتحديد والتعريف الموضوعي. فالعلم هو العلم في كل الثقافات. في حين أن التصورات والمفاهيم هي أقل تحديداً في المجال الأدبي، لأن مجال التغاير بين الثقافات أكبر" ورموز او اصطلاحات المشاعر والأحاسيس البشرية كالحبّ، والطموح وغيرها من التجارب المعاشة، ليست هي هي في جميع الثقافات. الترجمة شيء صعب باستمرار والرهان يظل هو نفسه. بيد أنك في الترجمة الأدبية أنت تنقل ما تحس به" فالآخرون يعتقدون باستمرار أنك تترجم الكلمات، هذا خطأ فنحن نترجم ذاك الجانب الذي نحسّه والذي يكمن وراء الكلمة الماثلة. إذاً في هذه الحالة أنت لا تترجم وإنما تعيد صياغة النص الأول، على كل هناك مدرستان في الترجمة: واحدة تقول بالإلتزام بحرفية النصّ، بالوفاء للنصّ، وتحاول قدر الإمكان جذب المعنى اليه، والأخرى متحررة من قدسية النص، لا يهمها سوى المعنى، روح النص، أنت الى أيّ من المدرستين تميل؟ - القراءة نفسها هي أخذ موقف من النصّ، وهي ليست حيادية، يعني أن القراءة تستبقي بعض الكلمات، وتنسى الأخرى" انها تفاعل كيمائي مع النص. والترجمة هي أيضاً وبالتدقيق كالقراءة. أسوق لك مثلاً بسيطاً: لنحدد في الإسبانية طريقة كلام شخص ما نقول "ان نبرة صوته" في اللغة في الفرنسية. لا نستطيع استعمال هاتين الكلمتين بشكل متجاور" علينا أن نختار إحدى اللفظتين" فنحن إمّا أن نقول في هذا السياق نبرة أو صوت إذاً ثمّة خيار تقوم به، وهذا الخيار يلوّن النص. هنا ترى بوضوح الى أي من المدرستين أميل. إذاً الوفاء المطلق للنص أسطورة، أو قل محال؟ - الوفاء لمن، ولأيّ شيء؟ هل أنا عندما أنقل أي تعبير، أو أي صورة، هل المسألة أن نقلي هو أمين، أو غير أمين؟ النقل هو في كل الحالات غير أمين، غير وفيّ، غير دقيق" لأن الترجمة أيّاً كانت هي قراءة لأحد أبعاد النصّ الأدبي، فهي متحيّزة، غير دقيقة وغير وفية. وعندما أترجم فهناك لديّ فهم خاص جداً للوفاء للنص الذي أنقله. عندما أترجم أحاول وبكل جهدي أن أكون وفياً لنفسي قبل كل شيء" وهذا يعني أنّي أعيد في نصي المترجم ما أحسست به لدى قراءتي النص الأصلي. هناك مترجمون كثيرون وفاؤهم للفظة يفوق وفاءهم لأنفسهم. كيف هي أوضاع الترجمة اليوم في أوروبا بما أن هذا المعهد الذي ترأسه يعود الى الجماعة الأوروبية؟ - البلد الذي تكسد فيه الترجمة أكثر من غيره في أوروبا هو انكلترا على نقيضه تقع هولندا. فهي أول بلد يشجع الترجمة. طبعاً ما تسعى اليه أوروبا هو خلق توازن في هذا الميدان بين كل اللغات المتداولة في أوروبا، وهذا ليس يسيراً. معهد مدينة آرل هو الأول الذي بعثته الجماعة الأوروبية، هناك اليوم معهد أثينا، ومعهد برلين... فما هي نشاطاتكم اليوم؟ - من الصعب الحديث بشكل عام عن المعهد، أو عن حركة الترجمة، أو عن الكتاب فهذه الميادين الثلاثة هي في الحقيقة ميدان واحد" لأن كل هذا مرتبط شديد الارتباط بسياسة الكتاب" وسوق الكتاب هي اليوم ضعيفة جداً. ومن دون مساعدة كل المؤسسات الممكنة، لن يكون هناك كتاب. لماذا تهملون العالم العربي كل هذا الإهمال، وفي ما أعلم فإن المعهد لم يستقبل من يوم تأسيسه قبل عشر سنوات سوى مترجم عربي واحد، العرب نقلوا آلاف الكتب من الآداب الأوروبية المختلفة، والعرب حضارة كبيرة على حدودكم؟ - صحيح لدينا من الصينيين أكثر مما لدينا من العرب. ربما هناك جملة من الأسباب التي أجهلها. ولكن من يوم توليت ادارة المعهد لاحظت أن هناك قارة غائبة هي أفريقيا. إذاً هدفي هو أن أفتح هذا المعهد للعالم بأسره، وبالتالي لأفريقيا، وللعالم العربي" ولهذا السبب أنا في صدد التحوّل الى طرف متميز في منطقة البروفانس والكوت دازور، مما سيتيح لي كمؤسسة طبعاً لأن أشارك في النشاط الثقافي للمنطقة وبالتالي أشارك في سياساتها الخارجية المنفتحة على المتوسط. أستطيع أن أحدثك مطوّلاً عن طموحاتنا، ورغباتنا في التواصل مع العالم الخارجي. ولكن حتى الآن فإن المتيسر لدينا هو استقبال مترجمين من بلدان المجموعة الأوروبية... صحيح تطوّر عمل المعهد في العشر سنوات الأخيرة، وتركّز كمؤسسة، ودوري اليوم هو منح مزيد من الانفتاح للمعهد. إذا لم يستقبل المعهد المترجمين من أصقاع الدنيا فلا مبرر لوجوده. اليوم ما هي مشاريعكم، وأولوياتكم؟ - أولاً المحافظة على المعهد كبناء تحتي، هذا البناء الذي هو بالنسبة لي آلة عمل، وسيلة عمل. وهدفي كما سبق وذكرت هو فتح هذا المعهد ليستقبل مترجمين من لغات عدّة. خاصة لغات الأقليات مثل اللغات الأفريقية، وأنا أجهد لتحقيق هذا الطموح. ولكن لم تجب عن سؤالي المتعلّق بالانفتاح على العرب كثقافة، وكجغرافيا بشرية على حدودكم؟ مثلاً هل تفكرون في برامج استقبال مترجمين عرب في المعهد؟ - فكرنا في انجاز مشروع مع مصر، ولكن هذا المشروع لم يتح له النجاح، وقع حوار بين وزارة الثقافة الفرنسية ووزارة الثقافة المصرية، وكان هناك في ما أذكر على هذا الخط مترجم يوناني وهو خبير ميداني يقوم بالاتصال ولكن لم يقع أي تقدم. وهناك اليوم محاولة أخرى لمدّ جسور مع وزارة الثقافة التونسية.