بأبي أنت وأمي يا رسول الله، يا من بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وكشف الله بك الغمة وجاهدت في الله حق جهاده. كم تحملت في سبيل كلمة الحق، حتى ننعم بهذا النور، فكان من أصعب المواقف أن اجتمع على الحبيب المصطفى جحود قومه وحصارهم له، ثم فقد الأوفياء، عمه الذي يذود عنه في القريب والبعيد، والسيدة خديجة الكبرى حبه الذي ما زال يشد أزره ويخفف عنه، حتى رأينا حبيبنا الأعظم يشتكي لأول وآخر مرة في هذا الموقف العصيب فيقول: «مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ». وفي ذات السنة سافر الحبيب بدعوته إلى الطائف ماشيا على قدميه لعله يجد هناك من يستجيب، فقُوبل بأسوأ مما قُوبل به في مكة، فدعا دعوته المشهورة: «اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي....» ويُسخّر الحق تعالى ملك الجبال ليأتمر بأمر المصطفى فيقول له: «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ»، فتتجلى الرحمة المحمدية التي جَبَلَهُ عليها ربه فيقول: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا». ويأبى رب العزة إلا أن يجعل لحبيبه تسرية وتثبيتا يتناسب مع عبوديته الكاملة الخالصة، ورحمته ورفقه بأمته، فيدعوه إلى رحلة سماوية، وحضرة قدسية، وسدرة منتهى، ورتبة تتقاصر دونها الرتب. وبعيدا عن النزاع العلمي حول روايات الإسراء والمعراج، وكونه بروحه أم بجسده وروحه، فهي عطاء منسوب لمالك الملك القدير على كل شيء، لأحب خلقه وأكرمهم عنده، فلا شيء يُستغرب على قدرة الله، ولا شيء يُستكثر على فضل الله لرسوله. والذي يهمنا أنها حادثة ثابتة بنص القرآن الكريم، وصحيح السنة النبوية، فنتعلم منها، ونعتبر بما ورد فيها، ونستفيد منها أن بشرية النبي قرنت بعطاء كبير لا حد له، فالإسراء والمعراج خرقٌ لنواميس الكون، وتجاوز للمعتاد، وتلك صورة إن رسخت في ضمير المؤمن قَدَرَ النبي حق قدره، وعَرَفَ له عصمته وخصوصيته بين البشر. وقد جعل الله الإسراء تمهيدا للمعراج، فكانت رحلته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تجهيزا لعقل الإنسان ليستطيع تقبل ما بعدها، فجعل لها شواهد وأدلة قاطعة، جاءت في وصفه للمسجد وصفا دقيقا يعرفه من ذهب من قريش إلى هناك، وأخبرهم بالقافلة التي رآها في طريقه ووقت وصولها إلى مكة، ووصفها لهم وصفا دقيقا لا يدع مجالا للشك. ليأتي بعد ذلك المعراج وهو رحلة غيبية لا يحصل تصديقها إلا بالإيمان برسالة النبي. فكأن الله تعالى خاطب بشرية الناس وعقولهم بالإسراء وما فيه من شواهد عقلية، ثم خاطب قلوبهم وأرواحهم بالمعراج وما فيه من إيمان بالغيب. وجاءت رحلة المعراج لتحقيق غايتين: الأولى: إدخال السرور على قلبه وتكريمه وتبيان مقامه. الثانية: تعليم أمته، وتلقي عطاءات الله لها. فكشف الله لنبيه عن العوالم السماوية وما فيها من عجائب وأسرار، وجاءت الرحلة كلها تَدَرُّجا لتَبيِين مقامه، ابتداء من لحظة ركوبه البراق لمَّا جاء به جبريل عليه السلام «مُسَرَّجًا مُلَجَّمًا فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَوَاللَّهِ مَا رَكِبَكَ خَلْقٌ قَطُّ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، فَارْفَضَّ عَرَقًا». ثم يرى النبي خلال الرحلة مكانة جبريل عليه السلام واستفتاحه أبواب السماوات، وعظيم قدره بين الملائكة، حتى يصل إلى سدرة المنتهى فيتوقف جبريل بكل ما له من فضل حتى قال النبي: «مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى».، ويكرم الله تعالى نبيه بمناجاته وملاطفته وإجزال العطاء له ولأمته، في مقام لم يكن لغيره. ثم نلحظ علو مقامه الشريف عند ربه عز وجل بعد بلوغه سدرة المنتهى، وما له من دلال عليه، تجلى في مراجعته ربه عدة مرات لتخفيف الصلاة على أمته، ولم يوقفه عن المراجعة بعد أن صارت خمس صلوات إلا حياؤه. وجاءت رحلة المعراج مليئة بالمنح والمشاهد التي فيها ردع للأمة وتشجيع لها، فكانت رحلة كلها بركة ورحمة. فالبشارة بنهر الكوثر رحمة، وتخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس رحمة، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها رحمة. وحتى ما ورد في الرحلة من مشاهد العذاب كان رحمة، فقد صورها لنا النبي كأننا نراها، رحمة بنا من أن نقع فيما يوجبها. وبعد انقضاء هذه الرحلة بكل تفاصيلها، يأتي دور التبليغ وما فيه من معاناة وصعوبة، فكيف للعقل البشري أن يصدق قصة خارقة للعادة مثل هذه، وفي هذا الموقف تتجلى طاعة النبي لربه في القيام بأمر البلاغ مهما كانت العواقب. فقعد النبي في اليوم التالي معتزلا حزينا لمعرفته أن القوم سيكذبونه، وكان من زيادة التمحيص مجيء أبي جهل إليه فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله: «نَعَمْ». قال: ما هو؟ قال: «إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ». قال: إلى أين؟ قال: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟» قال: ثم أصبحتَ بين ظَهْرَانَيْنَا؟ قال: «نَعَمْ». قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «نَعَمْ». فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ». قالوا: إلى أين؟ قال: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ». قالوا: ثم أصبحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟.." إلى آخر الحديث الذي نعت فيه النبي بيت المقدس ودلل على صدقه بما لا يدع مجالا للشك. وكان يسع النبي أن يبدأ بالمقربين منه ممن يعرف تصديقهم إياه، ولكنه بلاغ وأمانة لا يستطيع إلا أن يؤديها عن ربه حق الأداء، فلم يكتم البلاغ عن أبي جهل، مع علمه أنه سيكذبه، ونرى خبث أبي جهل حين قال للنبي: «أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟» ومع أنه كان أقوى الناس فطنة، ويعلم مقصد هذا الخبيث، إلا أنه وافقه على إعادة القصة على مسامع قريش أداءً لحق البلاغ، ومسؤولية الرسالة، فلا يراه الله إلا معليا للحق في كل لحظاته وأحواله. ولتكون هذه الرحلة في النهاية تمييزا بين قوم زاغت قلوبهم ولم تتسع لنور تصديق الحبيب، وصديق صدوق، محب فان لسيد الخلق جاءوا ليفتنوه في صاحبه فأعلنها مدوية: «إن كان قال فقد صدق». فهو يعلم أنه الصادق الأمين ويصدقه في خبر السماء، والعهدة في التصديق أن يكون قد قالها صلى الله عليه وسلم. وهذا هو ميزان التثبيت والتأييد للحبيب، ففي مقابل جحد من جحدوا يأتي تصديق من إيمانه يعدل بإيمان الأمة ومكانته عند الحبيب المصطفى لا تجارى ولا تبارى. وستظل دروس وذكرى هذا الفضل الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائما في أذهاننا نتعلمه ونعلمه ونتمثل منه القيم ونستشعر فضل الله لخلقه بما أكرم به نبيه صلى الله عليه وسلم. والمؤمن حين يقف بين يدي الله خمس مرات كل يوم يقف متأدبا متمثلا قوله صلى الله عليه وسلم: «أرحنا بها يا بلال» وقوله صلى الله عليه وسلم على لسان الحق: «ارفعوا الحُجُبَ بيْني وبين عبدي» فيحصل الخشوع والوصل بين العبد وخالقه، وصل العبودية والمحبة والحياء. ويأتي التشهد الأخير في حوار للعبد مع خالقه متمثلا المعاني الجميلة التي جاءت في فيوضات قاب قوسين أو أدنى، فنخرج جميعا من الصلاة مستشعرين هذا الرباط وهذه العبودية وهذا السقف المنيف العالي من العطاء، فنسير في أمور حياتنا لتحقيق مراد الحق، في فخرٍ بالعبودية، ومحبةٍ هي أصل الأشياء. اللهم يا من أسرى بعبده فضلا وكرما، وعرج به حتى كان في الأفق الأعلى، صل عليه وعلى آله صلاة كما تحب وترضى، يا حي يا قيوم، وسلم تسليما كثيرا. *كاتب سعودي