الكتاب: مصادفات" شعر المؤلف: فايز خضور الناشر: وزارة الثقافة - دمشق 1999 بعد سبعة عشر ديواناً هي حصيلة تجربة الشاعر فايز خضور، صدر أخيراً ديوانه الجديد "مصادفات" الذي كان نشر قصائده في جريدة "الحياة" عبر أربع وأربعين مصادفة. وعلى رغم أن هذه "المصادفات" استبدلت العناوين الفرعية بالأرقام، فإن قراءتها يجب أن تكون بعيدة عن اعتبارها وكأنها تمثل نصاً شعرياً طويلاً واحداً نظراً الى أن كل مصادفة تتناول بعداً خاصاً من أبعاد التجربة التي ينشغل بها الشاعر سواء على المستوى الذاتي الخاص، أو المستوى الجمعي العام اضافة الى الخصوصية الأسلوبية والإيقاعية التي يمتلكها النص الشعري لكل مصادفة. إلا أن البعد الدلالي الذي تنطوي عليه عملية الترقيم في هذه القصائد هو أن الشاعر يتخلى عن قصيدة الموضوع، ويحاول أن يقدم تجربة متكاملة تحمل طابع المكاشفة والبوح، وتعبر عن علاقته الصوفية بالشعر ورؤيته الخاصة التي ترى فيه خلاصاً وقيمة إبداعية عليا عبّر عنها الشاعر في موقفه وانحيازه الكامل طوال تجربته الممتدة من منتصف الستينات وحتى الآن لقضية الشعر الذي ظل يرى فيه عشقه الكبير وأداة الكشف وسر الإبداع. ان قراءة تجربة فايز خضور خارج إطار وعي الشاعر ورؤيته الى الإبداع والحياة لا يمكن أن تمتلك مفاتيح عالمه الشعري وتجربته الخاصة، فالشاعر المتوحد بالشعر والساعي دوماً الى تطويع اللغة ينطلق من أن اللغة هي الشاعر، ولذلك يحاول في خطابه الشعري أن يزيل الحدود بين اللغة الشعرية واللغة المحكية التي يحاول أن يستوعبها ويوظفها في سياق بنية الخطاب الشعري كجزء أساسي منه، وليس كتضمين أو شواهد حيث يحاول أن يستفيد من البنية الإيقاعية لهذه اللغة، اضافة الى كثافة معناها التعبيري وحضورها في الوجدان، الأمر الذي يجعل مصادفاته لا تخلو في أية قصيدة من هذا التشابك العضوي بينهما، والذي يميز لغة خضور ويعطيها طابعها الأسلوبي والإيقاعي الخاص. ثمة موضوعان أساسيان تتمركز حولهما قصائد الديوان هما: المرأة والعلاقة الروحية والحسية معها، وموضوع التجربة السياسية حيث يحاول الشاعر في خطابه الشعري أن يعبر عن تجليات هذه العلاقة ويستعيد تاريخها وتواريخها بلغة سردية لا تخلو من البوح والمكاشفة الصادقة والأمنية التي تعبر عن موقف الشاعر ووعيه وحس التمرد والتسامي من خلال الشعر لديه. وإذا كان الشاعر "خارجياً" في موقفه السياسي، فإنه في علاقته بالمرأة ذات الطابع الصوفي الحسي يظل مسكوناً بهواجس وتداعيات وصورة تجربته مع المرأة، فيغدو الشعر في الموقفين مسكوناً "بوهج الحروف العاشقة" وموزعاً في رؤياه ومكابداته "ما بين كان، وصار، وأصبح..." التي هي أزمنة تحولات التجربة، وعلامات تواريخها ومفارقاتها، ووقائعها التي تدون ذاكرتها الشعرية المسكونة بحرية الريح واشتهاءات الرغائب. تغلب على الجانب الأسلوبي في قصائد الشاعر الجملة الأسمية التي تشكل جملة افتتاحية لأكثر من خمس عشرة مصادفة، في حين تشكل الجملة الفعلية عشر جمل افتتاحية، وتتوزع الجمل الأولى في القصائد الأخرى بين صيغة الماضي الناقص وشبه الجملة والحال والظرفية والنداء. ويمكن القول إن قصيدة خضور استكملت خصائصها الأسلوبية والبلاغية والتعبيرية، لتشكل بنية القصيدة في سماتها المختلفة امتداداً لتجربة الشاعر ولغته التي تتميز باعتمادها الواضح على صيغ المبالغة والتضعيف فعَّلت - فعيل - فعّال - فعيلات - مفعول، اضافة الى استخدام حشد التوصيف من خلال متواليات الأفعال المضارعة. لكن الملاحظ في هذه القصائد هو غياب الحوارية الا في حدود ضيقة، حيث يلجأ الشاعر الى الوصف أو السرد الشعري والى المقابلة عبر استخدام عدد من الأفعال الماضية أو الانتقال في زمن الفعل من الماضي الى المضارع للتعبير عن موقفين أو حالتين كما في "فاتحة الأسفار الأخيرة" إذ يفيد هذا الأسلوب في الانتقال من وضع ابتدائي هو زمن الماضي الى زمن الحاضر الذي تستكمل سيرورة التجربة على صعيدي الرؤية والموقف أبعاده وصورته ومعانيه. إن التقديم والتأخير في التركيب النحوي للجملة الشعرية يؤديان الى نتائج معنوية دلالية، ويجعلان انتباه القارئ يتركز على جانب محدد يريد لشاعر أن يبرزه، كما ان الشرح والتفصيل والتعليق تفيد في إيضاح المعنى. ولعل اهتمام الشاعر الجلي بالمكاشفة والفضح والتعرية والتعبير عن مواقفه وإلحاح ذكرياته جعله يميل الى التقريرية والوصف، اضافة الى وضوح المستوى التركيبي البلاغي القائم على الاستعارة والمجاز. وتتجلى صيغ أفعال الطلب والنداء أو الاستفهام كجزء من البنية الخطابية أو الحوارية التي غالباً ما يلجأ اليها الشاعر في مصادفاته، وتعبر في دلالاتها عن حضور أنا الشاعر المحتدمة أو الغاضبة، الساخطة أو المتمردة، أو المعتدة بذاتها. في المصادفة الأربعين تبتديء القصيدة على المستوى التركيبي بجملة اسمية تليها خمسة أفعال مضارعة تمثل حشد توصيف، ثم فعل أمر تليه أداة نهي وثلاثة أفعال أمر. وتتوزع أزمنة الفعل في ما بعد بين الماضي والمضارع والأمر وبين جملة الاستفهام لتنتهي القصيدة بفعلين ماضيين. وتتميز الجمل بقصرها وإيقاعها السريع الناجم عن ذلك، الى جانب التنوع في صيغ الخطاب بين الشرح والتفصيل والحوار المباشر والوصف والتعبير عن معنى التجربة بالنسبة الى الشاعر وموقفه منها. ويتضح التكرار في أكثر من قصيدة، خصوصاً التكرار الاستهلالي لحرف أو فعل أمر أو التكرار العباري الذي يفيد في الالحاح على جانب محدد لتأكيد حضور الموضوع في ذهن المتلقي، بالاضافة الى خلق بنية إيقاعية منتظمة كما في المصادفة رقم 38 و33 و18 و16 و15. كذلك يلجأ الشاعر الى المقابلة بغية إضفاء طابع من الحركية على الصورة الشعرية. لكن الميزة الأساس للخطاب الشعري عند خضور تتمثل في تداخل المستويات المعجمية التي تشكل مفاتيح الخطاب الشعري من خلال تنوع كلمات هذا الخطاب ودلالاتها، الى جانب وضوح تناص اللغة القرآنية في هذه القصائد حيث يعمد الشاعر أحياناً الى إعادة بناء هذه اللغة لكي تخدم الغرض الذي يوظفها الشاعر من أجل تحقيقه. إن الشاعر خضور في هذا الديوان ينحاز الى الوظيفة الإبلاغية والتعبيرية للشعر نتيجة انشغال الشاعر القوي بالهم الاجتماعي والسياسي، وتأكيد حس التمرد وتعبيره عن موقفه ورؤياه الى العلاقة مع المرأة والواقع. وبقدر ما تتجلى "الأنا الشاعرة" مبتكرة الأسرار ومطاولة ما لا يطال، فإن المستوى التركيبي النحوي والبلاغي يحافظ على طابعه المميز للخطاب الشعري عند الشاعر. كما تتضح علاقة الخطاب الشعري بالتجربة من خلال التعيين الزمني أو المكاني بعد - حين - يومها - قبلها - - صعيد العلاقة بالآخر الانثى، وتبرز مسافة التوتر القائمة بين وعي الشاعر وواقع الخذلان والسقوط والضياع ما يسهم في علو نبرة الخطاب وتوجعه، وتشكيل صيغه الزمانية وتوزعها في حركتها بين الماضي والمضارع، وبين ما كان وما يكون حيث تبرز لوعة الشاعر وأساه وأنفته ورفضه... وهي السمات الغالبة على تجربة الشاعر.