أود أن اعتذر من القارئ لأني سأثير شوقه في السطور التالية وافتح شهيته إلى المعرفة من دون ان يكون باستطاعته ان يصنع شيئاً لتلبية الشوق أو سد الشهية. إذ انني سأتناول موسوعة للأدب العربي صدرت قبل أشهر في لندن بالانكليزية، وهي موسوعة مرتبة ألفبائياً، وتقع في ما يزيد على 800 صفحة، وتتناول بالتعريف المختصر اعلام الأدب العربي وأمهات كتبه وقوالبه الفنية ومفاهيمه الأساسية، منذ ما قبل الإسلام حتى الثمانينات من هذا القرن. أما لماذا يعجز القارئ عن تلبية شوقه إلى العلم، فلأن هذا المصدر المعرفي المهم بلا مثيل في العربية. وهذه هي المفارقة الكبرى: المستشرقون يعكفون سنوات طويلة على إصدار موسوعة شاملة للأدب العربي، فيسبقون بذلك أساتذة الأدب العربي ونقاده ومؤرخيه، ويسبقون أيضاً الجامعات ووزارات الثقافة ودور النشر الحكومية والخاصة في نيف وعشرين بلداً عربياً. وهكذا يصبح متوفراً للقراء والباحثين وطلاب العلم من الأوروبيين والأميركيين المهتمين بالأدب العربي في أي عصر من عصوره مرجع عصري حيوي لا يتوفر مثله لأبناء العربية أنفسهم. ولو كنّا هنا نتحدث عن القرن الماضي أو ما قبله، لما كان في الأمر مفارقة أو حرج، فالنهضة العربية لم تكن حصلت، وجهود المستشرقين في حفظ الأدب العربي وتحقيق مخطوطاته ودرسه ونشره في غنى عن التنويه. ولكننا نتحدث عن يومنا هذا في العام الأخير من القرن العشرين، ومع ذلك ما زلنا نجد أنفسنا عالة على مستشرقي الغرب في تصنيف أدبنا وخلق المراجع المعينة على درسه. حرر الموسوعة استاذان جامعيان: الأولى هي جولي ميسمي من جامعة اكسفورد، مختصة في الأدب العربي القديم، والثاني بول ستاركي من جامعة دَرَم، مختص في الأدب العربي الحديث. جند هذان الاستاذان عدداً من المختصين من الجامعات الأوروبية والأميركية يبلغ نيفاً ومئة، واستكتبا كلا في مجاله، عدداً من المقالات التي تتراح طولاً بين ربع عمود وثلاثة أو أربعة أعمدة، حسب أهمية الموضوع. ثم جمع هذا كله فرتب ألفبائياً ودفع إلى ناشر لا هو بالكبير ولا هو بالصغير، فإذا بمرجع غير مسبوق في اخراج أنيق، تجد فيه تعريفاً موجزاً بالجزائري مولود فرعون، واللبنانية اميلي نصرالله، والفلسطيني سميح قاسم، كما تجد فيه الحكيم الترمذي، متصوف القرن التاسع جنباً إلى جنب مع توفيق الحكيم، مسرحي القرن العشرين. وإذا بحثت عن "سيرة بني هلال" فهي هناك، وإن رغبت في شيء عن "أدب السيرة" بصفة عامة، فأنت واجده. وأنت كذلك واجد مداخل عامة كثيرة تحمل سمة المقالة، من قبيل "أدب الرحلات" و"الطبيعة في الشعر الكلاسيكي" و"النثر غير القصصي في العصر الوسيط". ولا يقتصر التعريف على الاعلام المشهورين، فأنت واجد إلى جانب المتنبي والجاحظ وأحمد شوقي ونجيب محفوظ، اسماء أقل لمعاناً مثل أو دلف العِجلي القاسم بن عيسى، شاعر وموسيقي وقائد عسكري من القرن التاسع، عاصر الخليفتين المأمون والمعتصم. وعلى حين ان الموسوعة تعتمد في اختياراتها الحديثة المفهوم الحديث لكلمة "أدب"، بمعنى الابداع الفني في نطاق الأنواع الأدبية المعروفة من شعر وقصة ومسرحية ومقال... الخ، فإنها لا تفعل ذلك في ما يتعلق بالعصر الكلاسيكي، بل توسع مفهوم المصطلح ليتجاوز الابداع الخيالي، فيشمل كتابات السيرة والتاريخ والجغرافيا والفلسفة... الخ، وهي سياسة موفقة لا شك من محرري الموسوعة، لأن الحدود التخصصية الحديثة بين الأنواع الأدبية لم تكن قائمة لدى القدماء. ويعلن المحرران في تقديمهما الموسوعة أنهما انتهجا سياسة تهدف إلى اعتماد أحدث ما توصل إليه الدرس العلمي والبحث المنهجي في ما تتناوله الموسوعة من مواد، وليس إلى اثبات الآراء التقليدية المأثورة من قديم. وبغض النظر عن مدى توفيق المساهمين في الموسوعة إلى هذا الهدف، فلا جدال في أنه هدف نبيل في حد ذاته لا يزال يراوغ الكثير من الدراسات التي تكتب بالعربية. على أنه ما من عمل جيد يخلو من مثالب. وفي هذه الموسوعة نرى تفاوتاً في المستوى بين المواد الكلاسيكية والمواد الحديثة من حيث النوعية والشمول، وهو تفاوت في صالح العنصر الكلاسيكي الذي تتمتع مواده بخاصية "المختصر المفيد"، وهي خاصية أساسية في تحرير الموسوعات، كما انه يخلو من الفجوات. وليس كذلك الأمر في ما يتعلق بالمداخل الحديثة، التي تتسم في ما خلا بعض الاستثناءات بتقديم مادة تقوم على عرض وقائعي سطحي لا يشفي غليلاً ولا يواكب أحدث الابداعات والتطورات الأدبية والثقافية، وكثير من المداخل يبدو واضحاً في الاعتماد على المراجع الثانوية لا المصادر الأساسية، فتحس ان كاتب هذا المدخل أو ذاك استقى مادته من بعض ما كتب عن الروائي أو المسرحي أو الشاعر الذي يكتب عنه، ولم يقرأ أعمال الكاتب نفسه ليفهم ما يكتب عنه ويستطيع ان ينفذ بنا إلى صميم أفكاره وانجازاته في عبارات قليلة. أما عن الفجوات في مادة العصر الحديث التي غابت عن انتباه هيئة التحرير، فهي كثيرة وبعضها لا يمكن تبريره بحال. وإليكم بعض النماذج أسوقها كيفما اتفق غير قاصد بها الحصر وإنما مجرد التمثيل. في مجال الرواية والقصة لا نجد ذكراً لمحمد عبدالحليم عبدالله ويحيى الطاهر عبدالله ومحمد مستجاب وأحمد إبراهيم الفقيه وإبراهيم الكوني وفؤاد قنديل وإبراهيم عبدالمجيد. في مجال المسرح نجد حذفاً يصعب التعايش معه لسعد الدين وهبة، أحد أعمدة المسرح المصري في النصف الثاني من القرن. في مجال الكتابة النسوية ثمة غيابات خطيرة أيضاً، فلا ذكر هناك لسلوى بكر أو أهداف سويف أو كوليت خوري أو رضوى عاشور أو هدى بركات. وفي مجال النقد الأدبي لا نجد ذكراً لزكي مبارك ولا شكري عياد ولا جابر عصفور. والقائمة تطول لو قصدنا الإحاطة، إلا أننا نكتفي بهذا القدر. والذي نرجوه في ختام هذا العرض السريع ان يحرص الناشر على إصدار طبعة جديدة من الموسوعة كل خمس سنوات أو نحوها، فيمكن بذلك تلافي نواقص الطبعة السابقة ومواكبة المستجدات. ونرجو كذلك ألا يمر وقت طويل قبل أن يصدر عمل مماثل بالعربية لخدمة القراء والباحثين العرب الذين طال حرمانهم من هذا اللون من المراجع. أما الذي لا ارجوه فهو ان تسارع إحدى الهيئات أو دور النشر إلى ترجمة الموسوعة إلى العربية، فهي عمل يتوجه في الأساس إلى الدارس الغربي. ولو كانت هذه موسوعة عن الأدب الانكليزي أو الأوروبي، لكان هذا جائزاً، أما الأدب العربي فأولى بأهله ان يضعوا فيه الموسوعات التي تعرفهم به. موسوعة الأدب العربي، تحرير جولي ميسمي وبول ستاركي، صدرت عن دار "روتلدج" في لندن ونيويورك، 1998.