أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    ورشة عمل لتسريع إستراتيجية القطاع التعاوني    إن لم تكن معي    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأمير خالد بن سلطان يحاضر في ندوة لمعهد القوات المسلحة الملكي للدراسات الدفاعية البريطانية تؤرخ للمملكة وقائدها الأول : الملك عبدالعزيز استراتيجي في بناء التحالفات وتكتيكي في قتال المعارك
نشر في الحياة يوم 02 - 11 - 1999

ساهم الفريق أول ركن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات في "عاصفة الصحراء" في الندوة التي اقيمت في لندن بمناسبة المئوية الأولى لتأسيس المملكة العربية السعودية وتكريماً لملكها الأول عبدالعزيز، والتي نظمها معهد القوات المسلحة الملكي للدراسات الدفاعية البريطانية بالتعاون مع وزارة الدفاع والطيران في المملكة العربية السعودية. وجاءت المساهمة محاضرة تلاها بالنيابة عنه الجنرال السير بيتر دي لابليير قائد القوات البريطانية في عملية "عاصفة الصحراء". وهذا نص المحاضرة وعنوانها "الملك عبدالعزيز استراتيجي في بناء التحالفات وتكتيكي في قتال المعارك".
سيداتي، سادتي.
يسعدني أن أشارك في هذه الندوة، التي تتحدث وتؤرخ لمؤسس المملكة العربية السعودية، وأول ملوكها، القائد الذي أعتز وأتشرف بالانتماء إليه، جدي العظيم.
سأتحدث عن الاستراتيجيات والتكتيكات، التي واجهت الملك عبدالعزيز، أو ابن سعود، كما هو مشهور به، في حملته الطويلة، ومعاركه الكثيرة، لتأسيس المملكة العربية السعودية.
ولد ابن سعود، في الثاني من ديسمبر عام 1880، في الرياض. وتوفي في الطائف، في التاسع من نوفمبر عام 1953، عن حياة امتدت ثلاثة وسبعين عاماً، وأي حياة كانت!
فمنذ استعادته الرياض، في يناير 1902، خاض ابن سعود سلسلة من المعارك، في جبهات عسكرية ودبلوماسية، دامت خمسين عاماً.
قاد قواته بنفسه، في ثلاثين واقعة من الوقائع الرئيسية، فضلاً عن عدد لا يحصى من المناوشات العسكرية. وعقد الاتفاقات الثنائية مع كل من المملكة المتحدة والدولة العثمانية وايطاليا والمانيا ودول أخرى، ترسيخاً لمملكته، وتقوية لموقفها الدولي، أو لكسب الوقت في الحروب، التي خاضها. ان كل حدث من هذه الأحداث جدير بأن يكون تاريخاً مشرفاً، في حد ذاته.
وعليّ أن أعترف، أن الحديث عن خمسين عاماً، في أقل من ثلاثين دقيقة، يعدّ تحدياً خطيراً، حتى لجنرال متقاعد.
لذلك، وفي ظل الوقت المسموح به، سأركز في الأحداث الرئيسية، التي ستتيح الفرصة لفَهْم استراتيجية هذا القائد، وتعرف معاركه ودبلوماسيته.
إن السمة الأبرز في مسيرة ابن سعود، هي وضوح رؤيته الى الأحداث، وبعد نظره. فقد كان يخطط، لما يريد تحقيقه من أهداف، ويعلم كيف يحققها. لقد وُهِبً مَلكة، ما يطلُق عليه، الآن، الاستراتيجية العليا.
لم يتلقّ ابن سعود تعليمه في أكاديمية ساندهيرست، كما تيسّر ذلك لحفيده، الماثل أمامكم، ولكنه كان يتمتع بحاسة المبادأة، سواء في بناء دولته، كرجل دولة، أو في خوض معاركه، كرجل عسكري.
كان يتمتع، كذلك، بما يسمى، الآن، الحضور والجاذبية كاريزما - وهما مزيج من: سحر الشخصية، والذكاء والفطنة، ومظهر القيادة وهيبتها. كان قائداً يضحي جنوده بأرواحهم فداء له، وقد فعل ذلك كثير منهم.
قبل أن أسترسل، أتساءل ما الاستراتيجية؟ انها، من وجهة نظري، الشمولية والمستقبلية. هي القدرة على التخطيط الشامل، للمستقبل البعيد، تحقيقاً لأهداف عليا سامية. فإلى أي مدى، كانت أفعال الملك عبدالعزيز وانجازاته، دالة على استراتيجيته، أي شمولية الرؤية وبُعدها؟
ولننظر الى طبيعة مسرح شبه الجزيرة العربية، قبل عام 1902. كيانات هزيلة ضعيفة، قبائل متناحرة، غارقة في أنهار الدم، ولاءات الكيانات تتقلب بين قوة وأخرى، وقوى خارجية تتحكم في المصائر. زعامات لا وزن لها، ولا قيمة، تعيش على هامش الحياة، منفصلة عن قضايا أمتها العربية والاسلامية. تفشي الأمراض، وسيادة الجهل، وافتقاد الأمن والاستقرار. والأسرة السعودية، صاحبة الحق، في منفاها، في الكويت.
هذا هو المسرح قبل عام 1902، فكيف أصبح، عام 1953، يوم رحل عنا العاهل العظيم؟
توحد معظم شبه الجزيرة العربية، في دولة فتية، باسم المملكة العربية السعودية، تربو مساحتها على مليوني كيلومتر مربع، تترامى، من البحر الأحمر الى الخليج العربي. وُئِدت الصراعات القبلية، واستُعيدت الهوية العربية والاسلامية. أما السياسة الخارجية فتتمتع بالاحترام الدولي، لاتصافها بالحيدة والاتزان والوضوح.
اكتُشف النفط، وتحول الى صناعة حديثة متقدمة، ولم يُسمح لأحد باحتكاره. انتشر التعليم وأصبح إلزامياً. شملت الرعاية الطبية أرجاء المملكة، وأنشئت أحدث المستشفيات. ربطت المطارات والطرق السريعة أنحاء بلدنا المترامي الأطراف، ووصلته بدول العالم. انتشرت المدن العصرية، في طول البلاد وعرضها، وأنشئت الموانئ الحديثة. بنى الملك عبدالعزيز سياسته الخارجية على عدم توريط المملكة، أو المنطقة العربية، في الصراعات الدولية. بقي على الحياد، طوال الحرب العالمية الأولى، على الرغم من الضغوط، التي مارستها كل من الدولة العثمانية وبريطانيا العظمى. واستمسك بحياده، معظم فترة الحرب العالمية الثانية.
علاقاته بالمملكة المتحدة والدولة العثمانية
اتّسمت علاقته بهما بالواقعية، فقد كان يخشى على إمارته من المملكة المتحدة، خشيته من الدولة العثمانية، اذ لكلتيهما مصالح استراتيجية في المنطقة العربية. كانت بريطانيا، هي الدولة ذات الهيمنة التامة والنفوذ المسيطر، في منطقة الخليج العربي. ولم تكن تسمح لأي قوة أخرى، أوروبية أو محلية، بتهديدها أو منافستها.
سعى ابن سعود الى استمالة بريطانيا، الى جانبه، ضد أطماع الدولة العثمانية. وفي ابريل 1914، يئس من الحصول على موقف بريطاني يسانده، لذا بدأ بمفاوضات مع وفد عثماني، يمكن ان يطلق عليها مفاوضات بغرض الحصول على مكسب تكتيكي من العثمانيين. فاعترف لهم بالسيادة المطلقة على نجد والأحساء، مقابل ان يُدعى "والي نجد".
لفت هذا الموقف نظر البريطانيين الى ما كان ابن سعود يأمل فيه، فكانت إشارة واضحة لهم، أنه قادر على فعل ما يريده من دون مساعدتهم، وأن من مصلحتهم مساندته. وأن لديه الشجاعة، كذلك، ليقبل أي تراجع ارتداد، على المدى القصير، اذا كان يحقق مكاسب، على المدى الطويل.
وبعد ازدياد نفوذه في منطقة الخليج، على اثر استرداده الأحساء، وتخلصه من العثمانيين فيها، وبزوغه قوة مجاورة لمنطقة النفوذ البريطاني، كان لا بد لبريطانيا من الاعتراف به، والتعاون معه، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى. فعقدت اتفاقية، في ديسمبر 1915، تعهد ابن سعود، بموجبها، عدم إبرام معاهدات مع أي دولة اخرى، ولا يبيع ولا يؤجر المناطق التابعة له، ولا يمنح امتيازاً، إلا بموافقة بريطانيا. ويتعهد، كذلك، بحرية المرور في مناطقه، وحماية الحجاج، ويتحاشى الاعتداء على أقطار الكويت والبحرين ومشايخ قطر وسواحل عُمان، المشمولين بالحماية البريطانية، وألا يتدخل في شؤون تلك المناطق، وذلك في مقابل، اعتراف بريطانيا بأن نجداً والاحساء والقطيف والجبيل وتوابعها ومراسيها على الخليج - هي بلاد ابن سعود وآبائه، وتعترف به حاكماً عليها، وتوفر له الحماية، وتعينه اذا اعتُدي عليه من قبل أي قوة خارجية.
ووفق هذه المعاهدة، تسلم ابن سعود من السلطات البريطانية، الإرسالية الأولى، ألف بندقية، و20 ألف جنيه استرليني. كما سمحت له بالتزود بالذخيرة، مباشرة، من سوق البحرين. وهو ما كان في مسيس الحاجة اليه، في ذلك الوقت.
وفي عام 1916، زار البصرة، واجتمع الى المندوب السامي البريطاني في العراق، السير برسي كوكس، لاستكمال المحادثات، التي جرت بين الجانبين، في العام السابق، بعد ان قُتل صديقه، الكابتن شكسبير، في معركة جراب.
وفي عام 1917، ارسلت بريطانيا بعثة خاصة، كان من أهدافها حث الملك على أعمال عسكرية ضد ابن رشيد، للضغط على الدولة العثمانية، وتعزيز الحملات البريطانية في المنطقة، وتحسين العلاقة بين الملك والشريف حسين.
وفي منتصف 1919، تمكن ابن سعود من نزع فتيل ما كان، يُعد وقتها، قضية دولية، شملت الحجاز والمدن المقدسة. فقد كان الطريق مفتوحاً أمام قواته الى المنطقة الغربية كلها، التي يحكمها شريف مكة، إلا ان السلطات البريطانية، اعترضت، وأرسلت إليه إنذاراً. فقِبل الإنذار، مقابل حصوله على امتيازات قيّمة من بريطانيا، والتي ساعدته على سيطرته على الحجاز كله، عام 1924.
وفي 20 مايو 1927، وقعُت اتفاقية جدة وبمقتضاها، اعترفت بريطانيا بالاستقلال التام لممالك صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.
وفي عام 1945، كان حريصاً على الاجتماع الى رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، ووزير خارجيته، أنتوني إيدن، في القاهرة.
سيداتي، سادتي.
يتبين ان الملك عبدالعزيز، كان حريصاً على علاقات وثيقة ببرىطانيا، لإدراكه أنها القوة المهيمنة، في ذلك الوقت، على مقدرات المنطقة، وأن عدم مهادنتها، سيعوقه عن تحقيق استراتيجيته، ومن الحكمة ألا يصطدم بها، بل عليه ان يستفيد منها، حماية وإمداداً بالأموال والسلاح والعتاد. وكان على يقين، ان لكل شيء ثمناً، أي كان يقدر أهمية المصالح المتبادلة، شريطة ألا تضر بمصالحه.
علاقاته بالولايات المتحدة الامريكية
ادرك إبن سعود، بعد الحرب العالمية الاولى، ثقل الولايات المتحدة الامريكية، واهمية دورها المنتظر. ولكن منطقة الخليج، كانت بعيدة عن اهتماماتها، فأطلقت يد بريطانيا فيها. وكان يتمنى ان يستميلها اليه، لتكون عنصر توازن. من هذه الرؤية الاستراتيجية، حرص على اعترافها بحكومته، الذي تحقق في مايو 1931، وعقد اتفاقية تبادل الدبلوماسيين، في 7 نوفمبر 1933، ومنح شركة ستاندارد اويل اوف كاليفورنيا، حق التنقيب عن النفط، عام 1933، يحدوه على ذلك، حرصه على الحصول على هذا المورد المالي، فضلاً عن أن الولايات المتحدة تملك خبرات، تقنية وفنية هائلة، تفوق تلك البريطانية، وهي بلد ليس له ماض او تطلعات استعمارية في المنطقة. وبنظرته الاستراتيجية، ادرك ان الولايات المتحدة ستكون عنصر توازن، في المستقبل.
كما حاول إقامة علاقات شخصية بينه وبين رئيسها، فرانكلين روزفلت، وإقناعه بالقضايا العادلة للعرب، خاصة عندما استشعر الانحياز البريطاني السافر الى اليهود، في فلسطين. فتبادل الرسائل مع الرئيس الامريكي، وحرص على الاجتماع اليه، على ظهر الطرّاد "كوينسي" في مياه البحيرات المرّة، في قناة السويس، في 14 ديسمبر 1945.
علاقاته بألمانيا
انتهج الملك سياسة الانفتاح على العالم، محاولاً إحداث نوعٍ من التوازن الاستراتيجي، في منطقة الخليج. وشملت سياسته الاتجاه الى المانيا، لتأمين مصادر اخرى للسلاح. وعقد معها، في 26 ابريل 1929، اتفاقية صداقة، وزارها الأمير فيصل، عام 1932.
غير ان الحرب العالمية الثانية، اقنعت ابن سعود بأن المانيا أمست في طور النهاية. لذا، قرر في مارس 1945، التخلي عن حياده، وإعلان الحرب عليها وعلى اليابان. حملته على ذلك رغبته في الاستفادة من الترتيبات الدولية، التي توقّع انها ستنشأ عن نتائج الحرب.
علاقاته بإيطاليا
أقنعت واقعة الاحتلال الإيطالي للحبشة الملك عبدالعزيز بعدم جدوى الاعتماد على ضمانات امنية، بريطانية او ايطالية. لذلك، لم يعادِ ايطاليا، وهي تمدّ اليمن بالسلاح، وتعقد معه اتفاقيتين ثنائيتين، في عامي 1927 و1934. وكانت نتيجة دبلوماسية ابن سعود، وجود قنصلَيْن لإيطاليا، في جدة.
واعترفت ايطاليا بالملك وحكومته، في 10 فبراير 1932، بموجب اتفاقية الصداقة والتجارة. وفي عام 1935، بعد اعتداء ايطاليا على الحبشة، اصدرت عصبة الامم قراراً بمقاطعة ايطاليا. ولكن الملك عبدالعزيز، لم ينفّذ القرار، وبقي على الحياد، ولم يقاطعها. وابتعث، للمرة الاولى، دفعتين للتدريب على الطيران، الى ايطاليا، ورحّب بالوفد الايطالي الزائر، والمزمع على شراء اعداد كبيرة من الجِمال، مقابل الحصول على الاسلحة. وعدّها الملك صفقة اقتصاديه بحتة. وفي عام 1939، وُقّعت اتفاقية اخرى مع ايطاليا، لإمداد المملكة بالسلاح والذخيرة.
الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية
يجدر بنا، قبل الانتقال الى تكتيكاته في خوض المعارك، ان نتذكر انه كان لا يتردد في التضحية بمكاسب تكتيكية، في المدى القصير، لتحقيق نصر استراتيجي نهائي، في المدى الطويل. اي انه قد يخسر معركة، ليكسب حرباً. حقاً، كان له، في كل خطوة، استراتيجية وتكتيك.
كانت اهدافه، اولاً، استرداد كافة الاراضي، التي كانت تحت الحكم السعودي، من قبل، بدءاً من الدولة السعودية الاولى. كان يسعى الى بناء دولة حديثة مترامية الاطراف.
في تخطيطه للحملات، كان حريصاً على عدم فتح غير جبهة، في وقت واحد، وهو درس كان على المانيا ان تستوعبه، في الحرب العالمية الثانية.
في التكتيكات، كان ابن سعود يقدّر الموقف، بناء على ثلاثة عوامل رئيسية: الوقت والمسافة ومقارنة القوات. فالوقت والمسافة، يحددان المنطقة الملائمة للقتال. اما مقارنة القوات، فهي تطمئن القائد، اذا كانت في مصلحته، او تجعله يُعمل الفكر العسكري لتعويض النقص في هذه المقارنة، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة!
أدرك ابن سعود اهمية تطبيق مبادئ الحرب، خاصة المفاجأة والخداع، والمبادأة، وعدم فقدها، فضلاً عن اقامة مواصلات جيدة مستمرة.
وكان يعتقد في ضرورة الإلمام بكافة المعلومات عن خصمه، اسلحته وامداداته، والاهم، العادات الاجتماعية والممارسات اليومية، للقبائل المضادة، كان يدرس المعركة، من جميع جوانبها، وكان يمارس ما يسمى اليوم "تحضيرات المعركة". كان يدرك اهمية الحرب النفسية، والدعاية والإعلام، فشرعت فرق استطلاعه تنشر القصص عن خصومه، وما يقترفونه من قتل للنساء والاطفال، وهو ما يحدث، احياناً، في حرب الصحراء. وكان يدين اعداءه، عند اقدامهم على فعل ذلك.
كان ابن سعود يوصي، بشدة، بالشرف في القتال، فالعدو يجب هزيمته، ولكن من دون انتهاك لشرف اسرته، او عرض نسائه.
كان يدرك أهمية التسليح في الحرب، فحدّث انظمة اسلحته، وحصل على الرشاشات، بأنواعها المختلفة، والعربات المدرعة، التي استُخدمت افضل استخدام.
ننتقل، الآن، إلى عدد من الدروس المستفادة، من استراتيجيات وتكتيكات المعارك العديدة، التي خاضها الملك عبدالعزيز.
الرياض وما تلاها من معارك
وراء استرداد الرياض والاستيلاء على حامية المصمك، اسرار وخفايا اكثر بكثير مما روي عن استعادة الحصن، عام 1902.
فقبل عام واحد من ذلك، نفّذ ابن سعود ووالده، كلّ على حدة، اختراقات عميقة، في صحراء نجد، قادمين من الكويت. وكان لهذه الحملات، التي طغت عليها سمة "الاستطلاع المسلح" او "الاستطلاع بقوة" مردود كبير في الحصول على معلومات قيّمة، استخدمها ابن سعود في التخطيط لهجومه.
ففي حملته الاستطلاعية، عام 1901، طبّق ابن سعود مبادئ الحرب، من السرية والمفاجأة، والحشد والمرونة، والخداع وخفة الحركة، واستخلص منها دروساً عدة، مثل: دراسة طبوغرافية مسرح العمليات المنتظرة، واسلوب الدفاع عن الرياض، وأنجح الطرق لاختراقه، والاتصال بالقبائل الموالية، مما كان له كبير الأثر في التخطيط للمعركة التالية، وتحقيق النصر.
اما معركة استرداد الرياض، في يناير 1902، فهي معركة قادها بنفسه، اثناء هجومه على حامية المصمك، واستخدم فيها اسلوب الحرب الخاطفة، ونفذت كإغارة. ولولا ذلك، لما نجح عبدالعزيز في القضاء على حاكمها عجلان، وهزيمة القوات المدافعة.
وفي معاركه اللاحقة، حول الرياض، أصرّ ابن سعود على تأمينها، باستكمال سورها وتحصيناتها، وتخزين المؤن، تثبيتاً لها في مواجهة الحصار، إذا حدث أثناء وجود قواته الرئيسية خارج المدينة. فضلاً عن ذلك، سعى ابن سعود الى ضم القرى والعشائر الى جانبه، ليس بحد السيف، وانما باستمالتها الى العمل معاً، للعودة الى أصول الإسلام الحنيف. وكانت تلك خطة ناجحة، استجابت لها قبائل شبه الجزيرة العربية.
كما كان يستخدم قواته، بذكاء، في صورة "استعراض للقوة"، أقنعت ضعاف القلوب أن استسلاماً، من دون إراقة دماء، هو أفضل من معركة، لا هدف لها، ذات نتيجة معروفة سلفاً.
وإزاء شتى الاحتمالات، كان يترك فصيلاً من الجنود، في كل قرية تناصره، لتنظيم الدفاع عنها وإعدادها لمقاومة أي هجمات مضادة، من قوات معادية موالية لابن رشيد.
معركتا البكيرية والشنانة
لم تشأ الدولة العثمانية، أن تساند ابن رشيد، عسكرياً، في بداية ظهور ابن سعود، ولكن النجاحات السريعة، التي حققها، أشعرتها بخطره. فوافقت على إمداد حليفها بمعونة، عسكرية ومالية.
بهذه الإمدادات، انطلق ابن رشيد من حدود العراق، في أواخر عام 1904، نحو القصيم، ومعه القوة العثمانية. وكان عبدالعزيز، يتابع تحركات خصمه وقوّته، للبحث عن فرصة مواتية. وعند اللقاء، انتصرت حكمة ابن سعود ومهاراته في التخطيط، وانجلت معركة الشنانة عن هزيمة ابن رشيد والعثمانيين، مخلفين وراءهم عدداً من المدافع، وكثيراً من الأسلحة وصناديق الذهب. وفي كلتا المعركتين البكيرية والشنانة، طبّق ابن سعود مبدأ الحشد، في مواجهة الخصم، وسارع الى السيطرة على المواقع المهمة الحاكمة، بتنفيذ المناورة وخفة الحركة. واعتمد على أن قواته تقاتل في أجواء اعتادتها، وعلى أرض ألفتها، وتدافع عن أرض تخصها، بينما الجنود العثمانيون، يحاربون في ظروف، طبوغرافية ومناخية، لم يألفوها، ومن أجل قضية، لا تهمهم. كما أن طول خطوط إمداد قوات الخصم، كان عاملاً مساعداً على إضعافه.
معركة روضة مهنا
خلال حملاته، كان ابن سعود قائداً جريئاً مقداماً، فكان يتابع قوات خصمه، ويتحرك خلفها في وثبات، متحيناً الفرصة لمهاجمتها، فضلاً عن الاستفادة من مفارز الاستطلاع والمفارز المتقدمة.
وفي أبريل 1906، علمت القوة الرئيسية، بقيادة عبدالعزيز، وهي في الثويرات، أن قوات خصمه، في راحة عقب إحدى إغاراتها، وتعسكر في روضة مهنّا، فأسرى بقواته، في أحوال جوية قاسية، الى أن وصلها، محققاً المفاجأة. ومنع قوات خصمه من الحركة، وقتل قائدها، فتولى بعده ابنه، الذي اثر عقد صلح مع عبدالعزيز، تنازل له، بموجبه، عن حقوقه في ولاية القصيم وسائر بلاد نجد، مقابل الاعتراف له بالإمارة على حائل، وما يحيط بها من بلاد شمر.
فتح الأحساء
وفي فتح الاحساء، 1913، كان يواجه القوات العثمانية، التي يسعى لإخراجها، من دون إغضاب الدولة العثمانية، أو الدخول في قتال مباشر معها. هذه المنطقة التي لم يتخيل أحد، وقتئذ، أنها ستكون أغنى بقاع الأرض، إذ تحتوي على آبار النفط في المنطقة الشرقية.
كان يدرك أن عليه هزيمة الحامية العثمانية، في الهفوف، من دون تدخّل قوات عثمانية أكبر حجماً، في هجوم مضاد، أو للثأر من هزيمتهم.
كما كان البريطانيون من العوامل المهمة، التي يجب ادخالها في الحسبان، لأن ابن سعود، يحاول تغيير الوضع القائم في المنطقة الشرقية، مما قد يهدد مصالحهم.
فابتكر عدة استراتيجيات. فبعد أن عسكرت قواته أمام الهفوف، بعث الى المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي، السير بيرسي كوكس، في الوقت نفسه، يخبره أنه جاء لاستعادة أرض آبائه، إذ استولى العثمانيون على الهفوف عام 1871. فأجابه البريطانيون، انهم سيظلون على الحياد، ولن يتدخلوا.
ومخادعة لخصمه، زعم أنه لم يأتِ إلا لتموين الجيش، وأنه سيرجع. وبالفعل، رجع، وحده، الى الرياض. ثم عاد للانضمام الى قواته، التي نجحت في محاصرة الحصون العثمانية، وتسلّقت الأسوار، ليلاً. وسقطت تلك الحصون.
وبعد تحقيقه النصر، بسرعة الحركة والمفاجأة عرض على العثمانيين انسحاباً مشرّفاً، فقبلوه، ومُنحوا طريقاً آمناً الى البحرين. ويسجل التاريخ، أنه اليوم، الذي لم يتدخل البريطانيون في معاركه، ورحل العثمانيون، ونجح ابن سعود في احتلال الهفوف، من دون قتال يذكر.
وتعدّ هذه المعركة من أهم المعارك في تاريخ توحيد المملكة. وقد يقول البريطانيون، ان ابن سعود، حصل على كل ما يتمناه Hit for Six.
فتح حائل
أما في فتح حائل، عام 1921، فقد استخدم أرقى أنواع الخطط الهجومية، التي تتميز بالذكاء والمرونة وخفة الحركة. فقد دفع، في النسق الأول، مجموعتي قتال: الأولى، تتجه الى الشمال الغربي، نحو شمر، تتحين الفرصة لمهاجمتها، واحتلالها. والثانية، تتجه الى الغرب، نحو حائل، لتهاجمها، حتى تحتلها مباشرة أو بعد حصارها. وفي النسق الثاني: القوة الرئيسية بإمرته، وتبقى في القصيم، مستعدة لاستغلال النجاح والتطوير، في أي من الاتجاهين السابقين. اضافة الى احتياطي خفيف الحركة، لتنفيذ أي مهام خاصة.
ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة، أهمية تكوين القوة في أنساق، وعدم دفع القوة الرئيسية، قبل اتضاح نية العدو.
الخاتمة
سيداتي، سادتي.
كانت تلك نظرة سريعة موجزة الى الاستراتيجيات والتكتيكات، التي طبّقها الملك عبدالعزيز، في تأسيس المملكة العربية السعودية. انها تاريخ مشرّف لقائد عظيم.
تقديري الكامل لمعهدكم العلمي الرفيع، لعقده هذه الندوة، وأسفي العميق لعدم وجودي بينكم، لتقديم بحثي هذا.
إنني على ثقة، أن المتحدثين، اليوم، من صديقي، القائد السير بيتر دي لا بليير، الى المشاركين من بلدي، سيقدّمون صورة واضحة، وفهماً عميقاً، لأول ملك للمملكة العربية السعودية، المقاتل الشجاع، والسياسي المحنّك.
شكري العميق لكل من شارك في هذه الندوة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.