حسناً فعل بعض الكتاب والمعلقين العرب حين فتحوا باب النقاش العلني حول قضية ما يسمى الخلافة الجمهورية أو الجمهوريات الوراثية والاستعدادات، الظاهرة منها والمستورة، التي تجري في بعض الجمهوريات العربية لتولية أبناء رؤسائها سدة الحكم بعد رحيل آبائهم عنها. ورغم أن ما ظهر من هذه الكتابات حتى الآن تُشتمّ منه رائحة التأييد والمباركة، العلنية منها والضمنية، وهو أمر مفهوم لا تخفى دلالاته، فإن الاقلام القليلة التي تناولت الموضوع على صفحات الجرائد لا بد أن تستحق الثناء لأنها بذلك تكون ايقظت الاهتمام بقضية جوهرية لم تأخذ حقها من النقاش العلني حتى الآن على رغم أنها اصبحت حديث العامة والخاصة على طول العالم العربي وعرضه. والواقع أن هناك وجهاً للغرابة لم يعد يحتمل تجاهله، وهو أن قضية بهذه الأهمية لم يتم فتحها للنقاش العلني بالرصانة والجدية المطلوبتين من جانب المعنيين بالشأن العام في عالمنا العربي، من كتاب ومثقفين وسياسيين واحزاب، ما قد يعني أحد أمرين، فإما أن مفكرينا وسياسينا وكُتابنا لا يأخذون الأمر بجدية، مستخفّين بما يقال وبما يجري من تهيئة ذهنية ومادية باعتباره مجرد شطحة من شطحات خيال الانظمة الحاكمة التي لن يكتب لها النجاح وبالتالي لا تستحق منهم جهد المتابعة وعناء التحليل والأهم التصدي لها، أو أنهم على العكس من ذلك، يتعاملون معه بلا مبالاة حين يرون أن الأمر، شأنه شأن تولي الانظمة ذاتها الحكم في غفلة من الزمن، قدر وأمر مفروغ منه لن ينفع معه أي تحليل أو دراسة ناهيك عن الاعتراض او المواجهة. لكن اياً كان السبب فإن النيات التي كشف عنها بعض الأنظمة العربية، بل الخطط التي يبدو أنها سائرة عليها بتؤدة، ولكن بإصرار، لتوريث سدة الحكم فيها لأولاد رؤسائها، لا بد أن تثير الاهتمام، إن لم يكن القلق، من جانب اولئك المعنيين بقضية الديموقراطية ومستقبلها في العالم العربي وبخاصة مجتمعاته المتطلعة لأن تشهد المراحل المقبلة انفراجاً في أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لبدء عصر بناء الدولة الحديثة القائمة على الشرعية الدستورية والوطنية والاختيار الحر والمشاركة الحقيقية والتعددية السياسية والعدالة الاجتماعية والمساواة في المواطنة. فالمطلوب، إذن، كتابات لا تزين للأنظمة غيّها وتبارك لها مغامراتها ولا تخدع الجماهير بالاوهام بذريعة الواقعية والاستمرارية والحفاظ على الاستقرار والسلم الاجتماعي الذي يدعي تحقيقه، بل الدخول في نقاش سياسي فكري جدي لتبيان الخطورة التي ينطوي عليها هذا الابتكار العربي الجديد، نظام الجمهورية الوراثية، على مجمل العملية التاريخية الجارية في عالمنا العربي، وفي القلب منها مسألة الديموقراطية التي هي الركيزة الأهم والأكثر الحاحاً للتقدم والتحديث. يطرح دعاة تأييد الجمهورية الوراثية مباركتهم للفكرة من زعم ملاءمتها الواقعية للحالة التي يمر بها عالمنا العربي، وهي من وجهة نظرهم ابتكار خلاق ومنطقي لمواجهة الواقع الذي راكمته هذه الانظمة الجمهورية التي جاءت الى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية، معظمها ضد أنظمة ملكية وراثية، وبقيت ممسكة بناصية الحكم من خلال توليفة من الاساليب القهرية والمهارات السياسية والدعوات الشعبوية التعبوية، لكنها ظلت هشة الى حد كبير، لسبب رئيسي هو الشكوك التي حامت ولا تزال تحوم حول شرعيتها وجدواها. فالملاحظ أن مؤيدي هذا الاتجاه، أو على الاقل من أفصح منهم عن رأيه حتى الآن، يقولون إن واقع الحال يشير الى أن هذه الانظمة ليست جمهورية بالمعنى الذي ينطوي عليه المفهوم السياسي المتعارف عليه سواء بطريقة الوصول الى السلطة او ممارستها بل هي أقرب، في واقع الحال وفي شكل نظام الموالاة الذي ركزته في المجتمع، الى أي شكل من أشكال الانظمة الأبوية التقليدية المعروفة. ويتمادى البعض من هؤلاء المنظرين للخلافة الجمهورية ربما يأساً وإحباطاً، إن لم يكن تملقاً، الى حد القول إن شعوب هذه الجمهوريات أصبحت تقبل بتلك الحال طواعية وعن اقتناع وتتعامل معها على أساس أنها أمر واقع لا ينبغي مقاومته أو تغييره. لكن هناك بين مؤيدي فكرة ولاية العهد الجمهوري ومروجيها من ذهب في النقاش الى مدى أبعد مما ذهب اليه دعاة القبول بخيار الامر الواقع الاستسلامي في الترويج لها، حين اسبغوا عليها إطاراً قانونياً وسياسياً فأفتوا بأن الأمر جائز، بل مطلوب، لأنه ضمان لاستمرار الشرعية التي استطاعت هذه الانظمة الجمهورية أن تنتزعها لنفسها والتي يزعمون انها قد تم اختبارها عبر تحديات داخلية وخارجية عدة وكبيرة مما أهلها، اضافة الى انجازاتها وكارزميتها، لتثبيت التجربة وترسيخ المنهج في التربة التي رعتها عبر توريثها الى أولاد رؤوسها باعتبارهم، حسب هذه النظرية، الأكثر قدرة على صيانة الامانة ومواصلة المسيرة التي بدأها اباؤهم. تتطلب فكرة الشرعية، التي يبني عليها دعاة التوريث نظريتهم بضرورة دعم الاتجاه ضماناً للاستمرارية، النقاش الجاد، لأنها تتجاوز الخفة التي تنطوي عليها دعوة الواقعية المضللة لدى التيار الأول وتؤسس نموذجاً لنظام سياسي إذا ما اتيح له ان يقوم فعلاً فإنه يعني إغلاق الابواب امام كل الاحتمالات والآمال المرجوة بالتطوير الديموقراطي عبر المشاركة الحقيقية في الحكم، بل الانزلاق الى مهاوي الفتنة. تقوم دعوة التوريث أساساً على فكرة توسيع مفهوم الشرعية في الفكر السياسي الحديث بإرجاعه الى مفهومه القديم وهو حق الولد الشرعي للملك في أن يرث والده في ملكه. وهي فكرة لم تعد تلقى قبولاً اليوم حتى عند الانظمة الملكية التي ترى ان الشرعية أصبحت تستمد من قبول الناس ورضاهم بالنظام وليس من مجرد الحق في وراثة العرش. فالشرعية بهذا المعنى الذي يروّج له تعود الى رأس النظام وليس الى نظام الحكم نفسه، وهي في حال الانظمة العربية المعنية مفهوم شديد التناقض مع الاسس السياسية والفكرية الشعبوية التي تقوم عليها هذه الانظمة، اضافة الى حقيقة أن الشرعية كحالة لا يمكن أن تأتي هبة أو إرثاً بل هي محصلة اقتناع الشعب واحترامه وطاعته، المتحققة ليس بالقدرة على فرض الإرادة بالقوة او بالاستمرارية والاتكال على الرموز الوطنية والقومية لوحدها بل بالحكم الصالح القائم على الدفاع عن الوطن والمواطنين ومصالحهم واحترام إرادتهم وعلى التنمية وتحقيق العدالة والمشاركة في المسؤولية وفي اتخاذ القرار. لذا يمكن القول إن الاختباء وراء حجة الشرعية لترويج فكرة الجمهورية الوراثية هي فكرة عرجاء لا تستند الى واقع لأن الشرعية التي يتحصنون بها قد واجهت هي نفسها ولا تزال تواجه تحديات كثيرة، بسبب الطريقة التي وصلت بها هذه الانظمة الى السلطة والظروف التي رافقت قيامها وساد فيها الاحتكار وتركز السلطة المطلقة وممارسة القوة، وغابت عنها اي مشاركة حقيقية أو فرص للتنافس والاختلاف. إن اقرب التحليلات الى فهم عملية الترويج لهذه الدعوات هي أنها تجري على خلفية المحاولات المستميتة لإعادة انتاج السلطة بعد الغياب المنتظر لمؤسسي الأنظمة من خلال تثبيت رموزها وإبقاء هياكلها وتجديدها وتطوير آلياتها والسيطرة على ميدان الصراع المتوقع على السلطة بعد غياب الاباء، كل ذلك من خلال عملية تطويع للجماهير وتهيئتها لقبول فكرة هدفها النهائي هو الإبقاء على الوضع القائم وتحصينه. ليس المقصود هنا نظاماً بذاته، ولا هي دعوة للتحريض او محاولة للمس بالسيادة، بل إن الكلام يجري عن ظاهرة سياسية هناك شواهد كثيرة على أنها تتسع لتشمل عدداً لا بأس به من الانظمة الجمهورية العربية تجري فيها الاستعدادات او على الاقل تُهيّأ فيها الاجواء لذلك، ما يستلزم حواراً رصيناً بدلاً من التسريبات الخجولة او الكتابات المنافقة والمضللة، خصوصاً أن القضية المطروحة للنقاش تتعلق بمسألة جوهرية ومصيرية يكفي للتدليل الى أهميتها أن قضية مماثلة حدثت قبل نحو اربعة عشر قرناً من الزمان حين ولى معاوية بن أبي سفيان الملك لابنه يزيد خلافاً لنظام الشورى والبيعة الذي سنّه الخلفاء الراشدون، لا تزال تلقي بظلالها الداكنة على مجمل حياتنا وجدالنا إن لم يكن على صراعنا الفكري والسياسي. لقد تناولت الصحافة العالمية هذا الموضوع بالكثير من الأخبار والتعليقات، ومن المتوقع أن يظل زاداً لكُتابها ومحلليها لفترة من الوقت. ولم يعد مستساغاً اللجوء الى استراتيجية النعامة من جانب صحافتنا العربية ومحافلنا السياسية بذرائع شتى، فلا يفسح في المجال الا للمهنئين وحاملي المباخر والمصفقين وحدهم. بطبيعة الحال لا احد يستهين بالمشاكل والاحتمالات المفتوحة التي تواجه العديد من الأنظمة العربية في موضوع تداول السلطة، بل إن ذلك هو في صميم إنشغالات ليس المعنيين بالشأن العام وحدهم، بل الناس العاديين ايضاً. لكن الازمات المستعصية لبعض الانظمة ومآزقها السياسية والوطنية لا يمكن أن توجد لها حلول من خلال إعادة انتاج السلطة برموزها وأدواتها ومن خلال تطويع الجماهير وتيئيسها ورفض الإقرار بمشروعية أحلامها وآمالها في أن يكون لها صوت في عملية صنع حياتها ومستقبلها في عالم يسير بخطى حثيثة نحو الديموقراطية والتعددية والمشاركة. لقد واجهت مجتمعات عدة في العالم النامي المعضلة التي يخلفها غياب زعامة تاريخية حقيقية بطريقة حضارية ومؤسساتية حظيت بإعجاب العالم بأسره، ولعل أبرز وأروع مثال على ذلك هو تنحي نلسون مانديلا عن زعامة جنوب افريقيا وهو من لا يستطيع أحد أن يجادل في شرعيته وإنجازه وكارزيميته، ليس على مستوى شعبه فحسب، بل على مستوى العالم برمته. من المؤكد اننا سنسمع اصواتاً تقول إننا لسنا جنوب افريقيا ولم يخرج من بيننا مانديلا، ولكن السؤال الذي لا يزال يقلقنا طرحه ويعذبنا الجواب عنه هو: لماذا لا يمكن أن نكون؟ * كاتب عراقي