إذا كان من السهل على الناقد الادبي اصدار احكامه على النصوص بسهولة فالاصعب في كبرياء التلقي ان تعاودنا الفتنة كلما كررنا القراءة، وأن تنفتح امامنا شفرات النص. وهي تعيد - بآلياتها المتجددة - ايقاظ الوعي المتوهج به.. نسوق هذه المقدمة قبل الدخول الى العالم السردي للقاص محمد عبدالرحمن المر، لأننا سوف نظلم تجربته الابداعية إذا قرأناها في سياق واقعي رغبة في تطابق تأويلاتنا مع المسابقات التي تحاول ان تجعل النص مطابقا لها. والاطلالة الاولى على قصص المر في مجموعته "مدينة م" الصادرة عن هيئة الكتاب تجعلنا ننتصر لمنهجية كون اللغة اداة لاستقطاب الواقع الخارجي في طريقة مفارقة لوعي التلقي وخبرته، لأنه اختار الانغماس في معاني نادرة تحتفي بالانسان في المفهوم الانثربولوجي، وتتسامى على زمانية التجارب التي تنهل من اليومي على حساب المشاعر الانسانية. فالبيت - في سرده - ليس بيت الريف او بيت المدينة في المعنى السوسيولوجي المعاصر، بل هو "الدال" الذي بنته واقعية اللغة لطفله الكوني المستلب والمحروم. وبالتالي فالحواجز - عنده - ليست فواصل اسمنتية تقع خارج الوعي وخبرة الشعور، بل هي بنت الوعي الانساني البدائي وكذلك بقية دالاته واشاراته السجن، العصافير، الاطفال، اللعب، الالوان، الابراج، الصندوق، الصحراء، الابواب المغلقة، البلد الغريب، البندقية. وكذلك ثنائياته التي تمتص خبرة الكون ودرامية الخلق السمين والهزيل، الشمس والليل، العصفور والسجين، الكهل والطفل، البحر والصحراء، الفن والخبز، النافذة والحائط. وفي تقديري ان استسهال التأويل في قراءة هذه الثنائيات يوقعنا في حفرة كبيرة، اعدها المؤلف لمن اعتادوا مجرد القراءة السطحية. ففي الطبقات التي تتشكل منها بنية السرد، تلعب الرموز والاشارات ادواراً بعكس مدلولاتها الظاهرية وربما المتعارف عليها في مدارس التحليل النفسي. ففي مجموعته الاخيرة - مدينة "م" كما في اعماله الاخرى اوراق الحب والعطش، صندوق الدنيا، سحابة بيضاء، الفخ تبدو القراءة الاولى نوعا من الرصد الافقي البعيد عن حدود البنية الداخلية ومحاورها، نرى المدينة فنحسبها كذلك، نصادف اطفالا يلعبون فنخالهم فرحين، تحلق الطيور اسرابا، فنهلل للمعادلات الموضوعية، نفرح باكتشافنا غربة ألبير كامو وعجوز هيمنغواي وعدمية كافكا وسحرية ماركيز ومأسوية تشيكوف... يستغرقنا غرور التأويل فنربط عربة السرد في قصص "المر" بقطار القصة كما نراه. وفي القراءة الثانية نكتشف سقوط اليقين الزائف ومعه اقنعة القراءة الاولى. تتجلى دهشة التلقي - في القراءة الثانية - حين نكتشف ان النصوص تخلو تماما من اية اشارة تشي بزمان او مكان محددين فلا توجد صور تطابق الاشياء المتعينة في خبرتنا. ولنبدأ القراءة من الرموز التي بنى منها هيكله القصصي، فاستقرت تكراراً، وتعمدت الدينامية الصورية بأسلوبية تخلو من المجانية. يلعب الطير- كرمز عمودي سام - دورا مركزيا في تشييد هيكل السرد، سواء في المعنى الميتافيزيقي الاسطوري او في المعنى الواقعي. فهو اليمامة الحانية في قصة "صورة" وهو الفرخ الدافئ والعصافير النائحة في قصة "م"، مكسور الجناح في قصة "الفخ" والعدو اللدود لحارس الغلال في قصة "العصافير". وهي الطيور المفترقة والمعذبة، هي "طائر الفن" وطائر "الزنزانة" المقتول برصاصة طائشة والعصفور الهزيل هدية الضابط لابنته في عيد ميلادها في قصة "القلعة" والحمام في قصة "الحاجز" بعد فك سراحه من البرج. انه ذلك الطير المعادل لصورة الانسان حينما يتحول الى اداة يقمعها القبح والحواجز، فيخرج من حرية الطبيعة الى قيد الأنسنة، يفقد اجنحته وذاته حينما يرتطم بالاعيبنا وسحرنا البشري ورغبتنا السادية في الاستمتاع بإفساد العالم. وتتحول الصورة السردية - في دلالتها - من الرغبة في التمثيل الانساني لحالة الطير ذي الاجنحة الى العكس، حينما ينزل الطائر من عليائه ليمشي على الأض بلا جناحين. يتكرر ظهور الصندوق والعلبة على نحو يؤكد الدلالة النفسية للصندوق باعتباره ذكرى مالا تعيه الذاكرة من زمن. ففي قصة "البهاوان" تستدعي صورة الصندوق ذلك الفرح العجيب في ثقافتنا الشعبية باعتباره احد المجاهيل المغرية لذاكرة الطفولة. ولم يقع "المر" في حبائل اسطرة الصندوق في تحويله الى علبة مطلقة، بل حاول الكاتب تحويل المطلق الى نسبي، كما في قصة "الفرح وصندوق الدنيا". تسيطر على فضاء السرد ثنائيات وتقابلات تؤدي دور المراكز الكونية في رسم صورة القص، وتكاد تختفي الالوان الرمادية الوسطى لمصلحة الابيض والاسود الجذريين. ففي ثنائية الليل والشمس يضئ الليل بخيالات الاستدعاء، وتعتم الشمس حينما لا تؤدي وظيفتها الكونية. وتمضي الثنائيات في القصص لتعكس تجليات الابيض والاسود في ثنائيات مثل: الكهل والطفل، الصبي والمعلم، الضيف والمضيف، الفن والخبز. وقد حشد المر في سفينة القص من كل نوع إثنين لكي تتحقق فاعلية الجدل والخصب، ولتتكاثر ذرية الكون القصصي. ومع ثنائياته انتشرت المنمنمات الصغيرة التي تفعل فعلها في ذاتها وليس نسبة الى الجسد الذي يحملها الكف، العين، الرمش، الاصبع، الشعر، الانف. ويلعب التشكيل الجمالي الوصفي للصورة دوره المهم، كما تفعل اشعة الشمس في قصة "م". وعلى رغم حفاظه على جلال اللغة التي تليق بنبل ابطاله الا ان الكثافة والشاعرية وتواتر الايقاع النثري قد عبرت به من حواجز البناء التقليدي للقصة الى أفق حداثي يفرض النص دون اعتساف. وعبر بنية متصلة منفصلة استطاع الكاتب ان يبني هيكلا حجريا صلبا، تستقل كل لبنة - او وحدة سردية - فيه بطريقة تنفصل في الواقع المادي، لكنها تتصل في الذاكرة وتخلق جماليتها الخاصة.