بصرى عاصمة جنوب سورية وهي موقع اثري مهم ورائع اذ كانت قديماً عاصمة للمقاطعة العربية وقصراً أسقفياً في المرحلة المسيحية. كما تمتاز بصرى بموقع جغرافي متميز وذلك لوقوعها في سهل النقرة الخصيب الذي تحدّه من الغرب مرتفعات الجولان والشرق جبل العرب وتشكل منطقة اللجاة البازلتية الحدود الشمالية لها وتقع في جنوب البادية الاردنية. تحولت بصرى في العهود الكلاسيكية والاسلامية الى مركز تجاري وذلك لوقوعها على نقطة تجارية مهمة، بالاضافة الى غناها الزراعي ولكونها موصولة بالطرق الساحلية والداخلية بشبكة مواصلات، كما من مظاهرها الجسور المرتبطة بالطرق التجارية المنطلقة من بصرى والمقامة على وادي الزيدي الواقع الى الشمال منها على بعد 2 كيلومتر تقريباً. تعتبر بصرى المحطة الاخيرة على طريق الحج المتجهة نحو الاماكن المقدسة في الحجاز قبل اجتياز المسالك الصعبة في البادية العربية، وتمتاز بصرى بوجود عدة مصادر للمياه منها نبع يزوّد السكان عادة بماء الشرب بالاضافة الى الاحواض الكبيرة لتجميع المياه. ومن هذه الخزانات بركتان لا تزالان قائمتان، احداهما في الطرف الشرقي لتزويد حمامات المدينة بالمياه والثانية اسمها بركة الحج لارتباطها بدرب الحج الاسلامي. توجد في بصرى عدة حمامات نظراً لكثرة الوديان الجارية والآتية من جبل العرب، من اهمها الحمامات الجنوبية التي تعود للقرن الثاني الميلادي، وما زالت بصرى تحتفظ الى الآن بأجزاء مهمة منها ساعدت في معرفة الاساليب التقنية التي كانت متبعة فيها. وهناك حمامات "خان الدبس" وهي مجاورة للسوق وكانت مخصصة للتجار الذين يعبرون المدينة، وهي تحتل مساحة اوسع من الحمامات الجنوبية. وهناك ايضاً حمامات المعسكر وتقع داخل المعسكر الروماني في شمال المدينة، كذلك يوجد حمام يعود للفترة الاسلامية المملوكية ويحمل كل صفات العمارة المملوكية من مقرنصات ومحاريب وتناوب الحجر الابيض والحجر الاسود. الحمامات الجنوبية تقع في وسط المدينة، قد بنيت جدرانها من الحجر البازلتي الاسود وسقوفها من الحجر الخفان الخفيف وذلك بسبب سعة القاعات اذ يبلغ طول احداها 13 متراً، وقد استخدمت بذلك طريقة القبب وبنيت على شكل هرم مقطوع وترتكز على الجدران وعلى عقود حجرية ضخمة، غير ان حالة الحفظ الخارقة التي يتميز بها البناء تسهل مهمة تفحص الاساليب التقنية التي استعملت في تجهيزه والتي تتسم بطابع مبتكر، مثل ادخال اقنية التدفئة في داخل الجدران او سقف الممرات ضمن العقود الحجرية، التي تتألف من اقبية من الآجر. وتتألف هذه الحمامات من عدة قاعات اكبرها قاعة رئيسية مثمّنة تقدر ابعادها بثلاثة عشر متراً وارتفاع عشرة امتار، وجميع قاعاتها ما زالت الى اليوم في حال جيدة ما عدا السقف الذي تعرض للانهيار كما ان جميع المواقد ما زالت قائمة وقد بنيت من الآجر الاحمر. وتعتبر هذه الحمامات كاملة الاقسام وتحوي قاعات. كل قاعة تختلف عن الاخرى باختلاف الحرارة حيث ينتقل المستحم من القاعة الحارة الى الدافئة الى الباردة كما ان اقنية التدفئة والتي كان الهواء الساخن المتصاعد يمر فيها ليدفئ القاعة قد ادخلت ضمن الجدران، وتمتاز بتقنية عالية كونها حفرت بدقة ضمن هذه الجدران كذلك تمتاز الحمامات بوجود الاحواض الداخلية المتعددة والتي تحتويها القاعات، كذلك توجد احواض صغيرة للشخصيات البارزة ويدل على ذلك استقلاليتها وقد بنيت بين قاعتين وبشكل منفرد ومستدير وجميل كذلك وجدت فيها فتحات بالسقف مزودة بحواجز مزججة تساعد على دخول الضوء للقاعة كما تغطي جدران هذه القاعات ألواح من الرخام بيضاء ورسومات جدارية فوق طبقة من الجص. كما تحتوي هذه الحمامات امكنة للاستراحة وامكنة للرياضة والتدليك، وفي الجزء الغربي من الحمامات وتحت ارضيات الحجرات وجدت شبكة من المداخن يبلغ عمقها قرابة المترين استخدمت للوقود كما بنيت خزانات المياه التي تغذي هذه الحمامات في القسم الشمالي منها وقد اوضحت الحفريات بان مراحل البناء الاولى تعود للقرن الثاني الميلادي التي حصلت عند انشاء الولاية العربية وبقيت تستخدم حتى العهد الاموي. حمامات السوق من خلال اعمال الكشف الاثري الذي اجري حديثاً في بصرى تبين ان معظم اجزاء حمامات السوق تشكل مجمعاً استحمامياً كان مجهولاً. وتختلف احواض الاستحمامات هنا عن الحمامات المركزية بتنوع اشكالها وبسعة احواض الاستحمام فيها اذ انها هنا ذات اشكال مختلفة منها بيضوي بطول 25م وعرض 12م وبنيت بداخله حجرات جانبية ومنها ذو شكل مستدير ولكن بحجم اصغر. وقد اظهرت الاكتشافات الاثرية كذلك ان لهذه الحمامات ابواباً تفتح على السوق مباشرة وابواباً من الجهة الاخرى باتجاه الشمال ووجدت في هذه الحمامات عدة افران لتسخين المياه واقنية جدارية لتسخين القاعات. حمام المعسكر ويقع هذا الحمام الى شمال المدينة وقد اقيم للفيلق المقيم في بصرى والمعروف ب"الفرقة البرقاوية الثالثة" وقد استقدمت هذه الفرقة من مصر عام 119م وعسكرت في بصرى واعتبرت كحامية للمدينة وللطرق التجارية، ويبدو ان حمامات المعسكر كانت واسعة الا انها تعرضت للتدمير فبقيت معظم اجزائها محجوبة عن الانظار تحت الردم ولم يسلم منها سوى صالة واحدة مسقوفة لا تزال قائمة الى الآن. حمام المنجك أنشئ هذا الحمام على يد نائب سورية ودمشق منجك اليوسفي المملوكي عام 732-772ه، وهو يعتبر مثالاً رائعاً وفريداً عن الهندسة المعمارية في العصور الوسطى ويقدم دليلاً واضحاً على استمرار اهمية المدينة حتى العصور الوسطى المتأخرة وعلى استمرار تطور المرافق العامة لخدمة الحجاج المارين ببصرى الى المدن المقدسة في الحجاز. كما صنعت القباب العلوية من حجر الجير الابيض والتي كانت فوق فتحة المدخل، وكذلك نوافذه والتي تحمل النص الذي يشير الى تأسيس المبنى وشعار منجك اليوسفي مؤسس الحمام، وما زالت موجودة في احد البيوت المجاورة. اما من الناحية المعمارية فيتكون المبنى مثل كل المباني التي انشئت لهذا الغرض من ثلاثة اجنحة كجناح الاستقبال والحمام نفسه وغرف الخدمات، ومن شبكة محكمة من الانابيب الفخارية المزدوجة، وعثر ايضاً في الحمام على اماكن الاستحمام الثمانية عشر، كذلك يوجد خط للماء البارد حتى حوض الماء الموجود في غرفة الاستقبال. ووجدت ارضية الحمام مغطاة بحجارة مختلفة عثر فيها على قطع رخامية ذات تشكيلات مختلفة الاحجام والالوان، وكان للارضية انحدار خفيف يسمح بصرف الماء المستخدم في الاستحمام حين يبدأ جريانه من قسم المدخل الى جناح الاستحمام، ثم بعد ذلك يتم تصريفه بعيداً عن ارضية غرف الاستقبال عن طريق قنوات تسير حول حوض الماء. ان بناء هذا الحمام يمثل براعة ودقة ملاحظة مؤسسه منجك اليوسفي الذي وصل الى اعلى مرتبة كنائب للسلطان الملوكي الاشرف شعبان. ولم يكن الهدف من بناء الحمام تطوير المرافق العامة لمدينة بصرى فحسب وانما من اجل اعمار طريق الحج. ويقدم ترميم هذا الحمام الذي استمر عدة اعوام من جديد دليلاً على المستوى الرفيع الذي وصلت اليه الحضارة العربية الاسلامية خلال العصور الوسطى. وساهم بكشف الحمام المملوكي وترميمه في بصرى الاثرية بعثة اثرية سورية - المانية برئاسة ماينكه مدير المعهد الالماني في دمشق والمديرية العامة للآثار والمتاحف متمثلة بدائرة آثار بصرى. واصبح هذا الحمام الآن متحفاً اسلامياً لتوثيق المباني التاريخية الاسلامية في مدينة بصرى، كما ساهمت البعثة الاثرية الفرنسية - السورية المشتركة برئاسة جان مارين ونتزر بدراسة الحمامات الجنوبية في بصرى وما زال العمل يجري لترميم الحمامات نظراً لما تقدمه من شواهد ومعطيات تلقي الضوء عن ارث حضاري وفن معماري عريق.